رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يكاد لا يمر يوم واحد من دون أن تفرض الأزمة الأوكرانية نفسها على المسرح الجيوبوليتيكي العالمي، بسبب الأحداث التي تعيشها أوكرانيا، ولاسيما في شبه جزيرة القرم، حيث اتهمت السلطات الانتقالية الأوكرانية موسكو بالقيام بـ"اجتياح مسلح" للمنطقة ودخول قواتها للسيطرة على مطارين، في الوقت الذي ظهر الرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفيتش للمرة الأولى"عازما على الكفاح من أجل مستقبل أوكرانيا ضد أولئك القوميين والنازيين الذين يمثلون المصالح الغربية".
وينظر المحللون في الغرب إلى أن سيطرة القوات الروسية على منطقة شبه جزيرة القرم، التي تنتمي إلى الجمهورية الأوكرانية، انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، ولكل المعاهدات التي وقعتها روسيا بالذات في هذا الصدد.. إنه عودة إلى منطق الحرب الباردة، وقعه الرئيس فلاديمير بوتين، الذي لا يزال يدغدغه الحنين إلى الماضي السوفياتي، علماً أن فلاديمير بوتين نسي أنّ الاتحاد السوفياتي انتهى وأن الحرب الباردة صارت جزءا من الماضي في اليوم الذي سقط فيه جدار برلين في نوفمبر 1989. ويبدو أنّ بوتين يرفض أخذ العلم بذلك ويظنّ أنه في الإمكان تكرار اجتياحات بودابست 1956 وبراغ 1968 في كييف السنة 201.. فقد سيطر آلاف الجنود الروس على المناطق الإستراتيجية في شبه جزيرة القرم، وأحكمت موسكو سيطرتها على شبه جزيرة القرم، بعد عملية واسعة لنزع سلاح وحدات الجيش الأوكراني المرابطة فيها، إذ حاصرت مواقع عسكرية أوكرانية محدودة، وتمتلك روسيا قاعدة ضخمة في جزيرة القرم، حيث يتمركز فيها قرابة 20.000 جندي روسي.
وليس الكرملين بحاجة إلى مثل هذه القوات لكي يغزو أوكرانيا، وهو لن يتوانى في سوق الذرائع لهذا الغزو من قبيل، حماية "الروس الذين يعيشون في أوكرانيا منذ العقود السوفياتية الغابرة، و حماية المصالح القومية الروسية".. وكان بإمكان الرئيس بوتين أن يدافع عن الأوكرانيين من أصل روسي الذين يقطنون في شرق أوكرانيا، والذين انتابهم الخوف من جراء اتخاذ البرلمان الأوكراني إلغاء اللغة الروسية من بين اللغات المحلية المعترف بها في أوكرانيا، وعن المصالح الروسية، من خلال فتح حوار مباشر مع السلطات الأوكرانية الجديدة في كييف، وحثها على إيجاد تسوية مرضية بين روسيا والاتحاد الأوروبي، لكن شيئاً من هذا القبيل لم يحصل، لأن الرئيس بوتين غير مستعد للتفاوض بشأن أوكرانيا، لأنها من وجهة نظره هي الحديقة الخلفية لروسيا، والحال هذه بجب أن يطبق عليها سياسة السيادة المحدودة التي كان يطبقها الزعيم الراحل ليونيد بريجنيف على دول أوروبا الشرقية أيام الحقبة السوفياتيةن وعصر الحرب الباردة، ويعتقد الرئيس بوتين أن روسيا ستفقد أوكرانيا، إذا اختارت الحكومة الأوكرانية الجديدة توقيع شراكة مع الاتحاد الأوروبي، بدلا من الاتفاق الجمركي الذي يريد الكرملين فرضه عليها.
في ظل هذا التصعيد العسكري، أعلنت أوكرانيا أنها استدعت قوات الاحتياط ووضعت جيشها في حالة تأهب قصوى. واعتبر رئيس الوزراء الأوكراني أرسيني ياتسينيوك أن موافقة مجلس الاتحاد الروسي على إرسال قوات إلى أوكرانيا "إعلان حرب" على كييف، مضيفاً: "إذا أراد بوتين أن يكون الرئيس الذي سيبدأ حرباً بين دولتين جارتين وصديقتين، هما أوكرانيا وروسيا، فكاد يبلغ هدفه، إذ نحن على شفير كارثة".
ومن وجهة نظر الدول الغربية، تعتبر شبه جزيرة القرم مسألة ثانوية في ظل تمتع روسيا باتفاقية مع أوكرانيا تضمن لها مصالحها، وبذلك أصبحت شبه جزيرة القرم رهينة إستراتيجية، لكن ما تقوم به روسيا بوتين هي حرب من أجل زعزعة استقرار أوكرانيا للحيلولة دون إبرامها اتفاقية مالية مع الدول الغربية. ففي المجال الخارجي القريب لروسيا، السيادة لأوكرانيا يجب أن تكون محدودة، لأن بوتين يعتبر أن الدول الغربية عدوة لروسيا.
