رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مها الغيث

[email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

714

مها الغيث

الحداثة ومستقبل الذات الإنسانية

31 يوليو 2025 , 02:00ص

هل نهضة الحضارة الإنسانية نعمة كلها، أم أنها تخفي أفق مستقبل قاتم سيخلّف وبالاً على الإنسانية نفسها؟ فحينما يمتلك الإنسان الكثير ويستخدم الكثير يكون قد أضاع كينونته التي تناسى في خضم الماديات، كونها مركز نشاطه الإنساني الرئيس.. أو بمعنى آخر، أصبح ذا «كينونة ضئيلة».

هكذا يعتقد المؤلف، الفيلسوف وعالم النفس الألماني-الأمريكي (إيريك فروم 1900-1980). فالإنسان في نظره، وإذ هو يصنع المنتجات العصرية، يتحول بمرور الوقت إلى مجرد شيء خاضع لسيطرتها، ومع أنه (مجرد شيء)، فقد بات متضخم الأنا جرّاء توحّده مع تلك الأدوات وتلك المؤسسات، وتماهيه مع طوفان منتوجاتها الاستهلاكية!. 

إنها بالقطع علاقة عكسية التي اقتبس في شأنها (إيريك فروم) من فكر الفيلسوف الاشتراكي الألماني (كارل ماركس) وعالم الاجتماع الألماني الماركسي (فريدريك إنجلز) ما معناه: «بقدر ما تكون قليل الشأن بقدر ما يقل تعبيرك عن حياتك، وبقدر ما تكبر ملكيتك بقدر ما يزداد تغرّب حياتك، وكلما تعاظم رصيدك من كينونتك المتغربة».. غير أنه يؤكد أن «كينونتنا مهمة أكثر من ملكيتنا أو أكثر مما نستخدم». إن تلك الحالة -على حد وصفه- تجسّد (الصنمية العالمية الجديدة) وقد بدأت مع القرن التاسع عشر واستمرت حتى القرن العشرين بكثافة وسرعة متزايدة، والتي لا تدعو لعبادة إله جديد، بل تسفر عن موقف إنساني يضفي الطابع المادي على كل ما هو حي، يتقدمها الإنسان كذات أو ككينونة أو ككائن حي!

لذا، يقسّم الفيلسوف كتابه (كينونة الإنسان) إلى ثلاثة أجزاء رئيسية: (1-البديل الإنساني. 2-مبادرات واعترافات إنسانية. 3-إيكهارت وماركس حول الكينونة والتملك)، يتشعب من خلالها إلى العديد من المواضيع ذات الصلة، مثل: مستقبل الإنسان المعاصر، الاغتراب كعرض مرضي له، اللامبالاة كتمظهر جديد له، تفكك الأنظمة الاجتماعية، النضال ضد الصنمية، الملكية مقابل الكينونة، الدين والتصوف ومفهوم الإله. 

ففي موضوع (ما لا أحبه في المجتمع المعاصر)، يفضح الفيلسوف ذلك الإنسان الساعي نحو الإثارة بدلاً من السعادة، المتطلّع دوماً إلى التملّك أكثر من الرغبة في النمو والازدهار، والمتحرّق للإشباع الفوري وتلبية الحاجات بسعار يفوق الصبر على التعلم، فيقول: «أولاً، أود أن أعبر عن كرهي لحقيقة أن كل شيء وكل شخص تقريباً للبيع. ليس فقط السلع والخدمات بل الأفكار، الفن، الكتب، الأشخاص، القناعات، الشعور، الابتسامة.. كلها تحولت إلى سلع. وكذلك الإنسان كله، بكل جوارحه وإمكانياته. يترتب على ذلك أن قلة قليلة من الناس يمكن الوثوق بها. لا يقتضي هذا بالضرورة أني أقصد عدم النزاهة في العمل أو الاستخفاف بالعلاقات الشخصية، بل أقصد شيئاً أعمق. عندما يكون الإنسان للبيع، كيف تثق أنه سيكون غداً هو نفسه الذي تعرفه اليوم؟ كيف أعرف من هو، أو لمن سأمنح ثقتي؟ كيف أثق أنه لن يقتلني أو يسلبني؟ هذا، في حقيقة الأمر، تجديد للطمأنة، لكنه ليس موضع ثقة كبيرة».

يقوده هذا للاعتقاد بأن قلة قليلة من الناس تمتلك قناعات.. القناعات التي تمثّل آراء متجذرة في طبيعة كل شخص تشكّل إجمالاً شخصيته المتكاملة، والتي بدورها تحفّز على العمل! ومن هنا، لا يجد الجيل الجديد -رغم نزاهته في نظره- سوى مفتقر لجوهر حقيقي، قد نزع إلى امتلاك طباع تشكّلت بفعل الأنماط التقليدية السائدة من أجل التكيّف والاستمرار! يوضّح رأيه هذا وهو يؤكد على أن «أحد الأشياء الممتعة في العالم المعاصر هو نزاهة جزء كبير من الجيل الشاب»، قائلاً: «انهم يعيشون عاطفياً ويتكلمون فكرياً من الفم إلى اليد. يشبعون حاجاتهم فوراً، وهم قليلو الصبر على التعلم، ولا يستطيعون احتمال الإحباط ببساطة، وليس لديهم أية نقطة مركزية في ذاتهم، ولا إحساس بالهوية. إنهم يعانون من هذا ويرتابون في أنفسهم، في هويتهم، وفي معنى الحياة. لقد صنع بعض علماء النفس فضيلة من هذا الافتقاد للهوية. يقولون إن هؤلاء الشباب لديهم (طبعاً متقلباً)، يسعون إلى كل شيء، ولا يرتبطون بأي شيء. لكن هذه مجرد طريقة شعرية في الحديث عن افتقاد الذات التي تحدث عنها سكينر، وأقصد (الهندسة البشرية) التي وفقاً لها يكون الإنسان ما هو مخطط أن يكونه».

علاوة على هذا، يعبّر عن كرهه لحالة الضجر العام السائدة وانعدام شعور السعادة! فبينما يبدو الناس في نظره غير مهتمين بما يعملون، يظهر النظام الاقتصادي بدوره غير مهتم بعدم اهتمامهم ذاك، فيعقد الأمل على إيجاد طرق للاستمتاع والترفيه وقطع الرتابة بشكل أكبر مما كان متاحاً للجيل القديم، كحافز وحيد وضروري للإقبال على العمل، وكتعويض عن أي ضجر ملازم. لكنه من جديد، يعقد علاقة نفسية متضاربة بين هذين المتغيرين، فيقول: «إن وقت فراغهم ووقت تسليتهم من جهة أخرى، يبعث على الضجر. وبقدر ما يدار وقت فراغهم من قبل صناعة التسلية تدير المنشآت الصناعية وقت عملهم. فالبشر يبحثون عن المتعة والإثارة أكثر مما يبحثون عن البهجة، يبحثون عن السلطة والملكية بدلاً من البحث عن النمو، يريدون أن يملكوا الكثير ويستخدموا الكثير.. بدلاً من أن يكونوا هم الكثير».

مساحة إعلانية