رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

سعدية مفرح

كاتبة كويتية

مساحة إعلانية

مقالات

177

سعدية مفرح

حين يركض النص أسرع من صاحبه: تأملات في مصير الحقوق الفكرية

22 ديسمبر 2025 , 03:07ص

لا يشبه النص، حين يُولد، أيَّ كائنٍ آخر؛ إنّه هشّ في بدايته، شديد الثقة في آن، يخرج إلى الضوء محمّلًا بذاكرة صاحبه، وبسنواتٍ من الصمت والتفكير والتردّد، ثم ما يلبث أن يجد نفسه وحيدًا في فضاء لا يعترف بالأسماء بقدر ما يحتفي بالسرعة. 

منذ أن صار النشر فعلًا يوميًّا، والنسخ عادةً بلا شعور بالذنب، تغيّر موقع النصّ من كونه أثرًا شخصيًّا إلى مادة سائبة، تتناقلها الأيدي كما لو أنّها بلا صاحب، أو كما لو أنّ صاحبها فكرة زائدة عن الحاجة.

لم تعد الملكية الفكرية مسألة قانونية صرف، بل صارت شأنًا أخلاقيًّا يتعلّق بعلاقة المرء بجهده، وبحقه في أن يُنسب إليه ما صنعه بعقله وروحه. سرعة الاستنساخ، وخفّة الانتشار، جعلتا النصوص تُسرق من دون ضجيج، وتُعاد صياغتها بوقاحة ناعمة، تُبدّل بعض المفردات وتُبقي الجوهر، ثم تُقدَّم على أنّها اكتشاف جديد. لا أثر يُلاحق الفعل، ولا يد تُمسك به، وكأنّ الاعتداء يحدث في منطقة رمادية لا تعترف بالمسؤولية، ولا ترى في الفعل ضررًا يستحق التوقّف عنده.

أمام هذا الانفلات، لم يعد المبدع مطمئنًّا إلى أن النص سيحفظ اسمه كما كان يحدث سابقًا. صار مضطرًّا إلى مراقبة حضوره، لا بدافع الغرور، بل بدافع الدفاع. يتتبّع ما يُنشر، وما يُعاد تدويره، وما يُقتطع من سياقه، ويُعاد لصقه في سياق آخر. يتحوّل الكاتب، الشاعر، الباحث، إلى حارسٍ دائم لحدوده، يراقب الشاشات كما كان يراقب الورق، لكن بقلقٍ أشدّ، لأن الانتحال لم يعد حادثة فردية، بل ممارسة جماعية تتبدّل أشكالها مع كل منصة جديدة. هنا، يفقد الإبداع شيئًا من براءته الأولى، إذ يغدو محمّلًا بهاجس الحماية، بدل أن ينصرف كلّه إلى الخلق.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل محاولات المقاومة التي ولدت من رحم التقنية نفسها. ظهرت أدوات ذكية، من بصمات رقمية وتقنيات تتبّع وتشفير، تسعى إلى ردّ الاعتبار للنصّ، أو على الأقل إلى تثبيت أثره الأول. 

غير أنّ هذه الأدوات، على أهميتها، تبدو أقرب إلى حلول إسعافية منها إلى إجابات نهائية. فهي تحمي الأثر، لكنها لا تعالج الذهنية التي تستخفّ بالجهد الفكري، ولا تُعيد الاعتبار للقيمة الرمزية للكتابة بوصفها فعلًا إنسانيًّا يتطلّب وقتًا ومعاناة ومسؤولية.

الإشكال الأعمق يكمن في الفجوة بين سرعة الفعل الرقمي وبطء التشريع. القوانين، مهما تطوّرت، ما زالت تتحرّك بإيقاع أبطأ من النصوص التي تُسرق وتُعاد نشرها في لحظة. وبين هذا وذاك، يظلّ الحقّ معلّقًا، ينتظر اعترافًا لا يأتي دائمًا في الوقت المناسب. لا يكفي أن نملك أدوات حماية، ما لم ترافقها رؤية ثقافية تُعيد تعريف العلاقة بين المرء وما ينتجه، وتُرسّخ فكرة النسبة بوصفها جزءًا من الكرامة، لا مجرّد تفصيل إداري.

والمعركة ليست بين المبدع والتقنية، بل بين الوعي والتسيّب. فالنصّ، مهما كان رقميًّا، يظلّ ابن تجربة بشرية، يحمل أثر صاحبه كما يحمل توقيعه الخفي. وحماية الحقوق الفكرية ليست دفاعًا عن الأسماء فحسب، بل عن معنى الجهد، وعن فكرة العدالة في أكثر صورها رهافة. فحين نفقد هذا المعنى، نخسر شيئًا أعمق من النصوص المسروقة؛ نخسر الثقة بأن ما نكتبه سيبقى لنا، ولو في ذاكرة اللغة.

وربما يكون الامتحان الحقيقي اليوم هو قدرة المرء على الاستمرار في الكتابة رغم كل هذه الهشاشة، أن يواصل منح نصّه أقصى ما لديه، وهو يدرك أنّه قد يُنتزع من سياقه أو يُجرَّد من اسمه، ومع ذلك يختار ألا يختصر جهده ولا يساوم على صوته. فالإبداع، في جوهره، فعل ثقة مؤجَّلة، وإصرار هادئ على أن المعنى الأصيل، مهما تعرّض للتشويه، يظلّ قادرًا على أن يُعرَف، وأن يجد قارئه، ولو بعد حين.

مساحة إعلانية