رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. قيس عبدالعزيز الدوري

مؤرخ ومستشار أكاديمي

مساحة إعلانية

مقالات

39

د. قيس عبدالعزيز الدوري

قطر.. حين يصبح الانسجام قوة ويغدو الجذب قدراً

30 ديسمبر 2025 , 01:24ص

ليس من الضروري أن يولد التأثير من الصدام، ولا أن تُصنع المكانة من الضجيج. فبعض الدول لا تتقدّم لأنها تدفع العالم نحوها، بل لأنها تجعل العالم ينجذب إليها. من هنا، يصبح السؤال مشروعًا لا بوصفه استفزازًا فكريًا، بل بوصفه محاولة للفهم: كيف استطاعت قطر، خلال زمن قصير نسبيًا، أن تتحول من كيان محدود الجغرافيا إلى مركز تأثير يتجاوز معايير الحجم والعدد؟

هذا السؤال لا ينتمي إلى حقل السياسة المباشرة، ولا يسعى إلى إصدار حكم مسبق، بل يتحرك في مساحة أوسع: مساحة المعنى. فحين نتأمل التجربة القطرية، نلاحظ مفارقة لافتة بين محدودية المساحة واتساع الحضور، وبين قلة السكان وكثافة الدور. هذه المفارقة لا يمكن تفسيرها فقط بعوامل الاقتصاد أو الطاقة أو الإعلام، لأنها – رغم أهميتها – أدوات، وليست أصل الظاهرة.

الأصل، في تقديري، يكمن في ما يمكن تسميته قانون الجذب المتزن. وهو ليس ذلك الفهم السطحي الذي يربط الجذب بالرغبة أو التمني، بل فهم أعمق يقوم على الانسجام الداخلي. فالجذب الحقيقي لا ينشأ من محاولة الإقناع، بل من وضوح الهوية. ولا يتأسس على الاستعراض، بل على الثبات. الأشياء التي تعرف موقعها بدقة لا تحتاج إلى رفع صوتها، لأنها تُسمَع من تلقاء نفسها.

في هذا السياق، يصبح الاسم أكثر من علامة لغوية، والزمن أكثر من تاريخ، والدور أكثر من وظيفة سياسية. حين ينسجم الاسم مع دلالته، ويتوافق التوقيت مع الاستعداد، ويتوازن الفعل مع الإمكان، تتكوّن حالة جذب تلقائية. وهذه الحالة لا تُدار بالقوة، بل بالاتزان؛ ولا تُحافَظ عليها بالاندفاع، بل بالاستمرارية.

إن الجذب، في جوهره، لا يُفرض، بل يتحقق. وهو أقرب إلى قانون طبيعي: المركز لا يلاحق الأطراف، بل الأطراف تنجذب إليه متى استقرّ. والدول التي تفهم هذه القاعدة لا تستهلك طاقتها في إثبات الوجود، لأنها تبني وجودًا يجعل الآخرين يعترفون به دون طلب. وهذا ما يفسر لماذا تتحول بعض الدول إلى نقاط ارتكاز في أوقات الأزمات، بينما تفقد أخرى تأثيرها رغم ضجيجها.

هنا يكتسب قول نيكولا تسلا عن الأرقام 3 و6 و9 معنى أعمق من القراءة الشائعة. فليس المقصود بالأرقام ذاتها بوصفها مفاتيح سحرية، بل بما ترمز إليه من نظام وتناغم. تسلا لم يكن يتحدث عن أعداد معزولة، بل عن بنية كونية تقوم على الإيقاع والتكرار المنظّم، حيث لا شيء يحدث خارج الانسجام. وحين نفهم هذا المبدأ، نفهم لماذا تنجح بعض التجارب دون أن تفرض نفسها، ولماذا تتحول بعض الكيانات إلى مراجع دون أن تعلن ذلك.

