رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جاءت فكرة إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار بمبادرة من البنك الدولي إدراكا منه لأهمية إيجاد آلية قانونية مؤسسية تُعزِّز ثقة المستثمرين الأجانب في بيئة الاستثمار العالمية، وتحد من مخاطر اللجوء إلى القضاء الوطني، والذي قد يفتقر –في نظر المستثمر الأجنبي، ولا سيما في بعض الدول– إلى معايير الحياد والاستقلالية اللازمة للفصل في المنازعات ذات الطابع الاستثماري. وفي هذا الإطار، بادر البنك الدولي إلى إجراء مشاورات موسعة خلال الفترة الممتدة من عام 1961 إلى عام 1965، شارك فيها ممثلون عن ستٍ وثمانين دولة، وأسفرت عن اعتماد «اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى» المعروفة اختصاراً باتفاقية واشنطن – بتاريخ 18 مارس 1965. وبموجب هذه الاتفاقية، تم إنشاء المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) بوصفه هيئة مستقلة ضمن مجموعة البنك الدولي، ويختص بتقديم خدمات التحكيم والتوفيق في المنازعات الناشئة عن الاستثمارات الأجنبية وتهدف الاتفاقية إلى إرساء إطار قانوني مؤسسي لتسوية المنازعات بين الدولة المضيفة والمستثمر الأجنبي، بما يُعزّز من مفهوم اليقين القانوني، ويُسهم في تهيئة مناخ استثماري مستقر وعادل. وعلى الرغم من ذلك، يُؤخذ على الاتفاقية عدم تضمينها تعريفاً دقيقاً لمفهوم «الاستثمار»، وهو ما ترك للهيئات التحكيمية حرية تقدير ماهية الأنشطة التي تندرج ضمن هذا المفهوم، وفقاً لمعايير اجتهادية مرنة. وقد دخلت الاتفاقية حيّز النفاذ بتاريخ 14 أكتوبر 1966، عقب بلوغ عدد الدول المصدقة عليها عشرين دولة. وقد حظيت الاتفاقية منذ نشأتها بقبول متزايد من قبل الدول النامية، لا سيما من القارة الإفريقية، في حين أبدت بعض دول أمريكا اللاتينية تحفظات عليها.
وفي عام 1978، أُضيفت قواعد التسهيلات الإضافية (Additional Facility Rules) لتوسيع نطاق خدمات المركز لتشمل بعض الحالات التي لا يتوافر فيها شرط الاختصاص الكامل. وعلى مرّ العقود، اتسع نطاق الدول الأطراف في الاتفاقية، ليبلغ عدد الدول التي صادقت عليها 158 دولة حتى عام 2024، بالإضافة إلى سبع دول أخرى وقّعت على الاتفاقية دون أن تستكمل إجراءات التصديق. وقد انضمت دولة قطر إلى اتفاقية تسوية منازعات الاستثمار بين الدول ومواطني الدول الأخرى – المعروفة بـ»اتفاقية واشنطن» – بتاريخ 21 ديسمبر 2010، وصادقت عليها بموجب المرسوم الأميري رقم (5) لسنة 2011 الصادر بتاريخ 14 فبراير 2011. وإعمالًا لأحكام الاتفاقية، فقد أدرجت دولة قطر شرط اللجوء إلى التحكيم أمام المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار (ICSID) في عدد من الاتفاقيات الثنائية التي أبرمتها بشأن تشجيع وحماية الاستثمارات، باعتبار أن التحكيم أمام المركز يُعدّ من أبرز الآليات القانونية المعتمدة لتسوية المنازعات الناشئة بين الدولة والمستثمر الأجنبي. وقد شملت هذه الاتفاقيات دولًا متعددة، من بينها – على سبيل المثال لا الحصر – فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وسويسرا، والبرتغال، وفنلندا، وقبرص، وأوكرانيا، والصين، والهند، وباكستان، و كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وتركيا، وبنما، وكوت ديفوار، و السودان، والمملكة الأردنية الهاشمية. وفيما يتعلّق بنطاق الاختصاص لدى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار، فقد بيّنت المادة (25) من اتفاقية واشنطن الشروط التي يتوجب توافرها لانعقاد ولاية المركز للنظر في النزاع، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: الاختصاص الشخصي: يشترط أن يكون أحد طرفي النزاع دولة متعاقدة في الاتفاقية أو أحد الكيانات التابعة لها، وأن يكون الطرف الآخر مستثمرًا يتمتع بجنسية دولة أخرى طرف في الاتفاقية. ثانياً: الاختصاص الموضوعي: يتطلب أن يكون النزاع ناشئاً بصورة مباشرة عن استثمار. وقد تركت الاتفاقية تحديد مفهوم «الاستثمار» للهيئات التحكيمية، التي استقرت على جملة من المعايير المرنة لتحديد ما يُعدّ استثماراً في السياق الدولي. ثالثاً: الرضا الصريح: وهو شرط جوهري لانعقاد ولاية المركز، إذ لا ينعقد الاختصاص إلا بتوافر رضا صريح ومكتوب من كلا الطرفين، سواء أكان ذلك من خلال إدراجه في العقد الاستثماري، أو النص عليه في التشريع الوطني، أو تضمينه في الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. ووفقاً للمادة (26)، فإن منح الولاية التحكيمية للمركز يرتب أثراً قانونياً مزدوجاً، فهو يجعل هذه الولاية نهائية وغير قابلة للإلغاء من طرف واحد، ويؤدي إلى اختصاص حصري للمركز دون غيره. و يتميّز النظام القانوني المعتمد لدى المركز الدولي لتسوية منازعات الاستثمار باستقلاله التام عن الرقابة القضائية الوطنية، إذ لا يجوز لمحاكم الدول التدخل في إجراءات التحكيم أو مراجعة القرارات أو الأحكام الصادرة عن المركز، والتي تُعد واجبة النفاذ بذات القوة المقررة للأحكام القضائية الوطنية في الدول الأطراف، وذلك عملاً بالمادة (54) من اتفاقية واشنطن، مع الأخذ في الاعتبار ما تقرره قواعد القانون الدولي من حصانات للدول، ودون المساس بالحماية المقررة لأصولها ذات الطابع السيادي من إجراءات التنفيذ الجبري. وبحسب الإحصائية الرسمية الصادرة عن المركز، فقد بلغ إجمالي القضايا المسجّلة لديه منذ إنشائه وحتى 31 ديسمبر 2024، ما مجموعه (1022) قضية، توزّعت ما بين دعاوى أُقيمت استناداً إلى أحكام اتفاقية واشنطن وأخرى بُوشرت وفقاً لقواعد التسهيلات الإضافية. وقد شهد عام 2024 وحده تسجيل (53) قضية جديدة، في دلالة واضحة على تنامي الثقة الدولية بآلية المركز، بوصفها إطاراً مؤسسياً راسخاً لتسوية المنازعات الاستثمارية، يتّسم بالحياد والاستقلال وسرعة الفصل وقابلية التنفيذ عبر الحدود.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
4776
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3333
| 21 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2865
| 16 أكتوبر 2025