رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يلعب المجتمع المدني دورا إستراتيجيا في مناقشة ومعالجة المشكلات والأزمات والآفات الاجتماعية، وكلما كان المجتمع المدني فعالا ونشطا ومراقبا لما يدور في المجتمع كلما كانت مساهماته في التكافل الاجتماعي وفي حل مشكلات المجتمع كبيرة وناجحة. ومن هنا، فإن مؤسسات عديدة في المجتمع بإمكانها المساهمة في التوعية الأمنية كالمدرسة والحي والمسجد والنادي الرياضي والكشافة والهيئات والاتحادات المختلفة التي تعنى بالشباب، والمجلس الأعلى للأسرة وغيرها من الجمعيات والمنظمات في المجتمع. وهذا يعني أن المؤسسات الإعلامية في المجتمع يجب أن تستهدف كل هذه الجهات لخلق الوعي بالمشكلة والمشاركة، كل من موقعه وحسب طاقاته وإمكاناته، في دراسة ومناقشة القضايا والمشاكل الاجتماعية واقتراح الحلول الناجعة والمساهمة في الحد منها والقضاء عليها.
انتشر في السنوات الأخيرة مصطلح المجتمع المدني في الأدبيات العربية للتعبير عن القوى الاجتماعية المختلفة والمتعددة التي تنشط في المجتمع في إطار منظم بهدف تحقيق مطالب واحتياجات الجماعات التي تمثلها. يعتمد المجتمع المدني في أنشطته وتحقيق أهدافه على وسائل الإعلام للوصول إلى السلطة والفعاليات السياسية في المجتمع وطرح القضايا والمشكلات التي يواجهها السواد الأعظم من الشعب. والسؤال الذي يُطرح هنا هو إلى أي مدى تساهم وسائل الاتصال الجماهيري في الوطن العربي في نشر ثقافة المجتمع المدني وإلى أي مدى تخدم وسائل الإعلام المجتمع المدني؛ ومن جهة أخرى إلى أي مدى يؤثر المجتمع المدني في وسائل الإعلام ويجعلها أدوات في خدمة المجتمع ووسائل للمراقبة والنقد والاستقصاء، وقوى مضادة تضمن التوازن داخل الآلة السياسية في المجتمع. ومن هنا نتساءل: ما هي الأدوار التي تلعبها المؤسسات الإعلامية في العالم العربي فيما يتعلق بالتنشئة الاجتماعية ونشر الوعي السياسي والثقافة الديمقراطية وثقافة الحوار والاختلاف والتعددية والتنوع والتوعية الأمنية من أجل الحد من الآفات الاجتماعية كالجريمة والعنف والسرقة والمخدرات...الخ. فالعلاقة جدلية بين المجتمع المدني ووسائل الإعلام، حيث إن المجتمع المدني يتأثر بوسائل الإعلام ويؤثر فيها من جهتها تتأثر وسائل الإعلام بالمجتمع المدني وتؤثر فيه. فكلما كان المجتمع المدني قويا وفعالا ومشاركا في قضايا وانشغالات المجتمع كلما فتح المجال واسعا أمام وسائل الإعلام لتغطية هذه الفعاليات والأحداث لتكون المؤسسات الإعلامية بذلك منبرا للحوار والنقاش وللديمقراطية من أجل القرار السليم والحكم الراشد.
لقد أسهمت العولمة والثورة المعلوماتية والاتصالية في بلورة ونضج فكرة المجتمع المدني في العالم العربي. ومن هنا يتمثل دور المجتمع المدني في خلق توازن بين القوى الاجتماعية والمؤسسات الاجتماعية وبين الطبقات الاجتماعية. كما يعمل المجتمع المدني على خلق فضاء مستقل يفرز قيم العدالة والمساواة والحرية. فالمجتمع المدني هو فضاء للحرية، يتكون من شبكة العلاقات التي تقوم على الاختيار والاقتناع والحرية، حيث إنه يمنح الأفراد قدرة على النشاط الطوعي الحر. إذ يعمل المجتمع المدني على تنظيم العلاقات داخل تنظيمات مدنية تحقق استقلالا نسبيا عن الدولة من ناحية، وعن قوى السوق من ناحية أخرى. فالحياة المدنية هي الفضاء الطبيعي للعمل الحر الذي تنمو فيه قدرات البشر وإمكاناتهم وقدراتهم على حب الاستقلال ونبذ التسلط والقمع.
