رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
"ديسمبر الدافئ" اسم أول مجموعاتي القصصية التي تنتمي إلى أدب المقاومة، ولدت عام 99 تنز ألماً، وأملاً، ووجعاً وحزناً لا يعرفه إلا أصحابه، الذين عاشوا ديسمبر بقلب (بور سعيد) الباسلة التي تصدت للهجمة الهمجية ببسالة أسطورية يتساوى فيها الرجال والنساء، أما بطولاتها الخارقة فكانت للمقاومة الشعبية التي أذاقت المحتل الويل، أتصفح المجموعة وأقف عند قصة "مخزن".
مجرد مذياع كبير معلق على رف معدني في فرن قديم، هذا كل ما تبقى في الذاكرة حين مررت على البوتيك وتأملت اللافتة الكبيرة، وفاترينات العرض، والشاب الأنيق ببشرته البيضاء.. لا شيء يمكن أن يثير تداعيات الماضي ذلك البعيد.. البعيد جداً، فهؤلاء الذين وقفوا يوماً وتزاحموا على رغيف عيش ينادونه بقلق.. يا عم علي.. عاوزين نروح قبل الغارة. يا ربي كانت الغارات معجونة بقوتهم اليومي! هم الآن يمرون بنفس وجوههم القديمة، يحدقون في فاترينات العرض ولا يمكنهم أن يتذكروا من كل هذا سوى مذياع كبير معلق على رف معدني، فيما صوته الآن يرن في أذني واهناً مشروخاً يوم وقف يصرخ في ظلام الشارع، يشير لأبي ناحية الملاحات ويقول شفتهم، شفتهم بعيني نازلين بالبرشوتات، ويجري بساقه العرجاء ينادي (تعالوا يله ورايا على المخزن) مرات عديدة سمعت أبي يتكلم عن عم علي، يقول إنه اشترى الفرن من الخواجه تاكي الذي ترك مصر قبل سنتين، وأن الخواجه أهداه الراديو وبندقية صيد اعتاد أن يحملها في عصاري الصيف، الآن أذكر كانت الطائرات ترمي بقنابل تنفجر في الظلام قبل القصف، وتظل معلقة هناك بعض الوقت تضئ السماء وأسطح البيوت وقمم الأشجار، وعندما نظرت من فرجة الشباك رأيتهم كالأشباح يتسللون في الظلام حاملين على أكتافهم صناديق يرصونها بعجلة في سيارة الإسعاف التي تقف في صمت محتمية بشجرة التين المنغولي الضخمة التي تغطي نصف الشارع، ناديت أمي وأبي، بدا الخوف في عيون أمي فيما ابتسم أبي وقال معقولة!! عم علي الفران بيشتغل مع الفدائيين؟! أذكر الآن، في سهرات الصيف كان عم علي يحضر المنقد والماشة ويقسم أن يرص شيشة أبي بنفسه، وعندما ينضم أصدقاء أبي إلى جلسته يدور الحديث عن السياسة وعندما يحين وقت نشرة الأخبار ينصتون جميعاً بدقة ويعلقون بكلمات سريعة، وحين تنتهي نشرة الأخبار ينصتون للكلام بصوت عال وترتفع أصوات وتعليقات تبدو كشجار واسمع اسم جمال عبدالناصر يتردد بينهم، وعم علي كله آذان صاغية وأحياناً يشارك برأيه فيرد أبي مشجعاً عفارم عليك يا عم علي مفيش حل غير المقاومة.
