رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حتى أعالج قضية "الجيوش والسياسة" في منطقتنا فلابد أولا من الإشارة إلى أنه من أخطر أسباب الاستبداد والديكتاتورية حين يتحكم الجنرالات في إدارة شؤون السياسة والحكم وهو ما يستلزم بالضرورة قهر الشعوب وتعذيبها فهي لغة الجيوش في التعامل مع الشعوب وهو ما لم تعد تحتمله الشعوب الحرة كما لم تعد تتحمله التطورات العالمية المعاصرة ولهذا جاءهم الرد أقوى مما يتخيلون وذلك في ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا حيث أسقطت الشعوب حكم الجنرالات ودهسته وقامت بدفنه سياسيا وما يجري الآن من الثورات المضادة هو محاولة لإخراج حكم الجنرالات من القبور مرة أخرى.
ثانيا.. لابد وأن أقرر أن ثورة يناير في مضمونها الحقيقي ومغزاها الموضوعي هي ثورة على حكم العسكر وتمرد على سلطة الدبابة وفي هذا الإطار فنحن نرى أن حكم الجنرالات قد أساء إلى الجيش وأضر بالأمن القومي قبل أن يضر بالسياسة والحكم.
ثالثا.. لابد وأن أعترف أن جنرالات المجلس العسكري قد نجحوا في التآمر على ثورة يناير ويقومون الآن بالتنكيل بكل رموزها وأنصارها وقد بدأ مخططهم منذ 11 فبراير حين قرروا أن يتخلوا عن الديكتاتور ليحافظوا على الديكتاتورية.. كما أعترف بأن نجاحهم كان بسبب انقسامنا بل وتمزق صفوفنا وإن كان ذلك بفعل مخططاتهم.. كما أعترف بأن عدم وجود رؤية وبرنامج لاستكمال ثورة يناير كان من أهم أسباب نجاح مؤامرة الجنرالات.. كما أعترف بأن أهم فرصة لاستكمال الثورة كانت هي فرصة حكم د. محمد مرسي والذي تم انتخابه _في تقديري_ كقائد للثورة وليس رئيسا للدولة ومن ثم فقد كان الواجب يقتضي أن يحكم بمنطق الثورة ومن قلب ميادينها.
رابعا.. لابد وأن نوقن أنه من المستحيل أن تبقى الديكتاتورية تحكمنا وقد سقطت من كل مناطق العالم فقد سقطت في أمريكا اللاتينية وسقطت في أوروبا الشرقية وسقطت في آسيا كما سقطت في إفريقيا ولم تبق منطقة تحكمها الديكتاتوريات ويتحكم فيها الجنرالات سوى منطقتنا!!
ثم ماذا قدم الجنرالات في الحكم على مدى 60 عاما حتى يواصلوا حكمهم ويريدون التمديد لهم اليوم؟!
ماذا قدموا لفقراء مصر غير الجوع.. لقد أفقروهم وطالبوهم "بربط الأحزمة" بحجة الصراع العربي الإسرائيلي ولما تخلوا عن ثوابت هذا الصراع في كامب ديفيد سلطوا عليهم رجال أعمالهم لينهشوا فيما تبقى من لحمهم؟!
ماذا قدم الجنرالات في مجال الصحة ولدينا أعلى معدلات قياسية وعالمية في الأمراض سواء في الفيروس سي أو الفشل الكلوي أو السرطانات وغيرها من الأمراض.. إلا إذا اعتبرنا جهاز الكفتة إنجازا يستحق الإشادة!!
ماذا قدم الجنرالات في مجال الإسكان ولدينا 20 مليونا يعيشون في العشوائيات وما يقرب من 2 مليون يعيشون في المقابر في القاهرة وحدها.. ولا تسأل عن أعداد ساكني عشش الصفيح.. ولا ملايين الأطفال المشردين في الشوارع بلا مأوى والذي يتداول الجنرالات مشروع إبادتهم كما تباد الكلاب الضالة!!
ماذا قدموا في مجال التعليم وما يقرب من 50% من الشعب المصري أصبح أميا لا يعرف القراءة والكتابة فضلا عن تدهور حال التعليم مقارنة بالكثير من دول العالم.
ماذا قدموا في مجال الحريات سوى الأرقام القياسية في عدد سنوات الطوارئ وأعداد المعتقلين والمعذبين.. فقد عذبوا الأجيال جيلا بعد جيل ومازالوا يعذبونهم حتى هذه اللحظة.. لقد صادروا الحريات وأمموا السياسة وطاردوا الشرفاء وكان حجتهم في الثلاثين عاما الأولى هي الصراع العربي الإسرائيلي والذي أنهوه عام 1978م في كامب ديفيد بالتسليم بكل شروط إسرائيل في المنطقة في مقابل استمرار نظام حكمهم داعما للمشرع الإسرائيلي!! وكانت حجتهم في الثلاثين عاما الأخرى هي مكافحة الإرهاب - برغم أنهم السبب الرئيسي في وجوده - فإذا بالإرهاب ينمو ويترعرع في عصرهم بشكل غير مسبوق وينتقل من بلادهم إلى غالبية دول العالم!!
ماذا قدموا في مجال الأمن القومي.. وقد فككوا كل أساسياته وسلموا كل ملفاته ومفاتيحه للخارج.. ثم هاهم يمزقون المجتمع إلى شعبين (إحنا شعب وأنتوا شعب) وهاهم يسعون لتعميق ونشر الطائفية ومأسستها.
