رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
انثالت من الذاكرة الكليلة مشاهد وصورا تعود لقرابة ثلاثة عقود ونصف من السنوات، وأنا أطالع وأتابع كغيري من الأمة العربية التدخل الفاضح لروسيا في الأزمة السورية، وتبجح بوتن بأنه سيدحر الدواعش وكل الفصائل الإسلامية التي تقاتل ربيب روسيا وقاتل النساء والأطفال بشار الأسد.
ولأني ابن مدينة الطائف بالسعودية والتي أقيم فيها مؤتمر القمة الإسلامي في العام 1981 م، مازالت راسخة في ذاكرتي صورة القائد الأفغاني الشهير عبد رب الرسول سياف بلحيته الكثة ووقفته الشامخة وهو يخاطب الأمة الإسلامية في ذلك المؤتمر، وارتجت القاعة يومذاك لخطابه البليغ، الذي شكا عبره، بفصاحة وخطابية عالية تحصل عليها من دراسته في الأزهر الشريف، للقادة العرب والمسلمين الحاضرين إذاك كوارث الغزو السوفيتي لبلاده، والمجازر التي ارتكبها الجنود السوفيت حيال شعب أعزل، واستنصر همم الأمة الإسلامية لنجدة أفغانستان ضد ذلك الغزو الوحشي.
التاريخ يعيد نفسه اليوم، وهاهو القيصر بوتن على خطى سلفه بريجنيف، دون أن يتعظ بدرس أفغانستان الذي كان المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي البائد. وما يزيد الطين بلة هنا، مباركة الكنيسة الأرثوذكسية على لسان البطريرك «كيريل» بطريرك موسكو وعموم روسيا، هذا التدخل الروسي السافر، معتبرا أن الحرب في سوريا حرب مقدسة، وتناقل نشطاء في تويتر صور مباركة كاهن أرثوذكسي في مطار بحر القرم لطائرة حربية روسية ستذهب لرمي القنابل على العزل والأهالي في أرض الشام، والأحمق بوتن يظن أنه اليوم سيحارب داعش، ولا يدري أنه بهذا التدخل الأخرق منه، ومباركة كنيسته، حّول الحرب لحرب دينية بالكامل، وقدم لداعش كرتا ذهبيا، ودعم حجتها الذي أشهرته في وجوه العلماء والدعاة بأن ما يقومون به من قتل وحشي وتدمير هو جهاد مقدس ضد الكفار والصليبين والصهاينة.
ما لم يدركه الروس –ومعهم الصفويون البغضاء- في حال سوريا، أنهم سيوحدون هذه الجماعات الإسلامية، وستشهد المنطقة حالة صراع شديدة، ستمتد لحقب طويلة، فلا أبرع من هذه الجماعات الإسلامية المسلحة في حرب العصابات، ولعل هذا القيصر الأخرق –الذي يأتي سوريا منتشيا بما فعله في أوكرانيا وجورجيا- يعود لأرشيف بلاده المهترئ ويقرأ ما فعلته الجماعات الإسلامية بأسلافه في الثمانينيات، فلا أصلب ولا أقوى من المسلم المتسلح بعقيدته، وهو لم يواجههم بعد للآن، وخمود ثورة الشيشان بسبب خذلانهم من قبل الدول الإسلامية والغربية وقتها، وإلا فقد رأى من المجاهد الشيشاني "شامل باساييف" وقائد المجاهدين العرب"خطاب" وغيرهما الأمرين.