جزء مني معك يا عم علي، هل تذكر؟ قلت له فنظر إليّ بدهشة واستغراب، حدق فيَّ بعينين أوجعهما الزمن ونار الفرن فقلت: أنا هند بنت أحمد المفتش، فاكر في الفيلا اللي قصادك.. دي، نظر ناحية بيتنا ثم هز رأسه وراح في صمت طويل، جلست بجواره على الدكة، تأملت المكان، كل شيء كان كما هو غير أن ثمة برودة تسري، وصمتاً يعطي إحساساً بأن الفرن لم يعمل منذ زمن بعيد ربت على كتفه وقلت إن أبي ظل يذكره كثيراً أيام تهجيرنا من بورسعيد، وأني انتهيت من دفنه لتوي، وفكرت أن أخبرك وقد مررت على بيتنا المهجور من بعد رحيلنا لتقرأ له الفاتحة، ينظر إليّ بعينين متعبتين صامتتين، أذوب في صمته وأحزاني التي لم تجف منذ أن مات أبي في الفجر وأثناء رحلة مرهقة بسيارة الدفن من المنصورة إلى بورسعيد.. جزء منى معك يا عم علي، هل تذكر؟ في ذلك اليوم لم ينقطع المطر، قليلون يدخلون الفرن ويخرجون بالأرغفة الساخنة يغطونها بملابسهم أو بأوراق الجرائد خشية البلل، وكنت أعبر الطريق بسرعة عندما اندفعت داخل الفرن وتعلقت ساقي بعتبة الباب فسقطت على وجهي، وضعت يدي على فمي فوجدت سنتي اللبنية مخلخلة والدم يغرق ملابسي، صرخت، فضحك عم علي وقال مداعباً (دلوقتي بقينا عواجيز زي بعض) بسرعة جذب السنة المخلخلة فازداد صراخي، دخل المخزن، وعاد بقطعة قطن مسح الدم وهو يقول (ولا يهمك أنا دفنت سنتك في المخزن علشان يطلع لك غيرها بسرعة ولما تكبري تعالى خديها) قلت حاضر، مسحت دموعي وهو يعيد اوعي تنسي وانهمك في انتقاء الأرغفة، ولفها في جرنال عتيق خشية المطر، وفيما كنت أتجاوز العتبة بحرص قال من جديد أوعى تنسي لما تكبري، ما نسيت يا عم علي لكن الهجرة طالت، وحرب الاستنزاف أجبرت الباقين على الرحيل، إلا أنت يا عم علي.. قال ومين يخبز للعساكر؟ لكن فرنك لم يعد يشتعل يا عم علي، لماذا لا تأتي إلى المنصورة؟ هز رأسه نافياً عدت لأقول له طب مش عايز حاجة، سلامتك يا بنتي، تجاوزت العتبة بحرص، وألقيت نظرة إلى الوراء حيث كان عم علي سادراً في صمته، وماجور العجين راسخاً بجوار باب المخزن، ومذياع قديم فوق رف معدني تصدر منه أغان عبرية وعم علي غارق في حزنه، (مع السلامة يا عم علي) همست بها لنفسي وقلت ربما لا أراك ثانية.. سأرحل بلاد الله لخلق الله، ولا أعرف إن كنت سأعود يوماً لأقف هكذا، أمام بوتيك بلافتة مضاءة، أحدق في عمق المحل الذي كان أيام حرب ديسمبر فرناً ومخزناً للسلاح ولتجمع الفدائيين وشباب المقاومة، لم أكن أعرف أنني سأعود يوماً إلى الفرن الذي أصبح (بوتيك) لأشحذ ذاكرتي بقوة وأحاول تحديد مكان ماجور العجين، والباب الخشبي المتشقق، والحروف المرتعشة بالأحمر الداكن: مخزن.
غرقت في ذكريات الزمان والمكان، وحكايات عم علي النحيل الضعيف الذي عشق عبدالناصر واحتضن في مخزنه المتواضع رجالاً كباراً وشخصيات فذة كانت تخطط للمقاومة لساعة الانقضاض والهجوم فكتبوا بتضحياتهم وشهدائهم اسم بورسعيد المقاومة الباسلة، لم انتبه للشاب صاحب البوتيك الذي وقف أمامي مبتسماً كاشفاً عن أسنان لامعة ومصفوفة بدقة، ابتسمت وهو يقول (تحت أمرك) وفكرت لو أسأله هل عثرت على سنتي في المخزن؟
تحولت الطائرات المُسيرة بالريموت كنترول من لعبة صغيرة بريئة يلهو بها الأطفال ويستمتعون بها وهي تطير من مكان... اقرأ المزيد
30
| 07 أكتوبر 2025
من أسمى الإدراكات التي يمكن أن يبلغها امرؤ في يوم ما، أن يُدرك أن الاستغناء سيادةٌ تتجلّى حين... اقرأ المزيد
39
| 07 أكتوبر 2025
تقول مرآة السيارة: الأجسام المرئية على المرآة ليست على المسافات أو من الأبعاد الحقيقية.. كما هو الحال مع... اقرأ المزيد
