رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لا أظن مسلماً مؤمناً لم يبتهج لانتصارات كتائب القسام فجر السبت الفائت.. فإن أضعف الإيمان في مثل هذه المواقف من زمن عربي مسلم متهالك ومتخاذل، هو أن يفرح المسلم لأي إنجاز يكسر شوكة وكبرياء وغطرسة ملة الكفر، التي توحدت وتوحشت، وهذا ما تم قبل أيام ولله الحمد.
طوفان الأقصى، اسم سيخلده التاريخ العربي المسلم، وسيكون اسماً بارزاً خالداً لواحدة من معارك المسلمين ضد غطرسة بني صهيون، الذين ما تعملقوا وتوحشت قلوبهم إلا بما كسبت أيدينا، أو بما اقترفناه في حقوق البلاد والعباد من مظالم بين بعضنا البعض، إضافة إلى بُعدٍ أو ابتعاد متدرج بدأ بطيئاً حتى تسارع مؤخراً، عن منهج الله والصراط المستقيم. وبالتالي صارت وحشية بني صهيون والهندوس وبعض عباد الوثن والحجر، كأنما عقوبة إلهية أولية لأمة المسلمين على ما فرطت في دينها ومنهجها الإيماني. لقد تابع الجميع وشاهد كيف صار النفاق واضحاً في أمة المسلمين، وإلى أي مدى من الهوان والذلة وصلتها. وبعد أن كانت أحداث فلسطين تحرك الشارع المسلم من جاكرتا حتى طنجة، انحسرت تدريجياً حتى صارت من صنعاء إلى طنجة.. وعلى هذا المنوال طوال خمسة عقود، حتى تدهور الوضع العربي المسلم فصارت أحداث الأقصى لا تحرك سوى جموع قليلة متناثرة هنا وهناك، وهذا ما لاحظناه في أحداث طوفان الأقصى المستمرة حتى يوم الناس هذا، على عكس ما يحدث مع دولة الاحتلال الصهيوني، والدعم اللامنقطع لها من الغرب وبعض الشرق، دولاً ومؤسسات وأفراد !
الهدف ليس فلسطين
لن نخوض في تفاصيل الأحداث، فهي ما زالت جارية ويتابعها العالم ليلاً ونهارا، ولا تتوقف سيل الأفلام والصور والأخبار والتحليلات حولها، لكن الذي لا يمكن تجاوزه هو ذاك النفاق الغربي، السياسي منه والإعلامي، الذي كثيراً ما كان يتستر تحت أغطية وواجهات حقوق الإنسان والحريات والديمقراطيات في الترويج لنفسه كراع للتقدم والتحضر، فإذا هو أساس البلاء المستمر على أهلنا في فلسطين عامة، وغزة بشكل خاص. ذلكم جانب أول في الأحداث. أما الجانب الثاني، فقد تأكد للقاصي والداني، كم هي أمة العرب تحديداً تخسر بارتمائها في أحضان الغرب والشرق، والاستمرار في ظلم نفسها بابتعادها عن دينها ومنهج حياتها. فلا الارتماء في أحضان المعسكرات الغربية أفادتها، ولن يكون كذلك التطبيع مع عدو يعترف بعداوته لك، يفيدها. كما أنه لن يكون إظهار التحضر للعالم، عبر الانسلاخ من الدين وقيمه وحضارته، طريقاً للقبول في أنديتهم ومعسكراتهم.
أثبتت أحداث طوفان الأقصى أن الهدف ليس الفلسطينيين فحسب، بل المسلمين أو أمة الإسلام ككيان، والذي طالما أزعج الغرب ظهوره قبل ألف وخمسمائة عام، وصموده رغم كل مؤامرات ومكائد الغرب والشرق المشرك على حد سواء، ورغم كل حروب الإبادة وحملات التهجير والشيطنة..
مخلب قط متوحش
الصهيونية تثبت للعالم كل حين أنها تركيبة متوحشة، أو مخلب قط متوحش يستخدمه الغرب في إدارة مصالحه بالمنطقة، وتحديداً الولايات المتحدة، من بعد أن أنشأتها ورعتها وحافظت عليها حيناً من الدهر، زعيمة الاستعمار في عهد مضى، بريطانيا، أساس كثير من الأزمات في عالم اليوم.
