رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
(1)
بمجرد علمي أن وزير الداخلية الجديد ينتمي لمحافظة المنوفية قفز إلى ذهني على الفور ما يلاحظه كل المصريين منذ عصر السادات، حيث سطع نجم المنوفية في معظم مؤسسات الدولة وأصبحت المنوفية رمزا للسلطة ولعل جميعنا يذكر أن وزراء الداخلية زكي بدر وأحمد رشدي وعبد الحليم موسى ينتمون أيضا للمنوفية، كما لا يمكن أن ننسى كمال الشاذلي مايسترو برلمان مبارك ومؤدب المعارضة ومربيها!! ولن ننسى أبدا نموذج سمير رجب الذي يجري استنساخه الآن في كل وسائل الإعلام المرئية والمقروءة على السواء.
وهذا يعود بنا إلى الرسالة التي تلقاها المجتمع المصري في مقابل عملية الاحتلال لكل المؤسسات بهذه الطريقة والتي قوبلت بكمٍّ هائل من النكات بدأت بتفسير هذا الاتجاه لتعبئة كل المؤسسات بمن ينتمون للمنوفية وذلك في عصر السادات ومن بعده مبارك ثم انتقلت للرفض والمقاومة لهذا الاتجاه.. وقد جاء التفسير الأبلغ والذي يرتبط بحالتنا السياسية الحالية، أن أهل المنوفية يتميزون بالانضباط الميري والاستجابة السريعة لنداء الجيش وهو ما عبرت عنه الأهزوجة الشعبية: ضرب البروجي في تلا.. طلعت شبين تلاتات.. سمعت قويسنا الخبر.. استدعت الإجازات.. طلع الحمار من الدرا.. قاله تمام يا سادات.. رد السادات يا حمار.. الجمع مش بالبلغ.. الجمع بالبيادات!!
والأهزوجة هنا تجعل النداء الذي يصدر من مركز "تلا" شمال المحافظة سببا في استنفار المحافظة كلها حتى جنوبها "منوف" ولا يأتي الاستدعاء على أي نحو وإنما على هيئة صفوف منتظمة "تلاتات" والأبلغ من ذلك هو تأكيد السادات عليهم ألا يكون الجمع إلا بالبيادات!!
ثم انتقل المجتمع بعد ذلك لرفض هذا النهج في الحكم عن طريق النكات المصرية المعهودة وهنا أذكر "شاويشا" منوفيا في سجن ليمان طرة وكان ضمن دفعة نهاية الثمانينيات التي جاء بها وزير الداخلية زكي بدر، وكنا نسميهم بالفعل أبناء زكي بدر، لتحل محل الدفعة العتيقة التي استلمت السجون منذ العصر الملكي وكان هذا الشاويش يتمتع بذكاء نادر بين أقرانه وكنت أعتبره صديقا مهما، لأنه كان يتابع كثيرا من الشؤون المصرية وصاحب نكتة سياسية وقد صارحته مرة بحالة "المنيفة" التي تجري لكل المؤسسات، فإذا به يعدني بنكته يومية عن المنوفية تفسر لي المشهد وبالفعل كنت أنتظر خدمته التي كانت 3 مرات في الأسبوع لأتلقى نكتة اليوم!! وكان بمجرد أن يصل بالمفتاح إلى باب زنزانتي أكون واقفا في انتظار نكتة اليوم والتي كانت تستغرق من الضحك الكثير!!
والغريب أنه من وفرة مخزون النكات المنوفية عنده كان إذا تم نقله إلى عنبر آخر بعيدا عن العنبر السياسي، كان ينتهز أي فرصة ليأتي إلى عنبرنا بالنكتة ثم ينصرف إلى عنبره!!
كما تذكرت على إثر تعيين الوزير المنوفي الجديد واقعة طريفة وقعت أثناء سجني في عصر مبارك عند ترحيلي من سجن ليمان طرة إلى سجن الزقازيق في صيف عام 1990 وكان برفقتي عدد من الزملاء المرحلين وكنا قد تعودنا منذ اعتقالنا عام 1981 أن نعمل على توصيل صوتنا ورسالتنا للشعب المصري مهما كلفنا ذلك وكأننا كنا نودع الحياة ونريد أن نبلغ ما ننقذ به ضمائرنا ونؤدي ما رأيناه واجبا علينا تجاه أمتنا.
