رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

إبراهيم عبد المجيد

كاتب وروائي مصري

مساحة إعلانية

مقالات

147

إبراهيم عبد المجيد

الغائب في رؤية الشعر..

27 نوفمبر 2025 , 04:00ص

شاع منذ ربع قرن تقريبا مقولة زمن الرواية. بسبب انتشارها الأكبر في كل العالم. عام 1985 كتبت مقالا في جريدة المصور، أو مجلة الهلال المصرية لا أذكر بالضبط، قلت فيه إن الرواية هي ديوان العرب، قبل أن تنتشر مقولة زمن الرواية. كنت أدرك ما يحدث في العالم، وخاصة مصر بعد حرب أكتوبر عام 1973، والتحولات التي بدأت في الحياة المصرية وكيف هي مادة لا تنفد للحكايات.

لست ضد مقولة زمن الرواية حتى الآن، بمعني الإقبال على كتابتها، والانتشار الذي يتجلى في الجوائز العربية مثلا أو الترجمات. لكني ضد تصور أن الرواية أفضل من الشعر، مما يجعل حركة النشر فيه أقل، وكذلك الجوائز. الحاصل أن الشعر قطع مراحل عديدة في التجديد، تماما مثل الرواية، لكن انتهي بقصيدة النثر، التي هي أقل تأثيرا حين تُلقى في لقاءات شفاهية، كما كان يحدث مع كل أشكال الشعر السابقة عمودية أو حرة. هكذا صارت قراءة الشعر الأفضل في البيوت مع الوحدة والتأمل. ذلك لا يقلل أبدا من قيمة الشعر، الذي هو في التاريخ أسبق من الرواية. الملاحم اليونانية أو المصرية القديمة أو الأشورية وغيرها كانت شعرا، وإن كانت ترجماتها العربية نثرا. فضلا عن ترانيم الحب والحياة وغيرها. يعتبر الكثيرون أول ظهور للرواية كان مع رواية «دون كيخوتة» للإسباني ميجيل دي سرفانتس عام 1605، لكن الشعر الذي هو أقدم لم يظهر في الملاحم القديمة ولا الترانيم فقط، لكن أيضا في سائر الفنون. كل ما أنجزه الفنانون القدماء من تماثيل أو معابد كان يعبر شعريا عن فكرة ومعنى لا يدركها إلا الحصيف. هكذا الشعر يُعنى بالمعاني الغائبة دائما حتى لو صار شعرا عاميا أو نبطيا عن قضايا اجتماعية حولنا، فالشجاعة تخرج بالشاعر عن المألوف. هكذا صار الفن التشكيلي نحتا أو رسميا تجسيدا شعريا لمعانٍ عظيمة بشكل غير مباشر. عرفت الرسوم أماكنها في الخلاء وأماكنها في الكنائس والمعابد والمساجد وكل دور العبادة، فكانت التعبير الشعري عما هو غائب. هل ننسى مثلا حكاية المعلقات العربية من الشعر قبل الإسلام، التي قيل إنها كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على الكعبة، التي كانت مزارا دينيا قبل التوحيد أيضا. من أجمل ما قرأت رأيا ليحيي حقي في الشعر وأهميته عابرة الزمن، يضرب فيه مثلا بالمؤرخين الباحثين عما هو غائب في التاريخ. هم يبحثون عن معانٍ غائبة تماما مثل الشعراء. كذلك العلماء يكتشفون نظريات علمية جديدة بحثا عما غاب من قبل عند غيرهم. هكذا يكون المؤرخ والعالم وأي باحث، في مسيرته شاعرا يبحث عما هو غائب حتى وإن لم يكتب الشعر. هكذا صار الشعر هدفا للفنون والعلوم كلها معا. هذا يعيدني إلى فكرة زمن الرواية التي هي حقيقية شكلا، لكن الرواية عند الكاتب الموهوب أيضا بناء فني شعري يظهر في تعدد لغات الشخصيات، وأثر المكان أو الزمان عليها، وتعاقب الفصول، وتعدد ضمائر الحكي، مما يعكس معاني قد تغيب عن القارئ العادي لكنها لا تغيب عن الناقد الحقيقي.

لماذا أكتب هذا المقال؟ لأني اقرأ كثيرا جدا من الأشعار الرائعة والدواوين، وأسمع ما يقال عن أزمة نشر الشعر، التي تكون فيها قلة المبيعات قياسا على الرواية. ليس هذا عيبا في الشعر. لكن كما قلت لأن الشعر قطع شوطا في التطور، فصارت قراءته تحتاج انفرادا لا تجمُّعا بين الناس فقل قراؤه. لكن عبر التاريخ يتسع الشعر فيكون ديوان الروح الإنساني عبر كل الفنون.

مساحة إعلانية