رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يُقسّم الفقه القانوني الغربي الدور الذي يقوم به القاضي في تقديم الأدلة إلى نظامين رئيسيين وهما: نظام التمحيص القضائي والمعروف باللغة الإنجليزية بمسمى (Inquisitorial System)، والمشابه أيضا لمذهب الإثبات الحر وفقا للفقه القانوني لمعظم الدول العربية، ونظام المغارمة والمعروف باللغة الإنجليزية بمسمى (Adversarial System)، والمشابه أيضا لمذهب الإثبات المقيد وفقا للفقه القانوني لمعظم الدول العربية. ويتسم النظام الاول بأنه نظام قضائي يضطلع فيه القاضي بدور فعَّال وإيجابي في تقصي الحقائق وتمحيص وقائع الدعوى من خلال استعراضه للأدلة وتقديرها واستجواب الشهود، بينما يتسم النظام الثاني بأنه نظام قضائي يقف فيه القاضي موقف الحياد من الدعوى، حيث يقتصر دوره على تلقي ما يقدمه أطراف النزاع من أدلة في الدعوى، وتقدير قوة كل دليل وفقا لقوته التي حددها له القانون، ومن ثم الحكم في الدعوى بناء على اقتناعه الذي تكون لديه من الادلة المقدمة من الخصوم، إذا ليس من عمل القاضي ان يساهم في جمع الأدلة أو يستند إلى دليل تحراه بنفسه. وقد يختلط الأمر على البعض في التمييز بين مفهوم عدم التحيّز لأي من الخصوم ومفهوم حياد القاضي. فعدم تحيّز القاضي لأحد الخصمين هو أمر مفروغ منه في أي نظام قضائي، بينما المقصود بحياد القاضي أن يقف القاضي موقفا سلبيا من كلا الخصمين فيما يتعلق بإثبات الدعوى، حيث لا يقضي القاضي إلا بما يعرض عليه الخصوم من أدلة في الدعوى المعروضة عليه، ولا يتجاوز ذلك باستجماعه لأي أدلة أخرى، بل يقتصر دوره على ما يعرض عليه الخصوم منها، وأن ينطلق اقتناعه دائما من اثباتهم فيما قدموه من أدلة.
ويسود نظام التمحيص القضائي في النظام القضائي الفرنسي وفي الأنظمة القضائية لبعض الدول التي تأثرت بالنظام القانوني اللاتيني او المدني (Civil Law System) مثل فرنسا وألمانيا واسبانيا وبعض الدول العربية، بينما يسود نظام المغارمة القضائي في إنجلترا وبعض الدول التي تأثرت بالنظام القانوني الإنجليزي أو النظام القانوني العام (Common Law system) والذي التي يستمد جذوره من التراث القانوني الإنجليزي مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلاندا. ولعله من المفيد أن نشير إلى أهم الخصائص التي تميّز النظام القضائي اللاتيني أو المدني عن نظام القانون العام، حيث يتميز النظام اللاتيني بأن دور القاضي يقتصر فيه على تطبيق القانون لا وضعه، بمعنى أن القاضي إذا أصدر حكما في قضية ما بناءً على تفسيره وتأويله لنصوص القانون، فإن هذا الحكم لا يكون له قوة الالزام على غيره من القضاة بشأن أي قضية جديدة تحمل نفس الموضوع. وعلى ذلك، فإن الاحكام القضائية في هذا النظام تعد مصدرا تفسيريا غير ملزم للقاضي وسواء كانت الاحكام صادرة من محكمة من نفس الدرجة التي يباشر القاضي فيها عمله أو من محكمة أعلى درجة منها، هذا من حيث المبدأ، إلا أن معظم محاكم الدول التي تأخذ بهذا النظام تلتزم بقضاء وقرارات المحاكم العليا التزاماً أدبيّاً وليس قانونيّاً. أما في نظام القانون العام، فإن أهم ما يميز هذا النظام أن السوابق القضائية تعد مصدراً رسمياً ملزماً للقاضي لاستخلاص القاعدة القانونية الواجبة التطبيق على النزاع المعروض عليه، بمعنى أن القاضي ملزم بإتباع السوابق القضائية الصادرة عن المحاكم الأخرى ذات نفس درجة محكمة القاضي أو عن المحاكم الأعلى درجة من محكمة القاضي. وعلى ذلك فإن للقاضي السلطة الكاملة لإصدار حكم جديد تماماً بشأن قضية لم يتم معالجتها في نصوص القانون أو لم يتم تناولها من قبل في الاحكام القضائية السابقة، ويقوم الحكم القضائي الجديد الذي أصدره القاضي مقام التشريع بشأن أي قضية جديدة تحمل نفس الموضوع.