وكان من بين الوسائل التي تعودنا عليها في ذلك أننا لم نكن ندع فرصة لرؤية "اﻷسفلت"، هكذا يسميه المعتقلون كناية عن الشارع، لأي غرض، سواء كان أثناء الترحيلات للمحاكم أو للسجون اﻷخرى أو للمستشفيات أو حتى الجامعات حينما كان مسموحا باﻻمتحان بها، إلا وقطعنا الطريق كله هتافا، وإن بدا في شكل صراخ تحذيري من المصير الذي ينتظر اﻷمة لو استسلمت لهذا الطغيان وكان من أكثر الهتافات التي هزت وجداني في تلك الفترة: "نعم سنموت ولكننا.. سنقتلع الظلم من أرضنا"، وكنا في الحقيقة لدينا أمل كبير في أن نغير الأوضاع في مصر ونرفع عن شعبها هذا الذل والفقر طويل الأمد ولم تكن تمر بمصر ظروف سياسية إلا واستثمرناها عن طريق الهتاف لصالح ما نراه توعية لشعبنا من الكوارث السياسية التي تحيق بالوطن في ظل استمرار حكم الاستبداد وتحكم المفسدين ومن ثمّ دعونا للانتفاض على هذه الأوضاع الفاسدة.
وقد حاولت الأجهزة الأمنية في نهاية الثمانينيات أن توقف هذه الهتافات بأي شكل، خاصة أن معظمها كان مركزا ومصوبا تجاه شخص مبارك وسياساته الغاشمة، فلم يستطيعوا ذلك فانتهزوا فرصة قرب موعد الإفراج عن فوج من الزملاء عام 1988 كانت قد انتهت محكوميتهم فأرادوا أن يستغلوها فرصة للضغط عليهم من أجل إيقاف الهتافات وإلا سيوقف الإفراج عن الجميع بقرار نيابة يحيلهم لمحاكمة بتهمة إهانة رئيس الجمهورية وقاموا بالفعل بإبلاغنا بذلك، فاستمرت الهتافات كما هي، بل زاد حماسها، فتمت إحالة أول مجموعة للنيابة بتهمة سب وقذف رئيس الجمهورية ولم يكونوا يعلمون أنها تهمة نسعى إليها ونفتخر بها، فذهب الجميع للنيابة معترفا بالجريمة مصمما على كتابة الهتافات التي نرددها في محضر النيابة!! فلم يكن هذا الفوج متلهفا للخروج من السجن بقدر ما كان متلهفا لحكم سجن جديد بتهمة سب وقذف السيد رئيس الجمهورية محمد حسني مبارك!!
وكانت المفاجأة أن اكتشفت الرئاسة بعد كل هذه الإجراءات أنه لا يجوز رفع هذه الدعوى إلا بطلب مباشر من رئيس الجمهورية نفسه وهو ما يتعارض مع ما كان حريصا عليه حينها، وما كان مرسوما له بدقه من قبل راسمي سياساته، وهو ألا يقف في خصومة مباشرة مع أحد، فتم حفظ القضية واستمرت الهتافات التي يعتبرها النظام سبا وقذفا للسيد رئيس الجمهورية!!
في أحد هذه الترحيلات والذي كان من سجن ليمان طرة إلى سجن الزقازيق، قطعنا الطريق كله هتافا، خاصة كلما اقتربنا من الجمهور أو حتى السيارات المجاورة لسيارة الترحيلات. وكنا نندد في هتافاتنا بحكم مبارك وظلم مؤسساته، خاصة الداخلية، وبيعه لكل مقدرات مصر ولاسيَّما للكيان الصهيوني.
وكان من حظنا أن الهتاف الأخير الذي كنا نردده أمام سجن الزقازيق لحين فتح الأبواب لدخولنا هو: "إسلامية إسلامية.. لا شرقية ولا غربية"، وتصادف أن استمر الهتاف حتى فتحت أبواب السجن وبدأنا في النزول من سيارة الترحيلات ودخلنا ما يسمى بالتشهيلات وأغلق باب السجن العمومي.