وفضلاً عن ذلك، خرج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن صمته يوم الثلاثاء الماضي، لينفي التورط الروسي في أوكرانيا ويندد بما اعتبره "انقلاباً" على فيكتور يانوكوفيتش "الرئيس الشرعي الوحيد"، وذلك بعد بضع ساعات فقط من إعلان واشنطن وقف تعاونها العسكري مع موسكو.
واقترح الرئيس الروسي على الدول الغربية تقييم شرعية سياساتها، مذكراً بأعمال واشنطن في أفغانستان والعراق وليبيا.
وقال إن "القوات الغربية تدخلت في هذه الدول من دون أي تفويض من قبل مجلس الأمن الدولي على الإطلاق أو بتشويهها لقراراته"، مضيفاً أن "قرار مجلس الأمن الدولي حول ليبيا نص فقط على إنشاء منطقة محظورة للطيران، إلا أن الأمر انتهى بالقصف ومشاركة وحدات خاصة في عمليات على الأرض".
وبالمقابل، يعرف الرئيس الأمريكي باراك أوباما، أن الرئيس بوتين يدرس كافة الخيارات العسكرية وغير العسكرية، في التعاطي مع الأزمة الأوكرانية، وشدد على أنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفائهما، فإن "ما تقوم به روسيا يشكل انتهاكاً للقانون الدولي"، مضيفاً "أعلم بأن الرئيس بوتين لديه على ما يبدو تفسير مختلف.. لكن في رأيي فإنه (هذا التفسير) لا يخدع أحداً".
وتابع الرئيس الأمريكي أن "المجتمع الدولي ندد بانتهاك روسيا لسيادة أوكرانيا، لقد نددنا بتدخلها في القرم. وندعو إلى نزع فتيل التصعيد وإلى نشر فوري لمراقبين دوليين".
تعتبر شبه جزيرة القرم قنبلة متفجرة في العلاقات بين الشرق والغرب، فمن الناحية التاريخية، قامت باريس ولندن بإعلان الحرب على روسيا، ومساندة الإمبراطورية العثمانية في عام 1854. وفي عام 1954، تم إعطاء شبه جزيرة القرم إلى الجمهورية الأوكرانية التي كانت جزءا لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1994، أكد الاتفاق الموقع بين واشنطن، ولندن، وكييف، وموسكو، على نزع السلاح النووي الذي كان بحوزة الجمهورية الأوكرانية، وضمان وحدة أراضيها.
ويشرح لنا هذا الإرث الثلاثي المتمثل في -التحالف الغربي والمسألة الشرقية، والحرب الباردة و"الأخوة السوفياتية"، ووحدة الأراضي والقيادة الأمريكية للنظام الدولي الجديد-خطورة الأزمة الحالية، التي تتجاوز أوكرانيا من الآن فصاعدا، في ظل انبثاق المسألة الروسية، أي طبيعة العلاقة بين الغرب وموسكو، فمن الناحية التاريخية تمت بلورة المسألة الروسية في إطار المحفل الأوروبي، ضمن سياق شبكة من الاتفاقيات المتعددة التي كانت تستهدف إقامة توازن القوى باسم الحضارة المشتركة، كما أن المسألة الروسية تمت معالجتها من قبل الدوائر المعنية بالحرب الباردة في الولايات المتحدة الأمريكية، أما من الجانب الروسي، فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وكوارث عقد التسعينيات من القرن الماضي التي عرفتها روسيا في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين، استخلص الرئيس الحالي فلاديمير بوتين، الدروس من المراحل الإمبراطورية والسوفياتية التي مرت بها روسيا، لكي يعيد انتهاج سياسة خارجية تقوم على أساس استعادة روسيا كقوة عظمى على المسرح العالمي، وقد نجح بوتين في هذه السياسة.
من هنا، نفهم أن الإدانات المتبادلة بين روسيا والغرب، تجد جذورها في هذا الإرث المختلف، فهي لا تمنع الأحكام المسبقة التي عادة ما تكون خاطئة، ولا المواقف الحربية، إنه ديالكتيك الإرادات، في ظل إستراتيجية تنتج يوميا مفارقات عجيبة..
