رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. خالد وليد محمود

• متخصص بالسياسة السيبرانية

مساحة إعلانية

مقالات

180

د. خالد وليد محمود

عقول مستهدفة.. الوجه الجديد للهندسة الاجتماعية في عصر الذكاء الاصطناعي

22 سبتمبر 2025 , 02:39ص

العقل البشري أصبح جبهة الحرب الجديدة. لم تعد الهندسة الاجتماعية مجرّد حيلة نفسية بدائية كما عرفناها في الماضي، بل تحوّلت – بفضل الذكاء الاصطناعي – إلى ساحة هجومية ديناميكية قادرة على استهداف الوعي نفسه وإعادة تشكيل القرارات والخيارات دون أن يشعر الإنسان. نحن اليوم أمام جيل جديد من الحروب الرقمية، حروب إدراكية (Cognitive Warfare) تتجاوز حدود القرصنة التقنية لتخوض معركة مباشرة على الإدراك الجماعي والفردي. هذا التحول النوعي يفتح الباب أمام تهديدات تتجاوز الاحتيال المالي إلى التأثير على الرأي العام، التلاعب بالانتخابات، وإثارة الأزمات الاجتماعية والسياسية. بكلمات أخرى، لم يعد أمن المعلومات قضية تقنية بحتة، بل أصبح قضية أمن وطني ومجتمعي، تتطلب استراتيجيات دفاعية متكاملة تدمج التكنولوجيا بالتربية الرقمية والتوعية النفسية.

لقد أضاف الذكاء الاصطناعي بعداً منهجياً للهندسة الاجتماعية عبر جميع مراحل دورة الهجوم السيبراني. ففي مرحلة الاستطلاع تقوم الخوارزميات بتمشيط هائل لمنصات التواصل الاجتماعي، المنتديات، وقواعد البيانات العامة لاستنتاج أنماط السلوك الرقمي والاهتمامات الشخصية وحتى المزاج العام للفرد أو المؤسسة. وفي مرحلة الاستهداف تُولِّد النماذج اللغوية محتوى شخصياً متقن الصياغة – رسائل بريد إلكتروني، محادثات دردشة، أو حتى مكالمات هاتفية مزيفة – بحيث تحاكي نبرة الضحية ولغتها المعتادة، ما يقلل احتمالية الشك. أما مرحلة التنفيذ فتشهد إرسال آلاف الرسائل، أو إجراء مئات المكالمات الصوتية بتقنية التزييف العميق في وقت قصير، مع قدرة على تعديل التكتيكات فوراً وفق استجابة الضحايا، وكأننا أمام حملة تسويقية خبيثة تعمل بتغذية راجعة مستمرة. وحتى بعد التنفيذ تحتفظ الأنظمة الذكية بسجلات تفصيلية لتحليل النتائج وتحسين الحملات اللاحقة، مما يجعلها مختبرات تعلم مستمر تديرها الخوارزميات ذاتياً.

الخطر الأكبر يكمن في البعد النفسي لهذه الهجمات؛ إذ يمكن للذكاء الاصطناعي استنباط الحالة العاطفية للضحية في لحظة معينة، ثم توليد رسائل تستثير الخوف أو الإلحاح أو الفضول بدقة شديدة، فتقل مساحة التفكير العقلاني وتتضاعف احتمالية الاستجابة للهجوم. ومع صعود تقنيات التزييف العميق أصبح من الممكن إنتاج مقاطع صوتية ومرئية تحاكي شخصيات حقيقية – قادة سياسيين، مديري شركات، أو حتى أفراد عائلة الضحية – ما يجعل الخداع أكثر إقناعاً ويعقّد مهمة التحقق حتى على فرق الأمن المدربة. المعركة هنا لم تعد مواجهة تقنية بين جدار ناري وفيروس، بل تحوّلت إلى صراع على الإدراك والوعي، حيث يصبح الإنسان ذاته هدفاً وأداة للهجوم في الوقت نفسه.

ولا تتوقف تداعيات هذه الهجمات عند الأفراد، بل تمتد إلى البنى التحتية الحيوية التي تعتمد على العنصر البشري كحلقة وصل أساسية. خطأ بسيط من موظف غير مدرّب – كالنقر على رابط مشبوه – قد يؤدي إلى تعطيل أنظمة الطاقة أو شل حركة النقل أو تسريب بيانات طبية حساسة، وهو ما ينعكس مباشرة على الاقتصاد والأمن القومي. لهذا باتت الحوكمة الأمنية مسؤولية استراتيجية شاملة، تبدأ بوضع سياسات واضحة ومحدثة، وتمتد إلى بناء ثقافة أمنية مؤسسية وتوفير برامج تدريب ومحاكاة منتظمة، بل وتبني أنظمة تحليل سلوكي قادرة على كشف أي نشاط شاذ قبل تحوّله إلى خرق واسع النطاق.

لم تعد الدفاعات التقليدية كافية في هذا السياق، إذ أصبح تبنّي نموذج «الثقة الصفرية» ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها. يقوم هذا النموذج على مبدأ أن كل محاولة وصول تمثل تهديداً محتملاً حتى يثبت العكس، ويعتمد على التحقق المستمر من الهوية والسياق، تقييد الصلاحيات إلى الحد الأدنى الممكن، ومراقبة السلوك حتى بعد منح الوصول. إلى جانب ذلك، بات الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الدفاعي أمراً حتمياً لتحليل الأنماط، رصد الشذوذ، والتنبؤ بالهجمات قبل وقوعها.

إن تصاعد هذه الهجمات لا يمثل مجرد ظاهرة تقنية عابرة، بل يشير إلى بداية سباق تسلّح إدراكي عالمي، حيث تتسابق الدول والشركات على تطوير أدوات التأثير في العقول بقدر ما تطوّر أسلحة تقليدية أو نووية. وإذا لم يتم الاستثمار سريعاً في بناء قدرات دفاعية شاملة تشمل التكنولوجيا، التشريعات، والتربية الرقمية، فقد نجد أنفسنا بحلول عام 2030 أمام بيئة تتآكل فيها الثقة الاجتماعية، وتصبح الحقيقة سلعة نادرة، ويغدو التمييز بين الواقع والوهم معركة يومية يخوضها كل فرد. هذه ليست قضية خبراء الأمن السيبراني وحدهم، بل معركة بقاء مجتمعية وحضارية، تتطلب وعياً جماعياً واستجابة استراتيجية قبل أن نفقد السيطرة على جبهة الحرب الأهم: جبهة العقول.

مساحة إعلانية