وبدأ الصولات الخبراء بشؤون السجون يقومون بمهامهم الروتينية من تسجيل في الدفاتر وتفتيش الضيوف الجدد!! وهؤلاء لم تكن قد تخلت الداخلية عنهم بعد، رغم أن معظمهم يعمل منذ العهد الملكي ومازالت الداخلية تمدد لهم لأنهم كانوا يتمتعون بصفات نادرة من التمسك بالميري والغيرة على كل تعليماته ربما أكثر من ضباط السجون أنفسهم وكان كثير منهم من المنوفية أيضا.
ورغم بدايات الإجراءات إلا أن الشباب كان لا يزال يهتف الهتاف الأخير "إسلامية إسلامية.. لا شرقية ولا غربية" وكان هذا الاستمرار في الهتاف في وعي الشباب صورة من صور رد الفعل المقاوم والرافض لحفلات الاستقبال!! التي كانوا يستقبلوننا بها في فترات سابقة بالضرب والزحف والتنكيل في ذات الأماكن وكأننا كنا نستثمر هذه الهتافات لنقول للسجانة إننا لم نركع ولم نستسلم لجبروتكم، كما كنا نريد أن نؤكد أننا أصحاب رسالة، كما أننا لم ننس السحل والتنكيل الذي لاقيناه في ساحات السجون وعلى أبوابها، والحقيقة أنني كنت أعتبرها صورة من صور استعادة الكرامة والهيبة وقد كانت الهتافات بالفعل تؤرقهم ويتمنون أن تنتهي بأي شكل..
لمحت أثناء الإجراءات أن الصول الممسك بالدفتر والقلم ويقف متخندقا خلف كتلة خراسانية كبيرة ويكتب أسماءنا، أنه كان يكتب بعصبية شديدة وبجواره صول آخر متهلل من الضحك، يكاد أن يغرق فيه، ومع ذلك فقد بدت عليه علامات المكر والدهاء، ثم فجأة انتفض الصول الممسك بالدفتر ونحن نهتف "لا شرقية ولا غربية"، قائلا: و"لا منوفية"!! ثم ضرب الدفتر الكبير بالأرض ثم انهال ضربا على الصول الذي يضحك!!
فكانت أول مهامنا في سجن الزقازيق هي أن أوقفنا الهتاف وبدأنا في فض الشجار الذي هز هيبة الشرطة ومرغ بالباريهات الميري التراب.. والحقيقة أنني لم أفهم لماذا وقع هذا الشجار فجأة ودون مقدمات ولم أدرك علاقة هتافنا بهذه المعركة إلا عندما نبهني لذلك أحد زملائي الشرقاوية والذي كان يعرف مظاهر الخلاف بين الشرقاوية والمنايفة والذي جعل الصول المنوفي يتخيل أن هتاف لا شرقية ولا غربية هو هجوم على محافظتي الشرقية والغربية وأن هذا الهتاف بالضرورة هو لحساب المنوفية!!
قفزت إلى ذهني مع ذكرى هذه الواقعة عدة علاقات وإن كنت أفضل صياغتها في هيئة تساؤلات:
هل هناك صراع دفين على النفوذ داخل مؤسسات الدولة بين أهل المنوفية وأهل الشرقية؟
وهل لذلك علاقة بأن يقوم وزير الدفاع المنوفي عبد الفتاح السيسي بالمكر بأول رئيس شرقاوي يصل لكرسي الحكم وهو د. محمد مرسي، ثم ينقلب عليه هذا الانقلاب المدوي ويظفر فعلا بقصر الرئاسة؟!
ثم هل وزير الداخلية المنوفي الجديد مجدي عبد الغفار تم اختياره مصادفة بعد أن تمت إحالته للمعاش، أم أن هناك منظومة حكم ذات طابع معين يجري بناؤها؟!، خاصة أن أهم أركان الحكم الحالي ينتمون لمحافظة المنوفية ابتداء من رئيس النظام عبد الفتاح السيسي ثم رئيس الوزراء إبراهيم محلب ووزير الدفاع صدقي صبحي وأخيرا وزير الداخلية مجدي عبد الغفار.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
5205
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
4893
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4407
| 29 سبتمبر 2025