رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أصدر سعادة وزير التجارة والصناعة القرار رقم (39) لسنة 2025 بشأن القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال. ويُعد هذا القرار خطوة مهمة نحو تعزيز البيئة القضائية المتخصصة داخل مركز قطر للمال، بما يواكب المعايير الدولية ويُلبي متطلبات العدالة التجارية المعاصرة. وقد جاء القرار ليُعيد تنظيم الإجراءات القضائية أمام المحكمة، مُلغياً القرار السابق رقم (1) لسنة 2011 بشأن القواعد والإجراءات المتبعة أمام المحكمة المدنية والتجارية للمركز، وذلك في إطار تحديث شامل لمنظومة التقاضي في مركز قطر للمال.
وقد نُشر القرار في الجريدة الرسمية بتاريخ 30 مايو 2025، ودخل حيّز النفاذ في اليوم التالي لنشره، أي اعتباراً من 1 يونيو 2025. ويتضمن القرار الجديد 38 مادة تُغطي مختلف مراحل إجراءات الدعوى، ابتداءً من قيدها وحتى صدور الحُكم وتنفيذه.
وقد أكدت المادة (3) من القواعد الجديدة ما سبق أن نص عليه القرار السابق رقم (1) لسنة 2011 (الملغى)، من أن المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال هي محكمة قطرية ذات طبيعة دولية، وتسمح للأطراف حرية اختيار اللغة الإجرائية، سواء باللغة الإنجليزية بما يتناسب مع طبيعة الشركات الدولية المؤسسة في المركز والمناطق الحرة، أو باللغة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للدولة وفقاً لأحكام الدستور القطري. ويُعد ذلك تأكيداً على مرونة النظام القضائي بالمركز، بما يراعي تنوّع الأطراف واحتياجاتهم العملية.
الإيداع الإلكتروني للمستندات
ومن أبرز مظاهر التحديث الإجرائي ما ورد في المادة (8) من القرار، والتي أجازت للأطراف إيداع المستندات أو الإخطارات إلكترونياً، سواء عبر البريد الإلكتروني أو من خلال النظام الإلكتروني للمحكمة، دون اشتراط الإيداع الورقي، ما لم يقرِّر خلاف ذلك قلم المحكمة أو القاضي المختص. ويُعدّ هذا التطوير نقلة نوعية تُسهم في تسريع الإجراءات وتوفير قدر كبير من المرونة، لا سيّما في القضايا التي تشمل أطرافاً دوليين أو مكاتب تمثيل قانونية خارج الدولة، حيث يمكن تقديم المذكرات والمرفقات إلكترونياً دون الحاجة إلى الحضور الفعلي أو التسليم الورقي، مما يقلل من الأعباء الإدارية والتكاليف المالية على الأطراف.
الإعلان عبر العنوان الوطني
ومن أهم التعديلات أن القواعد الجديدة اعتمدت وسيلة الإعلان عبر «العنوان الوطني»، وهي وسيلة مستحدثة ضمن هذه القواعد، وذلك استناداً إلى القانون رقم (24) لسنة 2017 بشأن العنوان الوطني، والذي اعتبر الإعلانات القضائية والإخطارات الرسمية التي تتم على العنوان الوطني صحيحة ومنتجة لكافة آثارها القانونية. وبناءً عليه، أصبح بإمكان الأطراف، وفقاً للقواعد الجديدة، إجراء الإعلان عبر العنوان الوطني، إلى جانب وسائل الإعلان التقليدية، مثل الإعلان الشخصي، أو عبر البريد، أو البريد الإلكتروني، أو الفاكس، بل وحتى عبر الوسائل التي يتفق عليها الأطراف. ويُسهم هذا التنوع في وسائل الإعلان في تحقيق قدر أكبر من اليقين الإجرائي، ويُقلل من احتمالات الطعن في صحة الإعلان متى تم وفق إحدى الوسائل المعتمدة.