يستمد المجتمع المدني قوته من الثقافة المدنية التي تتمحور حول الحرية والمساواة والمواطنة، وهي في أساسها قيم عامة تتفرع عنها قيم تؤمن بالتفكير الحر الخلاق والفعل الحر المسؤول والحرية التي تستمد قيمتها من مبدأ الفرد الأخلاقي الذي يؤمن بأن حريته تعني حرية الآخرين. وأن حرية الفرد لا تسمح له بالانسلاخ من محيطه ومجتمعه وفضائه السياسي والاجتماعي والثقافي، ولا تسمح له بالاغتراب عن مبادئه وقيمه، حيث إن حريته مستمدة من حرية الآخرين والحرية الفردية هنا هي قيمة مثالية تنتهي إلى قيمة اجتماعية لا تقل عنها أهمية، وهي قيمة الترابط الجمعي التي تجعل الأفراد يتصرفون في إطار بيئة تضامنية عضوية تعبر عن روح الجماعة.
فأدوات الاتصال الجماهيري في المجتمع هي التي تنقل ثقافة المجتمع المدني من مستوى الوعي الفردي والجماعي إلى مستوى الوعي العام. وبهذا تصبح الثقافة المدنية جزءا لا يتجزأ من وعي الأمة. هنا يتوجب على وسائل الاتصال الجماهيري أن تقدم خطابا إعلاميا هادفا يحمل في طياته قيما اجتماعية راقية تنبع من المجتمع وقيمه ومبادئه. فالمؤسسات الإعلامية إذن، مطالبة عبر البرامج الحوارية والدراما والأفلام والتحقيقات والأخبار، بطرح ومناقشة هموم وشجون المجتمع المدني ونشر ثقافته. ما ينشر في وسائل الاتصال الجماهيري هذه الأيام هو منتجات إعلامية معلبة مستوردة من الخارج تفرز انفصاما في شخصية الفرد العربي الذي يعيش واقعا مختلفا تماما عما يشاهده أو يستهلكه في المؤسسات الإعلامية العربية. فنشر ثقافة المجتمع المدني بحاجة إلى مؤسسات إعلامية ووسائل اتصال تؤمن بالمجتمع المدني وتؤمن بالمثقف العضوي وبالقيم المجتمعية الأصيلة. فوسائل الاتصال الجماهيري هي التي تنتج الوعي الاجتماعي وهي التي تكرس القيم والعادات والتقاليد والنسق القيمي والأخلاقي في المجتمع، ومن ثم فهي مطالبة بنشر ثقافة المجتمع المدني. المؤسسات الإعلامية هي الأدوات التي تنمي الثقافة المدنية وتعمل على نشرها وتقويتها والتصدي لثقافة العنف والتطرف والإقصاء والفردية والمادية ورفض الآخر والسلوك المنحرف. فوسائل الاتصال الجماهيري هي الحليف الاستراتيجي للمجتمع المدني وهي الوسيلة الفعالة والأداة اللازمة لتحقيق مبادئه وقيمه في المجتمع. فمضمون وسائل الاتصال الجماهيري هو الغذاء الروحي والفكري والعقلي للثقافة المدنية وأداء هذه المؤسسات في المجتمع يعتبر سلوكا مدنيا يدعم المجتمع المدني والثقافة المدنية. فالمجتمع المدني هو وعي وثقافة وقيم ومبادئ تٌترجم إلى سلوك وعمل يومي يؤمن بروح الجماعة والمصلحة العامة. ما هي القيم والوعي والأفكار التي تقدمها الفضائيات العربية للمواطن العربي؟ ما هي الإضافات الفكرية والثقافية التي تقدمها هذه الفضائيات للمشاهد العربي؟ أم أن هناك فجوة خطيرة جدا بين الواقع الذي يعيشه المواطن العربي وما يُنقل له ويشاهده عبر القنوات الفضائية المختلفة.
يرى عدد من النقاد والباحثين أن ضعف أداء وسائل الإعلام في المجتمع يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف المجتمع المدني انطلاقا من مبدأ أن الإعلام هو مرآة عاكسة للوسط الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي الذي يوجد فيه ويتفاعل معه. فإذا كان المجتمع المدني ضعيفا فهذا ينعكس سلبا على أداء المؤسسات الإعلامية في المجتمع، فالإعلام القوي والفعال لا ينمو ولا يتطور ويزدهر إلا في مناخ الديمقراطية والحرية والرأي والرأي الآخر ووجود القوى المضادة الفاعلة في المجتمع، التي تراقب وتنتقد وتعمل من أجل مشاركة الجميع في تحقيق المساواة والعدالة في المجتمع وفي جعل كل فرد في المجتمع مسؤولا وواعيا وحرا. مازال العالم العربي يعاني من فجوة كبيرة بين الشارع والوسيلة الإعلامية كما أنه يعاني من ضعف المجتمع المدني الذي مازال عاجزا عن التفاعل مع الشارع والمؤسسات الإعلامية بطريقة إيجابية وفعالة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6294
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3768
| 21 أكتوبر 2025