رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
خلفت الحروب والمجاعات والفيضانات وغيرها من الكوارث أعدادًا لم نشهدها من قبل من الأطفال اللاجئين. فإحصائيات اليونيسف قد أشارت أن عدد الأطفال اللاجئين عالميًا والمسجلين تحت ولاية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ازداد من 4 ملايين إلى حوالي 10 ملايين خلال الفترة ما بين 2005 و2020، إلا أن الوضع قد ازداد سوءًا بشكل ملحوظ في الفترة ما بين 2010 و2020 إذ ارتفعت نسبة الأطفال اللاجئين لــ 116 %.
ومع الأسف، وها نحن الآن في عام 2022، ازداد الوضع سوءًا مع اندلاع واستمرار الحرب في أوكرانيا. فأضف إلى الخسائر الجسدية والنفسية الناجمة عن هذه الحرب، الخسائر الكارثية الناتجة عن حرمان الأطفال من التعليم. إذ حرم ما يقرب من 7.5 مليون طفل في أوكرانيا من التعليم بسبب تعرض حوالي 22 مدرسة للهجوم يوميًا.
حماية حق الأطفال اللاجئين
تعد إعادة إدماج الأطفال اللاجئين في المجتمع وحماية حقهم في الحصول على التعليم من حقوق الأطفال الأساسية. ولكن ومع الأسف، لم يعد بإمكان الكثير من الأطفال الحصول على التعليم بسبب شح الموارد، وعوائق اللغة، وعدم المعرفة بمتطلبات امتحانات القبول، والتمويل الضعيف، وسوء الأوضاع التي يعيشون فيها. وبالرغم من النداءات التي تطالب بالمساعدة وتدعو إلى اتخاذ التزام عالمي لمنح هؤلاء الأطفال فرصة ثانية - إلا أن هؤلاء الأطفال ما زالوا يعانون في الحصول على الأسس الضرورية للتعلم.
دور مؤسسة التعليم فوق الجميع
في دولة قطر، وقع صندوق قطر للتنمية (QFFD) بالتعاون مع مؤسسة "التعليم فوق الجميع" اتفاقيات لتوفير تعليم جيد للأطفال غير الملتحقين بالمدارس، من خلال برنامج "EAA Educate a Child"، والذي يهدف إلى توفير التعليم لأكثر من 1.6 مليون طفل وشاب، من خلال تطوير المناهج التعليمية وتحسين التقنيات والأساليب التعليمية وتعزيز البنى التحتية للمدارس والفصول الدراسية وغيرها. ويغطي هذا البرنامج حاليًا الصومال وسيراليون وتنزانيا وباكستان وجنوب السودان وهايتي. والجدير بالذكر أن ليس كل الأطفال الذين يدعمهم هذا البرنامج هم من اللاجئين، بل أيضًا من الفئات التي يتعثر عليها الوصول للتعليم - غالبًا بسبب عوامل مثل الفقر المدقع والصراعات وتغير المناخ.
شراكة كامبريدج للتعليم
ونحن في شراكة كامبريدج للتعليم " Cambridge Partnership for Education"، عملنا بشكل وثيق مع اليونيسف لتطوير برنامج تعليمي لأطفال لاجئي روهينغا في بنغلاديش، ويهدف هذا البرنامج إلى مساعدتهم على الاندماج في نظام التعليم الوطني عندما يصبح هذا الأمر ممكنًا. كما تعمل كامبريدج أيضًا على المساعدة في إنجاز نفس المهمة في أوروبا من خلال دراسة المناهج الأوكرانية ومعادلتها مع أنظمة التعليم في البلدان التي تستقبل اللاجئين مبتدئين العمل بمادة الرياضيات. وهذه المعلومات سيتم تقديمها للمعلمين لمساعدتهم على معرفة المستوى الدراسي للطلاب الأوكرانيين مقارنة بطلابهم.