وقد لوحظ في السنوات الأخيرة أن الاختلاف بين النظامين قد أخذت في التقلص، وذلك لاستعارة كل من النظامين أدوات ومنهجيات من النظام المقابل، كما لوحظ أن العديد من الدول التي تتبنى النظام القانوني والقضائي اللاتيني أو المدني، قد قامت بإنشاء محاكم تجارية دولية متأثرة بالنظام القضائي المستمد من نظام القانون العام (Common Law system)، باعتبار أن العديد من الشركات الدولية تفضل الاستثمار في الدول التي تتبنى هذا النظام القضائي نظرا لمعرفة تلك الشركات بإجراءات التقاضي وفقا لهذا النظام.
وفي دولة قطر، فقد تأثّر النظام القانوني فيها بالنظام القانوني اللاتيني، بالإضافة إلى تأثّر العديد من النظريات المنصوص عليها في القانون المدني بالشريعة الإسلامية. كذلك فقد أخذ المشرع القطري بالمذهب المختلط فيما يتعلق بدور القاضي في تقديم الأدلة والذي يجمع بين الإثبات المطلق والإثبات المقيد، فأعطى المشرع للقاضي دورا إيجابيا في قانون المرافعات المدنية والتجارية عند تقدير الأدلة التي لم يحدد لها القانون قوة معينة كالشهادة والقرائن القضائية من جهة، بينما عمد المشرع إلى تقييد حرية القاضي في العديد من النصوص المتعلقة بتحديد طرق الإثبات من جهة أخرى.
إلا أن الدولة قد حرصت عند انشائها لمحكمة قطر الدولية، وباعتبارها أحد عناصر الجذب للاستثمار في مركز قطر للمال، على أن تكون إجراءات المحكمة ذات صبغة دولية، وأقرب إلى الإجراءات المتبعة في النظام القضائي المستمد من نظام القانون العام (Common Law)، وذلك على اعتبار أن الشركات الدولية معتادة على التقاضي في المحاكم التجارية الدولية وفقا للنظام الأخير، وحتى تساهم المحكمة من خلال قيامها بدورها القضائي في تعزيز القدرات التنافسية لمركز قطر للمال.
وعلى ذلك، فقد تأثرت القواعد الإجرائية المعمول بها في محكمة قطر الدولية بالقواعد الإجرائية المعمول بها في المحاكم التجارية في إنجلترا وويلز وبمبادئ نظام المغارمة (Adversarial System)، وقد أدى ذلك بدوره إلى اتباع محكمة قطر الدولية تقريبا نفس نهج سير إجراءات الدعوى المعمول به في محاكم انجلترا وويلز. كذلك فقد تأثرت طريقة الاستدلال المنطقي لقضاة محكمة قطر الدولية وأصبحت مشابهة لقضاة المحاكم التجارية الانجليزية في القضايا المماثلة.
إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال بإدراج محكمة قطر الدولية تحت لواء النظام القضائي الانجلوسكسوني أو نظام القانون العام (Common Law)، حيث إن المحكمة غير ملزمة قانونياً بتطبيق السوابق القضائية الإنجليزية أو السوابق القضائية الصادرة في الدول ذات النظام القضائي الانجلوسكسوني أو العام على الدعاوى المنظورة أمامها، كما أن المحكمة غير ملزمة قانونا باتباع المبادئ القانونية التي توصلت إليها تلك السوابق القضائية في القضايا المستقبلية المشابهة. وعلى ذلك، فلا يكون للأحكام الصادرة في الدول ذات أنظمة القانون العام حُجيّة في القضايا المشابهة المنظورة في محكمة قطر الدولية. إلا أنه في الواقع العملي، فإن الخصوم المتقاضين أمام محكمة قطر الدولية غالبا ما يستدلون إلى الأحكام في القضايا المشابهة في محاكم الدول ذات أنظمة القانون العام، وذلك لتسليط الضوء على النهج التي اتبعته تلك المحاكم في التعامل مع تلك القضايا، إذ قد تسترشد المحكمة بهذه القضايا لتحديد كيفية التعامل مع القضية المنظورة أمامها. وقد تشير محكمة قطر الدولية من وقت لآخر في حيثيات أحكامها إلى الاحكام الصادرة في دعاوى مشابهة في دول أخرى على سبيل الاسترشاد، إلا أن المحكمة غير ملزمة بإتباع تلك الأحكام كما أشرنا سابقا، حيث إن المحكمة تطبق على الدعوى المنظورة أمامها التشريعات المحددة ذات العلاقة، وتتوصل إلى الأحكام بناء على استدلالها وعقيدتها المستمدة من فهمها للوقائع وملابسات الدعوى. كذلك، تضع محكمة قطر الدولية أحكام محكمة التمييز القطرية موضوع إكبار وتقدير، وقد أشارت محكمة قطر الدولية في العديد من أحكامها إلى الاحكام والمبادئ التي أقرتها محكمة التمييز في قضائها.
وفي الختام، نرى أن معرفة الاختلاف بين نظامي التقاضي المعمول بهما في الدولة هو أمر ضروري ومهم لكافة العاملين في الحقل القانوني بالدولة، لما لذلك من أثر مهم على الإجراءات المتبعة أمام المحاكم في الدولة وعلى الإجراءات المتبعة أمام محكمة قطر الدولية.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7899
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6750
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3465
| 12 أكتوبر 2025