رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

فاطمة العتوم

كاتبة قطرية - مستشار الصحة البيئية
[email protected]
@faalotoum

مساحة إعلانية

مقالات

483

فاطمة العتوم

«مب زين حق عينك»

19 نوفمبر 2025 , 03:00ص

في إحدى قاعات الانتظار بمركز صحي مزدحم، جلس طفل صغير لا يتجاوز الثالثة من عمره بهدوء إلى جانب والده وخادمته، ممسكًا بجهاز جوال يتنقل بين مقاطع الفيديو . نظرت إليه وقلت ممازحة: «مب زين حق عينك”»، فابتسم والده ورد قائلاً: «أخذ اليوم تطعيمه ونحاول التخفيف من الألم..لم يكن هذا المشهد غريبًا، فقد أصبح مألوفًا في حياتنا اليومية أن نرى أطفالًا بالكاد يتحدثون، تتدلى بين أيديهم الأجهزة الذكية وكأنها امتداد لأصابعهم الصغيرة. لكن ما يبدو وسيلة بريئة لإشغال الطفل أو تهدئته يخفي خلفه خطرًا صامتًا يهدد صحته ونموه.

توصيات منظمة الصحة العالمية والأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال تنص بوضوح على ضرورة عدم تعريض الأطفال دون سن الرابعة للشاشات الإلكترونية مطلقًا، والاكتفاء بمدة لا تتجاوز ساعة واحدة يوميًا لمن تجاوزوا هذه السن، وتكون تحت إشراف الوالدين. السبب بسيط لكنه جوهري: أجسام الأطفال وأجهزتهم العصبية والبصرية ما زالت في طور النمو، وأي تحفيز مفرط أو تعرض مطوّل للضوء المنبعث من الشاشات يربك هذا النمو الطبيعي ويؤثر على توازنهم الجسدي والعقلي.

وقد كشفت دراسات طبية حديثة أن الأطفال الذين يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات يعانون من إجهاد العين وجفافها بسبب الإضاءة القوية والتركيز المستمر، إضافة إلى اضطرابات في النوم نتيجة تأثير الضوء الأزرق على هرمون الميلاتونين المسؤول عن النوم. كما رُصدت حالات تأخر في تطور اللغة وضعف في مهارات التواصل الاجتماعي بسبب انشغال الطفل بالعالم الرقمي وابتعاده عن التفاعل الإنساني المباشر، وهو أحد أهم ركائز النمو العقلي والعاطفي في هذه المرحلة الحساسة من العمر.. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تشير تقارير طبية إلى علاقة وثيقة بين الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية وزيادة معدلات السمنة والخمول لدى الأطفال نتيجة قلة النشاط الحركي، فضلاً عن ضعف التركيز وتشتت الانتباه.

ورغم معرفة كثير من الأهالي بهذه المخاطر، يجدون أنفسهم في مأزق بين حاجة الطفل للتهدئة وحاجتهم للانشغال أو الانتظار، فيلجؤون إلى الحل الأسهل: الجهاز الإلكتروني. لكن البدائل موجودة ومتاحة، وتحتاج فقط إلى القليل من الصبر والوعي. يمكن للوالدين حمل بطاقات الصور أو الحروف لمراجعتها مع الطفل، أو اصطحاب ألعاب التركيب والمكعبات التي تنمي الخيال والتركيز. كما يمكنهم قراءة القصص المصورة أو تشجيع الطفل على اللعب اليدوي البسيط كالعجين أو الألوان، فهذه الأنشطة ترفّه عنه وتبني في الوقت ذاته جسورًا من التواصل الحقيقي بين الطفل ووالديه.

ولا تقتصر المسؤولية على الأسرة وحدها، بل تمتد إلى المراكز الصحية والمدارس والمؤسسات التربوية التي يمكنها المساهمة في نشر الوعي من خلال وضع لوحات توعوية تحمل رسائل بسيطة مثل: «الجهاز ليس لعبة آمنة لطفلك» أو «عينا طفلك تستحقان الراحة». كما يمكنها توزيع نشرات إرشادية للأهالي وتنظيم فعاليات تفاعلية للأطفال تشجع على الأنشطة الواقعية وتحد من الإدمان الرقمي المتسلل إلى تفاصيل حياتهم اليومية.

وقد حذّرت مؤسسات صحية قطرية من هذا السلوك المتنامي. ففي دراسة وطنية أصدرتها مؤسسة الرعاية الصحية الأولية (PHCC) عام 2022، تبين أن الاستخدام المطوّل للأجهزة الرقمية لدى الأطفال والمراهقين ارتبط باضطرابات في النوم وزيادة السلوكيات الخاملة. كما أوصت مؤسسة حمد الطبية (HMC) بعدم السماح للأطفال دون سن الثانية باستخدام الشاشات الترفيهية، والتنبيه على مراقبة الوقت المخصص لها لتفادي إجهاد العين والمشكلات البصرية.

إننا اليوم أمام تحدٍ صحي وتربوي حقيقي، فبينما نبحث عن وسيلة لإسعاد أطفالنا أو تهدئتهم، قد نغفل عن أننا نسلبهم شيئًا أثمن: بريق عيونهم وصفاء عقولهم. فلنكن أكثر وعيًا، ولنتذكر دائمًا أن الشاشات ليست لعبة آمنة، وأن طفولتهم تستحق الحماية والرعاية.

مساحة إعلانية