رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

محمد أحمد بكري

كاتب ومؤلف
حساب X ( تويتر): @e6n

مساحة إعلانية

مقالات

720

محمد أحمد بكري

غرباء

16 مايو 2025 , 12:10ص

غرباء في مرايا أقرب الناس.

بقلم: كاتب جرّب الحنين حتى صار له مسكنًا، وتشرّب من الحياة مرّها حتى سال منه الحبر. في زاوية هادئة من القلب لا يصل إليها ضجيج الحياة، تنمو حقيقة مؤلمة بصمتٍ ناعم: لسنا دومًا مرئيين كما نحن بل كما يظنون أننا يجب أن نكون.

نكون وسط من نحب ونشاركهم الضحكة واللقمة والذكريات، لكن شيئًا في العمق يهمس: «لست منهم تمامًا»، وكأننا ظلٌّ يعبر حياتهم، لا روحًا تسكنها. نكتشف أننا لا ننتمي للمكان ولا للوجوه التي تملؤه. نحن لا نختار أن نكون غرباء، لكننا نصبح كذلك حين نكفّ عن ارتداء وجوهٍ لا تشبهنا. حين نختار أن نكون صادقين مع أنفسنا أكثر من حرصنا على قبول الآخرين. حين نتوقف عن تلوين جراحنا كي لا تُرى وحين نُعلن دون صوت أن لنا طريقتنا في الفهم وفي الحب وفي التعبير وفي الانهيار. حين لا نُجيد المجاملة التي تحفظ العلاقات ولا نصفق لما لا نؤمن به.

الغربة الحقيقية ليست بُعدًا عن الوطن بل بُعدًا عن المعنى.

أن يتحدثوا إليك بلغتهم، ولا يسمعوا لغتك. أن تُخبرهم بأنك لست بخير، فيُجيبوك: «لكن وجهك لا يُظهر ذلك!» وكأن الألم يحتاج إلى تصريح، وكأن الانكسار لا يُحسب إن لم يُذع. في عيونهم نحن صامتون. لكن في داخلنا ضجيج مرافعات لم يسمعها أحد. نضحك كي لا تُقال عنا كآبة، ونُنجز كي لا يُقال إننا عاطلون، ونبقى كي لا نُتَّهم بالخذلان. لكن لا أحد يسأل: كم مرة أعدنا لملمة أرواحنا في منتصف الليل؟ كم مرة سكتنا لأن الكلام بات عبئًا لا يحتمل؟ الغريب لا يبحث عن ضوءٍ خارجي، هو يعرف أن نوره في الداخل ينتظر فقط لحظة السماح بالظهور. الغريب ليس مكسورًا، الغريب صادق أكثر من أن يتظاهر. وإذا كان هذا العالم لا يحتمل الصدق، فأنتَ لا تحتمل الزيف. ومع كل هذا، نواصل التمثيل. نرتدي القناع صباحًا، ونخلعه سرًا في عتمة غرفنا. نُطمئن الجميع بأننا أقوياء، ثم ننهار على وسادة لم تعد تشتم رائحتنا، لكثرة ما شربت من دمع صامت. أن تبوح فلا يُصدقك أحد، وأن تفتح صدرك فيُقال إنك درامي، وأن تحتاج فيُظن بك ضعف، وأن تحب بطريقة مختلفة فيُتهم قلبك بالغرابة. ولأجل أن تُقبل، تُضطر إلى أن تُمثل وأن تتحول إلى نسخة مخففة من نفسك. لكن التنازل المستمر خيانة صامتة للذات، وكل خيانة منها تُخلّف نُدبة، لا تُرى لكنها تُوجع. لكن الغربة مهما اشتدت ليست نهاية. إنها بداية الولادة الجديدة. بداية التخلي عن محاولات الإقناع والتبرير والرغبة في أن نُفهم.

فيا من تقرأ ويا من شعرت بهذه الغربة دون أن تُسميها، لا تُعدّل نفسك لتناسب مراياهم، فهم لا يرون إلا انعكاس توقعاتهم، لا حقيقتك. وإن شعرت أنك تسير وحدك، فاعلم أن هناك من يشبهك في مكانٍ ما، يخفي هو الآخر شعوره بغُربةٍ لاذعة، ويقاومها بابتسامةٍ ناضجة، لا ساذجة. ابقَ كما أنت، مهما قالوا حتى لو كنت آخر المختلفين. ففي زمنٍ تماهى فيه الجميع، صرتَ أنت الحقيقة الأخيرة.

ولا تنسَ أبدًا، أن الأشجار العتيقة لا تُظهر وجعها، لكنها تصمد وتنمو وتظل واقفة حتى وإن لم يُصفق لها أحد. ابكِ واكتب وابتسم، لكن لا تفقد صوتك. لا تنطفئ كي تُرضي أحدًا، فالعتمة حينها ستكون مزدوجة، فيك وفيهم. حين لا يفهمك أحد، لا تُضِع عمرك في التفسير. كن مرآتك الخاصة، واسمح لنفسك أن تكون كما أنت، لا كما يتمنّونك. ومن بين كل المرايا، ابحث عن تلك التي تعكس روحك، لا مظهرك. عمن يرى فيك ما لم تقله، ويفهم صمتك أكثر من حديثك. ابقَ غريبًا إن كان ذلك يعني أن تبقى حقيقيًّا.

ففي عالمٍ يعجُّ بالمُتقمّصين، الغريب هو آخر الصادقين.

 

مساحة إعلانية