المشهد قاتم للآن ولا ندري كيف ستتصرف الدول المعارضة لهذا التدخل الروسي في سوريا، وعلى رأسها السعودية وقطر وتركيا، وهل ستقوم بدعم فصائل المعارضة المعتدلة في سوريا، وتبعد الشباب الذي سيهب عن داعش؟، وهل ستأخذ تركيا موقع باكستان في حرب السوفييت الأولى في أفغانستان، وستتحول أنطاكية مثلا لتكون بشاور هذه الحرب الجديدة؟، وهل سيسمح لآلاف الشباب المسلم بالتقاطر من كل جهات العالم بشكل أكثر، وسينبجس عرابو الجهاد الجديد، ونلقى أنفسنا أمام عبدالله عزام جديد، وتميم العدناني، وبقية دعاة الجهاد الذين كانوا يجوبون في الثمانينيات الميلادية الخليج والعالم العربي من أقصاه لأقصاه دعما للجهاد في أفغانستان؟
كل ما يحدث اليوم من تعقيد وتأزم سببه في رأيي الرئيس الأمريكي الضعيف باراك أوباما، ولم أر تخبطا في السياسة الأمريكية وتراجعا كما شهدناه في هذه المرحلة، ما جعل الكاتب والمحلل السياسي الأمريكي "ديفيد روثكوبف" يوجه نقدا شديدا لأوباما في مجلة "فورين بوليسي" ويقول له: "دع سوريا والعراق للقيصر والمرشد الأعلى!"، ويضيف متحسرا: الولايات المتحدة تخلت عن مبدأ الحرب العالمية الثانية "الانتصار مهما كان الثمن"، وساد طوال فترة حكم الرئيس أوباما مبدأ آخر يتمثل في "الخروج مهما كان الثمن".
ومرة أخرى: ما لا يفهمه أوباما ولا بوتن ولا الغرب كله، بأن شظايا هذه الحرب في سوريا ستصل لهم في عقر ديارهم، وأنهم بتواطئهم اليوم وحمايتهم للرئيس السوري بشار الأسد، ودخول الكنيسة الحرب، حولوا ما يجري بالكامل لحرب دينية مقدسة، وملحمة "دابق" التي تتغنى بها داعش ستطفو للأدبيات الإسلامية من جديد، وسيهب ملايين الشباب الملتزم في كل العالم الإسلامي لتلبية نداء الجهاد، وستسري روح جهادية جديدة بمعنويات عالية، لربما لخص هذه الروح أحد قادة الجهاد في سوريا الشيخ عبدالله المحسيني الذي كان مغتبطا ومتفائلا بمجيء روسيا، وجزم بأسر الثوار لجنود روس في الغد القريب، مضيفا: "والله لنتفاءل بأن بواريدنا ستكون غنائم من رجال، ونتفاءل بأن الدبابات المهترئة التي نقاتل بها سنستبدل بها دباباتهم التي سنغنمها ونقتحم عليهم بها".
بوتن أتى سوريا بفكرة لخصتها صحيفة "يديعوت أحرنوت" في افتتاحيتها: "بأنه يفهم ما لا يفهمه العالم الحر، وهو يعلم أن من لا يقاتل الجهاد من خارج بيته، سيضطر إلى أن يقاتله داخل البيت، ولذلك فإن بوتن لن ينتظرهم، بل يخرج إليهم". ولكن أجزم هنا يقينا بأن الحرب ستنعكس عاجلا أم آجلا في الشيشان والداغستان وبلاد القفقاس، والتفجيرات سترتد للعواصم الغربية، وسيدخل العالم مرحلة لا استقرار لحقبة طويلة للأسف، وكان بالإمكان نزع فتيل ذلك كله من الآن، ولكن من يستمع لصوت العقل!!
مستنقع أفغانستان سيتكرر في سوريا الأبية، والذي سيدفع الثمن بجوار الدب الروسي هو الغرب الذي يتفرج عليه اليوم.
ماذا استفادت القضية الفلسطينية بعد حرب غزة؟
شهدت القضية الفلسطينية واحدة من أكثر اللحظات دراماتيكية في تاريخها الحديث، حين اندلعت مواجهة غير مسبوقة بين فصائل... اقرأ المزيد
30
| 26 أكتوبر 2025
سلامٌ على غزة وأهلها
تباشر قناة الجزيرة منذ أيام مضت أعقبت اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بعد توقيع الاتفاق في شرم... اقرأ المزيد
24
| 26 أكتوبر 2025
رؤية الأسرة القطرية
ألقى حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمير البلاد المفدى، خطابًا شاملاً بمناسبة انعقاد دور... اقرأ المزيد
18
| 26 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6180
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3747
| 21 أكتوبر 2025