رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ببالغ الحزن تزامن توقيت هذا المقال الذي أعتبره الأخير قبل بدء اجازتي الصيفية مع وفاة عمي الدكتور يعقوب يوسف الجناحي رحمه الله بواسع رحمته. ولن تتغير النوايا في الحقيقة في مسألة اختيار موضوع المقال الأخير لهذا الأسبوع، فلعمي رحمه الله الخبرة والمناضلة التاريخية والوطنية التي تحكي عن وطن. وبالنسبة لي كنت أبادله أحياناً شغف الحديث حول حبي وعشقي لوطني من خلال ما أطرح من مواضيع اجتماعية متنوعة، حتى ولو كانت تلك المواضيع موجزة حول التطلعات والأبعاد التي أجد فيها نفسي في هذا الوطن. فاهتمامي الثقافي شكل لي بعداً خاصاً حول الآمال والتطلعات والتحولات التي تطرأ على الحراك الثقافي والقدرة على تبني التجديد في هذا المفهوم.
عمي الغالي، سأكمل كتابة هذا المقال بحسب بعدي الخاص، وسأظل أتذكر بأنك تقف خلفي وتبادلني ملاحظاتك في أعمدتي الصحفية وكأنك ما زلت معي. رحمك الله بواسع رحمته.
لربما ستكون هذه المقالة مقدمة مبدئية لتطلعات مستقبلية حول التغييرات التي ستطرأ على المجتمع تزامناً مع كأس عالم مترقب. ودعنا نبتعد عن الدهشة والخوف في هذه الحال حول المواجهات الثقافية المتعددة وأثر العولمة الثقافية على هذا المحفل المهم. ولا بد وأن نلفت النظر أيضاً في هذه الحال عن الأدوات التي من شأنها أن تلعب الدور في التعزيز وسد النواقص تفادياً لموجة تغييرات جذرية. إذ إن الهوية الثقافية في هذه الحال لابد وأن تواجه موجة معممة قد تؤثر في قيم ومبادئ الشعوب، ولكن بالتأكيد يمنع وصولها للجذر، فهذه أخطر المراحل. وليس بغريب أن يخشى المرء على هويته الخاصة، ولكن مسألة الهوية الثقافية تظل مكبوتة في أغلب الأوقات ولكنها تستيقظ وتشتد في فترات التحولات أو الانتقالات التي تمر بها المجتمعات. بالتالي، وجب علينا التهيئة لاستحضار أبرز ما لدينا من أدوات تساهم في حماية الهوية في وسط تيار العولمة الثقافية.
ودعنا نكون أكثر صراحة، العولمة الثقافية ليست غريبة من الأساس، فهي أساساً تخترق المنازل، وقد تتسرب في وسط المدارس ولربما تجدها في الشخصيات الفردية التي أصبحت ترفع الأعلام وتعتز بالحملات وتنبه عن حقوق. فالمسألة أصبحت أكثر تعقيداً وتداخلاً مما كان عليه المفهوم في السابق. حيث انحصر المفهوم حينها على إلغاء الحدود للمنتج الاقتصادي وتوفير حرية الانتقال. أما اليوم انعكس المفهوم على الثقافة والسياسة أيضا، ولا عادت تعتمد على الكتابة والأدبيات المكتوبة، بل انتقلت لمرحلة الاعتماد على الوسيلة السمعية والبصرية والعلامات والرموز والايحاءات. فكل تلك الوسائل جعلت من العولمة الثقافية وسيلة سريعة الوصول وسهلة النشر.
وعلى الرغم من تلك القدرات الهائلة التي سيطرت عليها العولمة الثقافية، لا ننكر قوتها وقدراتها في عملية الاختراق الفكري. ومن هنا يبدأ التحدي للتدخل المحلي على إمكانيات استحضار الهوية الثقافية وعمل المقاربات التي تدعم عناصرها والقوى الناعمة المحركة والفاعلة، والتي من خلالها تستطيع أن تخلق الصورة المماثلة للنسق الثقافي المماثل من حيث الأدوات في العولمة الثقافية واسقاطها لخلق الصورة القوية لواجهة وطن بدلاً من أن تهيمن عليه العولمة بالكامل.
لذلك، تجد المقاومات المستمرة ضد العولمة الثقافية من خلال مفهوم الاستثناء الثقافي أو التعددية الثقافية التي تهدف إلى تصدي مبدأ عام سائد بعدم طمس مبدأ محلي أصيل وخاص. ومثل هذه المقاومات، تجدها اليوم من ضمن مبادرات دولة قطر في كأس العالم من خلال اعتماد اللغة العربية كلغة رسمية، ومقاومة القيم والأخلاقيات المغايرة للمنطقة بشكل عام. فلو استطعنا مقاومة أبسط التيارات وأسهلها دخولاً إلى أسلوب حياة المجتمع، بالتالي نستطيع أن نحافظ على صورة هوية وطنية واضحة وخاصة يحترمها الغريب بضبط حدوده قبل أن يصل لحدودنا.
فالثقافة في رأيي قد تكون أحد النواقص، خاصة إن ظل تداول مفهومها بشكل جامد ومحصور، بالتالي سيكون من الصعب التوسع في دائرته إما للمقاومة أو حتى للتبني والتجديد. لذلك لا بد أن تواكب الهوية الثقافية كل الوسائل والأدوات الحديثة لتبني إطارها الخاص للتقدم.
وأخيراً: أينما يتجه الوطن وفي مقدمته اللغة والتاريخ والقيم، والدين، فلا بد أن هيمنتنها الثقافية تظل في الأمام.
دمتِ بحفظ الله يا بلادي.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
6033
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3336
| 29 سبتمبر 2025