معارك طوفان الأقصى أنعشت الروح الإسلامية، ورفعت بعض الهمة، وأن هذه الأمة رغم كل الدسائس، قادرة على أن تصمد وتستمر وتقاوم ولو بالقليل القليل. ولقد شاهد العالم بذهول كيفية انهيار الصورة الذهنية للجيش الصهيوني في ساعات قليلة أمام ثلة قليلة مؤمنة، بأسلحة خفيفة لا يمكن مقارنتها بما لدى العدو. لكن الفارق هو امتلاك رجال القسام الإيمان، وهو السلاح الأقوى أو السلاح الغائب المغيّب عن مواجهات أمة الإسلام مع الأعداء، وإن تبدلت أشكالهم وصورهم.
طوفان الأقصى لحظة تاريخية تحتاج إلى حُسن استثمار، قبل أن يعبث في فكرتها ومضامينها، الذئاب المنتشرة هنا وهناك، بمعية نخب من صهاينة العرب، التي ساءتها بعض الفرحة التي ألقتها معارك السبت الفائت في نفوس المسلمين حول العالم. إذ لم تقف رسائل التشكيك في أهداف عمليات القسام، وزادت من رسائل التثبيط والإرجاف من أجل التأثير بالنفوس المسلمة، وأمست تشعل نيران كراهية جهاد الصهاينة في النفوس، وتأجيجها على رجال القسام عبر اتهامات زائفة مزيفة، ونشر أخبار مضللة كاذبة، لمزيد تأثير على مصداقية حماس ورجالها. إننا اليوم أمام مشاهد كما لو أننا في أيام معركة الخندق الخالدة. يوم أن تجمع الآلاف من المشركين ويهود الجزيرة لضرب الإسلام والمسلمين، بمعية جيش من المنافقين المرجفين. اليوم تتكرر كل تلك المشاهد. حيث التكاتف الصليبي الصهيوني الهندوسي وغيرهم من مشركي العالم.
الدور الشعبي المطلوب
دورنا كشعوب في هذه اللحظات التاريخية الحرجة، دعم المقاومة بكل ما أوتينا من قدرات ومهارات وقوة. فمن عنده ملكة الخطابة يخطب في الناس، يشرح لهم الوضع بفهم دقيق لما يجري. ومن يملك مهارات الكتابة والتغريد فالأمر بالمثل، والأمر يشمل كل صاحب مهارة في صناعة محتوى إعلامي هادف حول القضية وبكل اللغات الممكنة. كذلك الجانب التقني له أهميته من خلال الحروب الإلكترونية ضد مؤسسات العدو ومسانديه، بالإضافة إلى الخروج في مسيرات سلمية في كل بقعة ممكنة بالعالم، مع أهمية الدعم المالي بصوره المتنوعة.
إن تجمع الأحزاب هذا يجعلنا نستذكر ما قاله الصحابة الكرام يوم الخندق كما جاء في القرآن ( ولما رأى المؤمنون الأحزاب، قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيماناً وتسليما ). نعم إن هذا التجمع الصليبي الصهيوني المشرك ربما بشارة لفرج قريب بإذن الله، لكن بشرط الثبات، كي يرد الله ( الذين كفروا بغيظهم ) ولا ينالون خيراً مما يحدث، مع أمل في الله كبير، أن يلحق بطوفان الأقصى، ما هو أشد على ملة الكفر، كطوفان نوح - عليه السلام - يمسح الأرض ويزيل عنها أهل الشر والفتن.
نعم إن أهل غزة في ابتلاء شديد، وهم دون شك تزلزلوا زلزالاً شديداً كما الصحابة يوم الأحزاب. لكن الأشد من الزلزال الصهيوني العسكري المتوحش، فتن المنافقين والمرجفين من حولهم وهم كُثُر، بل يتكاثرون كل ساعة، خاصة في أوقات الشدة، سواء في غزة ذاتها أو خارجها في فلسطين وما جاورها من جغرافيات.
خلاصة ما يمكن القول في هذا السياق، أننا نحسب غالبية أهل غزة ( رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ) خرجوا لإحدى الحسنيين، إما النصر أو الشهادة. فلا أقل إذن، وهذا حال مجاهدي غزة، أن نتكاتف معهم بالدعاء، ودحض إرجافات وتثبيطات المنافقين، وبيان الحقائق للعالم وكشفها، سياسياً وإعلامياً، فالتحدي الراهن أو المعركة الحالية ليست عسكرية فحسب، بل توسعت لتكون سياسية إعلامية شعبية وبشكل غير مسبوق. فلنكن إذن على قدر التحدي. والله كفيل بكل جميل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
 زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            
            زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
            الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
63
| 31 أكتوبر 2025
 بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            
            بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
            تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
93
| 31 أكتوبر 2025
 الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            
            الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
            ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
42
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
د. عـبــدالله العـمـادي
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6621
| 27 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6489
| 24 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2670
| 28 أكتوبر 2025