نحن بحاجة إلى المزيد من هذه المبادرات إذا ما أردنا إعطاء الأطفال اللاجئين والمستضعفين أفضل الفرص لتحقيق ما يستحقونه من مستقبل مشرق. ولكن يجب على المجتمع الدولي، بما يتضمن ذلك من شركات وحكومات وجهات مانحة أن تتضامن مع بعضها البعض لتقديم مبادرات تعليمية طويلة الأمد تستند على الأدلة وعلى دعم المعلمين.
تمكين الطلاب للتحول إلى منهج تعليمي مناسب
تعتبر الصحة الجسدية والنفسية للأطفال النازحين من أكثر القضايا إلحاحًا. فقد فر الكثير من هؤلاء الأطفال من منازلهم دون مرافق، وهذا قد يجعلهم عرضة للصدمات النفسية والأمراض. لا شك بأن حماية الطفل تأتي بالمرتبة الأولى. وأن وضعهم الصحي والنفسي هو أيضًا من المتطلبات الرئيسية لمواصلة التعليم وتأهيلهم وإعدادهم للمستقبل.
فلن يتمكن الأطفال من التعلم حتى لو وُفرت لهم المدارس والمصادر إذا لم تُلب احتياجاتهم الأساسية كالشعور بالأمان والراحة النفسية. وهذا أيضًا ينطبق على المدرسين الذين يحتاجون إلى الدعم لتعليم الأطفال الذين تعرضوا للصدمات النفسية. من هنا تحرص Cambridge English على إنشاء مجتمعات عبر الإنترنت للمعلمين الأوكرانيين، وتوفير الدعم اليومي للمدرسين الذين يمارسون مهنتهم وسط المخاطر والظروف الصعبة.
وحتى في حال تلبية الاحتياجات الأساسية للأطفال، فإن اللاجئين في الوقت الحالي يعانون من قلة المصادر التعليمية عالية الجودة، بما في ذلك الكتب المدرسية والمصادر الإلكترونية والامتحانات التي تدعم تطورهم. ومن هنا يجب ضمان حصول الطلاب الذين يعيشون وسط الصراعات، على كتب مدرسية مصممة بطريقة جيدة ودقيقة.
ومن أجل إدماج هؤلاء الأطفال في المجتمع، فإنهم بحاجة إلى مصادر تعليمية تزرع فيهم بذور الأمل وترسم خارطة واضحة لمستقبل مستقر. فماذا لو تم تخطيط الدروس والمواد التعليمية بأسلوب يشجع على التعاون ويحث الأطفال على معالجة عدد من القضايا مثل الاستدامة البيئية أو الفهم الثقافي أو حل النزاعات؟ لهذا قامت كامبريدج بالتعاون مع اليونيسف بدراسة إمكانية إدراج بناء السلام في منهج الرياضيات في جنوب السودان - حيث لم يعش الأطفال هناك إلا العنف الشديد.
التعليم لبناء السلام
هناك استنكار وغضب عالمي بشأن معاناة الأطفال، لكن التعاطف وحده لا يكفي، إذ يكمن الحل في التعاون على مستويات أعلى لتمكين هؤلاء الأطفال من الانتقال بسلاسة والانضمام إلى صفوف الطلاب. وهذا التعاون يجب أن تتشارك فيه كافة القطاعات دون استثناء.
وفي منتدى الدوحة، ناقش المفوض السامي لشؤون اللاجئين "فيليبو غراندي" أهمية التعليم للمهجرين بسبب النزاع ودوره في الترضية والحوار.
ووفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فأمام اللاجئين فرصة على المدى الطويل لاكتساب مهارات في مجالات عدة مثل القيادة والمناصرة والوساطة وحل النزاعات، والتي يمكن أن يكون لها أثر كبير في المساهمة في إعادة بناء مجتمعاتهم إذا عادوا إلى أوطانهم. إن استمرار الأطفال اللاجئين في التعليم هو السبيل الوحيد لبناء السلام وبناء مجتمعات متماسكة في المستقبل.
المدير الإداري - شراكة كامبريدج للتعليم
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3804
| 21 أكتوبر 2025