33
| 07 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
5205
| 06 أكتوبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
1911
| 05 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ «استيراد المعلّب»، حيث يتم استقدام برامج أو قوالب تدريبية جاهزة من بعض الدول الخليجية المجاورة لعرضها على وزارات أو مؤسسات في قطر، رغم وجود كفاءات محلية وجهات تدريبية قادرة على تقديم محتوى أكثر أصالة وفاعلية. الفكرة بحد ذاتها ليست إشكالية، فالتبادل المعرفي مطلوب، والتعاون الخليجي قيمة مضافة. لكن الإشكال يكمن في الاختزال: أن يكون الخيار الأول هو الحل المستورد، بينما تبقى القدرات المحلية في موقع المتفرج. أين الخلل؟ حين تأتي وفود خارجية وتعرض برامج جاهزة، غالبًا ما يتم التعامل معها باندفاع هذا المشهد قد يعطي انطباعًا مضللًا بأن ما تم تقديمه هو «ابتكار خارجي» لا يمكننا بلوغه داخليًا، بينما الحقيقة أن في قطر كفاءات بشرية ومؤسسات تدريبية تمتلك القدرة على الإبداع والتطوير. والمفارقة أن لدينا في قطر جهات رسمية مسؤولة عن التدريب وتحت مظلتها عشرات المراكز المحلية، لكن السؤال: لماذا لا تقوم هذه المظلات بدورها في حماية القطاع؟ لماذا تُترك الوزارات لتتسابق نحو البرامج المستوردة من الخارج، بل إن بعضها يُستورد دون أي اعتماد دولي حقيقي، غياب هذا الدور الرقابي والحامي يفتح الباب واسعًا أمام تهميش الكفاءات الوطنية. وتزداد الصورة حدة حين نرى المراكز التدريبية الخارجية تتسابق في نشر صورها مع المسؤولين عبر المنصات الاجتماعية، معلنةً أنها وقّعت اتفاقيات مع الوزارة الفلانية لتقديم برنامج تدريبي أو تربوي، وكأن الساحة القطرية تخلو من المفكرين التربويين أو من الكفاءات الوطنية في مجال التدريب. هذا المشهد لا يسيء فقط إلى مكانة المراكز المحلية، بل يضعف ثقة المجتمع بقدراته الذاتية. منطق الأولويات الأصل أن يكون هناك تسلسل منطقي: 1. أولًا: البحث عن الإمكانات المحلية، وإعطاء الفرصة للكوادر القطرية لتقديم حلولهم وبرامجهم. 2. ثانيًا: إن لم تتوفر الخبرة محليًا، يتم النظر إلى الاستعانة بالخبرة الخليجية أو الدولية كخيار داعم لا كبديل دائم. بهذا الترتيب نحافظ على مكانة الكفاءات الوطنية، ونعزز من ثقة المؤسسات بقدراتها، ونوجه السوق نحو الإبداع المحلي. انعكاسات «استيراد المعلّب: - اقتصادياً: الاعتماد المفرط على الخارج يستنزف الموارد المالية ويضعف من استدامة السوق المحلي للتدريب. - مهنياً: يحبط الكفاءات المحلية التي ترى نفسها مهمشة رغم جاهزيتها. - اجتماعياً: يرسخ فكرة أن النجاح لا يأتي إلا من الخارج، في حين أن بناء الثقة بالمؤسسات الوطنية هو أحد ركائز الاستقلال المجتمعي. ما الحل؟ الحل ليس في الانغلاق، بل في إعادة ضبط البوصلة: وضع آلية واضحة في الوزارات والمؤسسات تقضي بطرح أي مشروع تدريبي أولًا على المراكز المحلية. - تمكين المظلات المسؤولة عن التدريب من ممارسة دورها في حماية المراكز ومنع تجاوزها. - جعل الاستعانة بالبرامج المستوردة خيارًا تكميليًا عند الحاجة، لا قرارًا تلقائيًا. الخلاصة: «استيراد المعلّب» قد يكون مريحًا على المدى القصير، لكنه على المدى البعيد يضعف مناعة المؤسسات ويعطل القدرات الوطنية. إننا بحاجة إلى عقلية ترى في الكفاءة القطرية الخيار الأول، لا الأخير. فالطموح الحقيقي ليس في أن نستحسن ما يأتي من الخارج ونستعجل نشر صورته، بل في أن نُصدر نحن للعالم نموذجًا فريدًا ينبع من بيئتنا، ويعكس قدرتنا على بناء المستقبل بأيدينا.
1731
| 02 أكتوبر 2025