ففي ظرف أسبوع، فقدت روسيا أوكرانيا ولكنها ربحت شبه جزيرة القرم. ولكي نفهم "سيرورة" الأحداث في أوكرانيا، علينا أن نحدد ما هي أهداف الحرب، والأهداف السياسية التي توخاها الكرملين.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
5295
| 06 أكتوبر 2025
في الآونة الأخيرة برزت ظاهرة يمكن وصفها بـ «استيراد المعلّب»، حيث يتم استقدام برامج أو قوالب تدريبية جاهزة من بعض الدول الخليجية المجاورة لعرضها على وزارات أو مؤسسات في قطر، رغم وجود كفاءات محلية وجهات تدريبية قادرة على تقديم محتوى أكثر أصالة وفاعلية. الفكرة بحد ذاتها ليست إشكالية، فالتبادل المعرفي مطلوب، والتعاون الخليجي قيمة مضافة. لكن الإشكال يكمن في الاختزال: أن يكون الخيار الأول هو الحل المستورد، بينما تبقى القدرات المحلية في موقع المتفرج. أين الخلل؟ حين تأتي وفود خارجية وتعرض برامج جاهزة، غالبًا ما يتم التعامل معها باندفاع هذا المشهد قد يعطي انطباعًا مضللًا بأن ما تم تقديمه هو «ابتكار خارجي» لا يمكننا بلوغه داخليًا، بينما الحقيقة أن في قطر كفاءات بشرية ومؤسسات تدريبية تمتلك القدرة على الإبداع والتطوير. والمفارقة أن لدينا في قطر جهات رسمية مسؤولة عن التدريب وتحت مظلتها عشرات المراكز المحلية، لكن السؤال: لماذا لا تقوم هذه المظلات بدورها في حماية القطاع؟ لماذا تُترك الوزارات لتتسابق نحو البرامج المستوردة من الخارج، بل إن بعضها يُستورد دون أي اعتماد دولي حقيقي، غياب هذا الدور الرقابي والحامي يفتح الباب واسعًا أمام تهميش الكفاءات الوطنية. وتزداد الصورة حدة حين نرى المراكز التدريبية الخارجية تتسابق في نشر صورها مع المسؤولين عبر المنصات الاجتماعية، معلنةً أنها وقّعت اتفاقيات مع الوزارة الفلانية لتقديم برنامج تدريبي أو تربوي، وكأن الساحة القطرية تخلو من المفكرين التربويين أو من الكفاءات الوطنية في مجال التدريب. هذا المشهد لا يسيء فقط إلى مكانة المراكز المحلية، بل يضعف ثقة المجتمع بقدراته الذاتية. منطق الأولويات الأصل أن يكون هناك تسلسل منطقي: 1. أولًا: البحث عن الإمكانات المحلية، وإعطاء الفرصة للكوادر القطرية لتقديم حلولهم وبرامجهم. 2. ثانيًا: إن لم تتوفر الخبرة محليًا، يتم النظر إلى الاستعانة بالخبرة الخليجية أو الدولية كخيار داعم لا كبديل دائم. بهذا الترتيب نحافظ على مكانة الكفاءات الوطنية، ونعزز من ثقة المؤسسات بقدراتها، ونوجه السوق نحو الإبداع المحلي. انعكاسات «استيراد المعلّب: - اقتصادياً: الاعتماد المفرط على الخارج يستنزف الموارد المالية ويضعف من استدامة السوق المحلي للتدريب. - مهنياً: يحبط الكفاءات المحلية التي ترى نفسها مهمشة رغم جاهزيتها. - اجتماعياً: يرسخ فكرة أن النجاح لا يأتي إلا من الخارج، في حين أن بناء الثقة بالمؤسسات الوطنية هو أحد ركائز الاستقلال المجتمعي. ما الحل؟ الحل ليس في الانغلاق، بل في إعادة ضبط البوصلة: وضع آلية واضحة في الوزارات والمؤسسات تقضي بطرح أي مشروع تدريبي أولًا على المراكز المحلية. - تمكين المظلات المسؤولة عن التدريب من ممارسة دورها في حماية المراكز ومنع تجاوزها. - جعل الاستعانة بالبرامج المستوردة خيارًا تكميليًا عند الحاجة، لا قرارًا تلقائيًا. الخلاصة: «استيراد المعلّب» قد يكون مريحًا على المدى القصير، لكنه على المدى البعيد يضعف مناعة المؤسسات ويعطل القدرات الوطنية. إننا بحاجة إلى عقلية ترى في الكفاءة القطرية الخيار الأول، لا الأخير. فالطموح الحقيقي ليس في أن نستحسن ما يأتي من الخارج ونستعجل نشر صورته، بل في أن نُصدر نحن للعالم نموذجًا فريدًا ينبع من بيئتنا، ويعكس قدرتنا على بناء المستقبل بأيدينا.
3789
| 02 أكتوبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
3216
| 05 أكتوبر 2025