رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي وتزداد فيه الفجوات الاجتماعية، يبقى البعد الإنساني أساسياً لا يمكن تجاهله، كما قال غاندي «الإنسان هو الذي يجب أن يكتسب القيم، وليس القيم التي يجب أن تكتسب الإنسان»، هذه الكلمات تلخص أهمية الحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة التحديات المعاصرة، يتطلب البعد الإنساني أن نتذكر دائماً أننا لسنا مجرد أرقام أو معطيات، بل نحن قصص وحكايات مليئة بالتجارب والمشاعر، إن فهم هذا البعد يمكن أن يعزز من تواصلنا ويدعم بناء مجتمعات أكثر إنسانية وتعاوناً.
وفى تعريف بسيط للبعد الإنساني، اعتقد أنه تعبير عن القيم والمبادئ التي تربط الأفراد والمجتمعات، ويتضمن التعاطف، والاحترام، والتفاهم، ويركز على الجوانب الإنسانية التي تجعل الحياة ذات مغزى، ويعكس الحاجة إلى التواصل والارتباط العميق بين الناس، في حياتنا اليومية، بل يُعتبر البعد الإنساني أساس العلاقات الاجتماعية، ومفتاحًا لتطوير مجتمعات صحية ومتوازنة.
والبعد الإنساني أحد أهم جوانب البناء الإيماني، فقد أولى ديننا الحنيف الجانب الإنساني عناية خاصة، فكرَّم الإنسان على إطلاق إنسانيته بغض النظر عن دينه أو لونه أو جنسه أو لغته، فقال سبحانه: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ «، وكان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول:» يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ ربَّكم واحِدٌ، ألَا لا فَضْلَ لعَرَبيٍّ على عَجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لأحمَرَ على أسْوَدَ، ولا لأسْوَدَ على أحمَرَ إلَّا بالتَّقْوى، إنَّ أكْرَمَكم عندَ اللهِ أتقاكم.
وتتأثر العلاقات الاجتماعية بشكل كبير بالبعد الإنساني، التفاعل الإيجابي، مثل الاحترام المتبادل والاستماع الفعّال، يعزز الثقة ويؤدي إلى علاقات أكثر استدامة، فالأفراد الذين يشعرون بتقدير الآخرين يميلون إلى بناء علاقات قوية، مما يساهم في دعم التماسك الاجتماعي، في المقابل، نقص البعد الإنساني، مثل التحيز والتمييز، يؤدي إلى التفكك والعداء، لذا، من المهم تعزيز القيم الإنسانية في العلاقات الاجتماعية لضمان مجتمعات متناغمة.
في بيئة العمل، يلعب البعد الإنساني دورًا محوريًا في تحقيق الإنتاجية والروح المعنوية، عندما يشعر الموظفون بالتقدير والاحترام، فإنهم يكونون أكثر التزامًا وإنتاجية، تعزيز ثقافة العمل القائمة على التعاون والدعم المتبادل يعزز الإبداع ويساعد على مواجهة التحديات بشكل أكثر فعالية، المؤسسات التي تضع البعد الإنساني في صميم استراتيجياتها تُظهر مستويات أعلى من الرضا الوظيفي، مما ينعكس إيجابًا على أداء العمل.
الفنون والثقافة أيضا تعكس البعد الإنساني بطرق متعددة، من خلال الأدب، والموسيقى، والفنون البصرية، يُعبّر الفنانون عن مشاعرهم وتجاربهم الإنسانية، مما يساهم في تعزيز القيم الإنسانية مثل الحب، والتسامح، والصمود، تعزز هذه الأعمال فهمنا المتبادل وتجعلنا أكثر تعاطفًا مع الآخرين، كما تلعب الثقافة دورًا في الحفاظ على الهوية الإنسانية وتعزيز الانتماء للمجتمعات.
ومع التقدم التكنولوجي والعولمة، تواجه الإنسانية تحديات جديدة تهدد البعد الإنساني، تزايد الاعتماد على التكنولوجيا قد يؤدي إلى تقليل التفاعل الشخصي، مما يؤثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تُسهم العولمة في إضعاف الروابط الثقافية والمحلية، مما يزيد من الفجوة بين الأفراد، لذا من الضروري مواجهة هذه التحديات من خلال تعزيز التفاعل الإنساني، والعودة إلى القيم الأساسية التي تربطنا ببعضنا.
التعليم والتربية هما أدوات رئيسية لتعزيز البعد الإنساني، من خلال التعليم، يمكن تعزيز القيم الإنسانية مثل التسامح، والاحترام، والتعاطف منذ سن مبكرة، المناهج الدراسية التي تركز على تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية تُسهم في بناء مجتمع متماسك وقادر على التفاعل الإيجابي، إن تعليم الأطفال كيفية فهم مشاعر الآخرين والاستجابة لها بشكل صحيح هو جزء أساسي من تشكيل شخصية متوازنة وإنسانية.
كما أن البعد الإنساني له تأثير عميق على الصحة النفسية والرفاهية، العلاقات القوية والداعمة تُسهم في تحسين الصحة النفسية وتقليل معدلات القلق والاكتئاب، التعاطف والتواصل الإنساني يُساعدان الأفراد على تجاوز الأوقات الصعبة ويعززان شعور الانتماء، الفهم الروحي للإنسانية يعزز الرفاهية العامة، حيث يشعر الأفراد بأن لديهم دورًا ومعنى في حياتهم.
وهناك العديد من الشخصيات والحركات التي تعزز البعد الإنساني في المجتمع، من أمثال غاندي، الذي دعا إلى السلم والتسامح، هذه النماذج تلهم الأجيال الجديدة للمشاركة في بناء عالم أفضل، وتعكس قوة البعد الإنساني في إحداث التغيير.
بل إن هناك العديد من المواقف في حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم التي تعكس البعد الإنساني، منها التعامل مع الجيران فكان الرسول يُظهر حسن الجوار، حيث كان يُوصي بحسن معاملة الجيران، بغض النظر عن دينهم أو عرقهم. فقد قال: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».، والتعاطف مع الفقراء والمحتاجين: كان الرسول يُعطي من ماله ويحث أصحابه على تقديم العون للمحتاجين. كان يدعو إلى مشاركة الطعام والمال مع الفقراء، مما يعكس قيم التعاطف والإيثار.
وأعطى الرسول أهمية كبيرة للنساء، حيث كان يُعامل زوجاته وأسرته بكل احترام، كما أوصى بحسن معاملة النساء ورفع مكانتهن في المجتمع، وفي موقفه مع قريش، عندما دخل مكة بعد سنوات من الصراع، عفا عن أعدائه الذين آذوه. قال لهم: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، مما يعكس سمو الأخلاق والتسامح، وأظهر الرسول اهتمامه بالحيوانات، حيث كان يُحذر من إهمالها أو الإساءة إليها، فقد قال: «في كل كبد رطبة أجر».، وكان رسول الله يستمع إلى هموم ومشاكل الناس، ويُعطي كل فرد فرصة للتعبير عن رأيه أو مشكلته، مما يعكس احترامه لإنسانية كل فرد.
ختاما.. إن البعد الإنساني يمثل جوهر تجربتنا كأفراد ومجتمعات، يتطلب الحفاظ على هذا البعد تعزيز قيم التعاطف، والاحترام، والتفاهم عبر جميع مجالات الحياة، من خلال العمل الجماعي والمبادرات الواعية، يمكننا بناء مجتمعات مزدهرة ومتوازنة، تُظهر إنسانيتنا وتُعزز من تواصلنا العميق.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
• ناشطة اجتماعية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6633
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6492
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2676
| 28 أكتوبر 2025