لقد جاءت التسريبات لتكشف حكمهم بصورة لم تكشف من قبل ووضعت أطنانا من العار على طبيعة حكمهم وطريقة إدارتهم لأكبر دولة في المنطقة وكانت فضيحة مدوية كفيلة بالإطاحة بعشرات الحكومات ورغم ذلك فهم يواصلون على كراسيهم وكأنهم لم يرتكبوا شيئا أو كأن ما جاء في التسريبات هو وسام شرف لهم يدل على وطنيتهم ويستوجب الاحتفاء بهم والتمديد لهم!!
خامسا وأخيرا.. لابد وأن أؤكد أن أشرف اللحظات في تاريخ مصر الحديث هي اللحظات التي تفجرت فيها ثورة 25 يناير والتي وضعت مصر الحديثة على مسار جديد لا يمكن التراجع عنه ولن تستطيع قوة في الأرض أن تخرجها عن قضبانه ولهذا يجب أن ندرك أننا حتى هذه اللحظة نكمل ثورة يناير وأن مشروعنا السياسي مرتبط بقيمها وأهدافها وتقاليدها التي بهرت العالم وأجبرته على احترامها حتى أن العديد من مدن العالم حاولت تقليدها عندما أرادت أن تعارض حكوماتها.. لقد مثلت ثورة يناير أهم لحظات عزنا وشعورنا بكرامتنا وهي لحظات عزيزة في تاريخ شعبنا ولن ينساها أبدا.
لكننا يجب أن نعترف أن المؤامرات على ثورة يناير قد حققت عدة نجاحات، وأنها الآن تعيش في محنة كما أنها تحتاج إلى تجديد حتى تتجاوز محنتها بل إنها في نظري تحتاج لثورة من داخل الثورة وذلك على مستوى المفاهيم ثم على مستوى الآليات حتى تكمل مشوارها وتحقق أهدافها بنجاح وهو ما يستدعي الآتي:
1. الخروج فورا من الثنائيات القاتلة للثورة المصرية وأخطرها (ثنائية العسكر/ والإخوان) و(ثنائية الإسلامي/ والليبرالي) ومن ثم ضرورة التأكيد على (ثنائية الثورة على الثورة المضادة) أو (ثنائية الحرية في وجه الاستبداد).
2. لابد من العمل على إعادة بناء مظلة 25 يناير وفق مشروع وطني جامع وذلك بمشاركة كل رموزها وكياناتها دون استبعاد أحد والاقتداء في ذلك بـ18 يومًا عاشت فيها مصر أجمل أيامها ولم تكن مجرد أحلام وكانت هذه التجربة هي أهم ما صدرته مصر للعالم خلال الستين عاما.
3. لابد من حرمان الانقلاب من أهم نقاط قوته وتمركزه في المجتمع والتي أقامها على "تمزيق الساحة الثورية والسياسية" و"تقسيمه للمجتمع" بصورة لم تحدث من قبل.. وهنا لابد وأن أؤكد على أن "المصالحة المجتمعية" و"التوعية الشاملة" هي المسمار الأخير في نعش الانقلاب ومن ثم الديكتاتورية.
4. لابد من القبول بتعدد المسارات المعارضة للانقلاب بأشكالها المختلفة "الثورية" و"الاحتجاجية" و"السياسية" حيث يمكن أن تتحرك كلها على خطوط متوازية وغير متقاطعة وتصب جميعا في مشروع واحد يحقق هزيمة الديكتاتورية وإنهاء الاستبداد.
5. لابد من طمأنة كل الأطراف بل والمؤسسات التي ورطها الجنرالات في الوقوف في خندق مناوئ لثورة يناير فنحن دعاة سلم أهلي وحرية لكل المصريين ودولة مدنية (لا عسكرية ولا ثيوقراطية).
6. لابد من تأسيس البديل الوطني الجاهز لبناء الدولة والقادر على التعامل مع العالم وفق ظرفه ومعطياته بالغة التعقيد.
7. لابد من التعامل الذكي والمتطور مع التغيرات الإقليمية والدولية الأخيرة التي تهيئ المنطقة لأفول نجم الثورات المضادة وتضع بلادنا على ظروف جديدة تؤهلها لاستكمال ثورتها.
إن أزمة منطقتنا أنها مخيرة بين كوارث خمس: الاستبداد أو الاحتلال أو الإرهاب أو الطائفية أو الفوضى.. وأنها لن تتجاوز هذه الأزمة المعقدة إلا من خلال مبادئ ثلاثة:
• الحرية التي تنهي عصور الاستبداد وتؤسس للديمقراطية وتقطع الطريق على إمكانية عودة الديكتاتورية مرة أخرى.
• الحفاظ على كيان الدولة وعدم السماح بتقسيمه.
• إبعاد الجيش عن السياسة وعدم السماح بتدخله فيها مهما كانت الظروف وذلك حفاظا عليه واحتراما لمكانته وكرامته ودوره.
وبدون ذلك فإن مصر ستدخل على مسارات كارثية ستكون خطرا على المنطقة بأسرها ومن ثم النظام الدولي كله.
لبعض الاختيارات ثمنُها الباهظ الذي يجب أن يُدفَع، وتكلفتُها الغالية التي لا بدّ أن تُسدّد، إذ لا يمضي... اقرأ المزيد
267
| 14 أكتوبر 2025
انتهيت من مشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل الأمريكي Six Feet Under، وقصته تدور حول عائلة تملك دار جنائز،... اقرأ المزيد
258
| 14 أكتوبر 2025
لا يخفى على أحد الجهود الكبيرة التي تبذلها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في العناية بالمساجد وصيانتها وتوفير سبل... اقرأ المزيد
657
| 14 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8823
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4830
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
4272
| 14 أكتوبر 2025