رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. أحمد القديدي

د. أحمد القديدي

مساحة إعلانية

مقالات

359

د. أحمد القديدي

مشاهد ما بعد الثورة

12 أكتوبر 2011 , 12:00ص

تساءل بعض الظرفاء في بلادنا قائلا: ما دام لدينا ما شاء الله 111 حزبا معترفا بها جميعا وعلى رأسها 111 زعيما ومادام لدينا أعضاء فيها ما بين قاعديين وقياديين بمعدل 1000 عن كل حزب يعطينا الحساب 111000 مناضل فكيف نفسر والحالة هذه صمود الدكتاتورية وبقاؤها لمدة 23 سنة؟ لعل في الأمر سرا يجب على علماء السياسة والاجتماع فك ألغازه حتى يطمئن قلب المواطن العادي ويعرف على الأقل كيف ينتخب يوم 23 أكتوبر ولمن يعطي صوته.

أما المراقب الأمين لمشهدنا السياسي في تونس فإنه يحاول استنطاق الواقع وتحليل الخطاب السائد هنا وهناك في حوارات الفضائيات وعلى أعمدة الصحف وفي منابر المواقع الاجتماعية ليدرك بأن العديد من الزعامات فوجئت بالثورة واستعملت وسائل مختلفة لكي تواكب الظرف الطارئ. وسمعت ذات يوم في إذاعة جهوية تونسية أحد زعماء حزب انقلب على مؤسس نفس الحزب واحتل موقع الأمين العام وجمع حوله بعض أنصاره وكان المذيع يستجوبه عن فترة 1987 وأين كان وقتها فكان الجواب طريفا وظريفا وهو كالتالي: "كنت عامها أشتغل في سفارة تونس بالعاصمة الفلانية (لا فائدة من ذكرها) وفتحت الإذاعة فسمعت خبر انقلاب زين العابدين بن علي على الزعيم بورقيبة يوم 7 نوفمبر فقلت إنها الكارثة لأني أعرف بأن بن علي سوف يتحول إلى دكتاتور!" وهنا جاء سؤال ذكي وشقي من المذيع لم يتوقعه السيد الأمين العام: "لمن قلت يا سيدي إنها الكارثة؟ لأي وسيلة إعلام؟ وأين نشر هذا التصريح المبكر والخطير؟" فتلعثم السيد الأمين العام ولكنه أجاب بعفوية وتلقائية وربما بصدق: "لا لا لم ينشر هذا الرأي أبداً لأني صرحت به في مجالس العائلة الخاصة!"

وبالطبع نستخلص من عفوية هذا الزعيم الجديد بأن كثيرين مثله من النخبة تأكدوا هم أيضا من أن وصول بن علي للحكم كان كارثة وينذر بالويل والثبور وعظائم الأمور لكنهم تصرفوا مثل صاحبنا (حسب قوله وليس لدينا شاهد من أهله...) فأعلنوا في قرارة أنفسهم أو في سهرة عائلية ضمت زوجاتهم وأبناءهم بأنهم ضد الدكتاتورية ثم أصابتهم لعنة الصمت المطبق وتحلوا بفضيلة الرضاء بالقضاء والقدر على مدى 23 سنة إلى أن استشهد المرحوم محمد البوعزيزي وثار شباب تونس فاكتشفوا فجأة بأنهم زعماء وتذكروا مجلسا عائليا حميميا خريفيا همسوا خلاله همسا بمواقفهم تلك.

وفي فضاء آخر صادف أن شاهدت على شاشة تلفزيوننا التونسي حوارا أجرته آنسة موهوبة ورقيقة لأحد الصحفيين الشعراء الهزليين الكاتبين باللغة الفرنسية وهو بلا شك أحد ضحايا تكميم الأفواه لكنه كان يستعمل أسلوب عنف لفظي لم يبلغه قلم سواه لا في تونس ولا في أية بلاد عربية وأصابتني الدهشة حين طلبت منه الإعلامية المهذبة أن يعرف نفسه للسادة المشاهدين فقال حرفيا: " أنا يا سيدتي كلب مكلوب" (هكذا حرفيا!) ولا أعترف لا بالنظام المخلوع ولا بالنظام الحالي ولا بالنظام القادم ولا بأي نظام. كما لا أعترف بالمعارضة يمينا يسارا ومهنتي ككلب مكلوب هي أن أعض الجميع!" وعرفنا أيضا من الرجل أنه ينتظر جائزة نوبل للآداب!

هذا نموذج آخر من نماذج ما بعد الثورة. ولا أخفيكم أيضا مدى عجبي من عمليات مسخ شامل أصابت بعض صانعي ومهندسي الاستبداد المعروفين فتحولوا بقدرة قادر إلى ضحايا "النظام السابق" ورسموا لأنفسهم لوحات وردية وهمية تقدمهم لشباب تونس على أنهم كانوا ناصحين للرئيس السابق بل وادعى بعضهم أنهم نبهوه إلى مواقع الفساد لدى زوجته وأصهاره ولكنه عوض أن يقاوم الفساد قاومهم هم وأبعد بعضهم (لاحظوا أن الإبعاد لديهم هو تغيير الوزارة أو تعيينهم فيما كان يسمى بمجلس المستشارين بنفس راتب الوزير تقريبا). وأنا أقدر حق أقدارهم أولئك الوطنيين الذين كانوا بالفعل مضطهدين ومشتتين في أصقاع الأرض أو في السجون وأسهموا في إنضاج الثورة بكفاحهم تراهم اليوم متعففين صامتين يمنعهم الحياء من تزعم الثورات أو حتى المطالبة باستعادة حقوق مشروعة تاركين مهمة إنصافهم للتاريخ.

بالطبع أيها القراء الكرام فإن بعد كل حراك شعبي مرحلة من فقدان البوصلة أو غياب الرؤية سوف تترك المجال لإصلاح عميق وميلاد مؤسسات الدولة الحديثة العادلة، لكني مؤمن أشد الإيمان بما كنت قلته عديد المرات في مناسبات مختلفة وهو أن مخاطر الحرية أقل بكثير من مخاطر الاستبداد.

 

مساحة إعلانية