التجربة القطرية، في هذا الإطار، تُقرأ بوصفها نموذجًا لدولة لم تُفرِط في الحركة، ولم تُبالغ في ردّ الفعل. اختارت التوازن في عالم يميل إلى التطرف، والوساطة في زمن الاستقطاب، والبناء الهادئ في بيئة تكافئ الصخب. وهذا الخيار، على المدى الطويل، هو ما يصنع الجذب. فالعالم المتعب من الصراخ يبحث دائمًا عن نقطة هدوء، وعن طرف قادر على الإصغاء بقدر ما هو قادر على الفعل.

الجذب، في معناه العميق، ليس أن تجعل الآخرين يتبعونك، بل أن تجعلهم يثقون بأنك ثابت. والثبات لا يعني الجمود، بل يعني وضوح الاتجاه. والدول التي تعرف من هي، لا تخشى أن تكون كما هي، ولا تحتاج إلى تبديل أقنعتها مع تغيّر المواسم. من هنا، يصبح الاتساق قيمة استراتيجية، لا مجرد فضيلة أخلاقية.

لهذا، يمكن القول إن نجاح قطر لم يكن وليد صدفة تاريخية، ولا نتيجة معادلة رقمية جامدة، بل ثمرة انسجام نادر بين الرؤية والسلوك، بين الإمكان والطموح، وبين الهدوء والتأثير. فالعدد هنا ليس سببًا، بل إشارة؛ ليس محرّكًا، بل مرآة تعكس ما هو أعمق في بنية التجربة ذاتها.

وفي هذا الأفق، يستعيد قول تسلا معناه حين قال: «من يفهم 3 و6 و9 يملك مفاتيح الكون». فليس المقصود امتلاك الكون بالهيمنة، بل بفهم نظامه، ولا قيادة العالم بالقوة، بل بالمرجعية. وعندما يتحقق هذا المستوى من الفهم، تنتقل الدولة من موقع الفعل إلى موقع المرجع؛ والمرجعية لا تُفرَض، بل يُرجَع إليها.ومن منظور استشرافي، لا تنبؤي، يمكن القول إن المرحلة القادمة قد تشهد تحوّلًا تدريجيًا في موقع قطر ضمن النظام العالمي، بحيث تصبح خلال مدى زمني يتراوح بين تسع إلى ثماني عشرة سنة نقطة ارتكاز مرجعية في مجالات متعددة: سياسية، دبلوماسية، إنسانية، وربما معرفية. ليس بمعنى إخضاع العالم، بل بمعنى الاحتكام إلى نموذجها بوصفه معيارًا للاتزان في عالم مضطرب.

فالعالم، حين يُرهَق من الصدام، يبحث عن مرجع، وحين يفقد ثقته بالضجيج، ينجذب إلى الهدوء العاقل. وإذا كانت بعض الدول تسعى إلى قيادة اللحظة، فإن دولًا نادرة تُهيّأ لقيادة المعنى. وقطر، بما راكمته من انسجام وثبات، تبدو مرشّحة لأن تكون من هذا الصنف.

وهكذا، لا يعود قول تسلا حكمة معزولة، بل مفتاح قراءة:

من يفهم الانسجام، يملك مفاتيح التأثير…

ومن يملك مفاتيح التأثير، يصبح مرجعًا دون أن يطلب ذلك.

 

اقرأ المزيد

alsharq قرار يستحق الدراسة مسبقاً

حينما صدر القرار الوزاري في عام 2023 بإعفاء أبناء الأئمة والمؤذنين من رسوم الكتب والمواصلات في المدارس الحكومية... اقرأ المزيد

36

| 30 ديسمبر 2025

alsharq أصالة الجمال الحق !

ما أثمن أن يصل الإنسان إلى لحظة صفاء، تلك اللحظة النادرة التي تهدأ فيها ضوضاء الداخل، ويخفّ فيها... اقرأ المزيد

36

| 30 ديسمبر 2025

alsharq الدوحة.. هوية تُبنى بهدوء وتُخاطب العالم بثقة

في زمنٍ تتسابق فيه المدن على ناطحات السحاب، وتتنافس الدول على مظاهر القوة الخشنة، اختارت الدوحة طريقًا مختلفًا:... اقرأ المزيد

36

| 30 ديسمبر 2025

مساحة إعلانية