الجلسات عبر وسائل الاتصال الحديثة
ومن أهم التعديلات أيضاً، ما نصّت عليه المادة (29) من القرار الجديد بشأن إمكانية عقد جلسات المحكمة باستخدام وسائل الاتصال الحديثة، وهو تطور إجرائي مهم يواكب التحديات العملية، كما حدث إبان جائحة كوفيد أو عند تعذّر حضور أحد الأطراف أو كليهما شخصياً إلى المحكمة. وتوفّر الإجراءات الجديدة إمكانية عقد الجلسات عن بُعد عبر تقنيات الاتصال المرئي أو المسموع، مما يمنح مرونة أكبر في إدارة الجلسات ويسهم في تسريع عملية التقاضي، وفقاً لما تراه المحكمة مناسباً لطبيعة النزاع وظروفه. وتُدار هذه الجلسات من مقر المحكمة داخل الدولة، مما يُمكّن المحكمة من الفصل في النزاعات بفعالية ومرونة، ودون المساس بمبدأي المواجهة والعلنية.
الحُكم الغيابي وفق المادة (22): تنظيم دقيق ومتوازن
كذلك، من أهم التعديلات ما جاءت به المادة (22)، حيث نظّمت آلية إصدار الحكم الغيابي بشكل مفصّل، إذ أجازت للمدعي، في حال تخلّف المدعى عليه عن تقديم دفاعه، أن يتقدّم بطلب إلى قلم المحكمة للحصول على حكم غيابي، سواء كانت المطالبة بمبلغ محدد أو غير محدد.
ويتمتع الحكم الغيابي بذات حجية الأحكام العادية، ويمكن تنفيذه وفق قواعد التنفيذ. كما أجازت المادة للمدعى عليه أن يتقدّم بطلب لإلغاء أو تعديل الحكم الغيابي إذا أثبت وجود أوجه دفاع جدّية أو أسباب وجيهة أخرى، مع اشتراط أن يتم تقديم الطلب على وجه السرعة، بما يعزز مبدأ الموازنة بين العدالة الناجزة وضمانات التقاضي.
نظام استئناف مرن وآلية فحص أولي
ومن التعديلات الجوهرية التي جاءت في القرار الجديد، ما نصّت عليه المادة (36)، والتي استحدثت آلية فحص الطعون الاستئنافية قبل قبولها، حيث تُشكَّل دائرة من ثلاثة قضاة لفحص مدى جدية الطعن قبل عرضه على الدائرة الاستئنافية، ويُعد قرار الرفض نهائياً وغير قابل للطعن. وتُسهم هذه الآلية في الحد من الطعون الكيدية وحماية وقت المحكمة.
دور قاضي التنفيذ
وفي سبيل تعزيز تنفيذ الأحكام الصادرة عن المحكمة، أكّد القرار الجديد على صلاحية رئيس المحكمة في تعيين أحد قضاة المحكمة ليشغل منصب قاضي التنفيذ، وهو ما يُشكل ضمانة تنظيمية مهمة لتعزيز فاعلية التنفيذ القضائي في مركز قطر للمال. ويتمتع قاضي التنفيذ بصلاحيات تشمل النظر في طلبات التنفيذ والإشراف على الإجراءات المرتبطة بها، بما يضمن سرعة الاستجابة، ويعزز الثقة في قدرة المحكمة على إنفاذ أحكامها داخل الدولة، ويؤكد على التزامها بضمان وصول الحقوق لأصحابها.
خاتمة
يُعد القرار الوزاري رقم (39) لسنة 2025 نقطة تحوّل نوعية في تنظيم إجراءات التقاضي أمام المحكمة المدنية والتجارية لمركز قطر للمال، لما تضمّنه من أحكام دقيقة وشاملة في مجالات الإعلان، والإيداع الإلكتروني، والحُكم الغيابي، ومرونة الحضور والانعقاد، بالإضافة إلى تطوير منظومة الاستئناف. ويُتوقع أن يُعزز هذا الإطار الجديد ثقة المُستثمرين والمُتقاضين في فعالية القضاء التجاري المُتخصص في دولة قطر، ويدعم مكانة مركز قطر للمال كمظلة قانونية متكاملة ذات طابع دولي في قلب المنطقة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
4317
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
4059
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
3840
| 29 سبتمبر 2025