رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هدف القادة والزعماء تحقيق إنجازات تخلد إرثهم على مر التاريخ. أصبح تحقيق إرث مميز الشغل الشاغل لرؤساء الولايات المتحدة بدءاً بجورج واشنطن وصولاً لجو بايدن. تنحى بايدن لنائبته كامالا هاريس بعد ضغط قيادات الحزب الديمقراطي بسبب تراجع قدرات بايدن الذهنية، وتغيرت قواعد اللعبة، لتخسر هاريس خسارة مذلة لترامب العائد للانتقام، ومعه أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ لتسهيل مهمته بإعادة تشكيل حزبه الجمهوري ومعه النظام الأمريكي. ما يقلق الحلفاء ويريح خصوم أمريكا خاصة روسيا بوتين وأنظمة مستبدة. وبالتالي ينهي بايدن خمسة عقود من عمله السياسي الطويل ويكون رئيسا لفترة واحدة. بعدما أصبح في العُرف السياسي الأمريكي «بطة عرجاء» كناية عن نهاية خدمة حقبته رئاسته.
منطقياً- يُفترض استغلال بايدن هذا الواقع ليعمل لتخليد إرثه، لكن يستمر بايدن بتفويت الفرص، برغم تنسيقه مع ترامب، ونجاح ضغطه على نتنياهو لوقف حرب إبادته على لبنان بعد 4000 شهيد وأكثر من 16000 مصاب معظمهم خلال الشهرين الماضيين، ومع ذلك الاختراق المهم الذي كان بمثابة جائزة ترضية له، لكنه فوّت فرصة بالبناء عليها، في ملفات خاصة خفض التصعيد ووقف حرب غزة، بعد 45 ألف شهيد وأكثر من 100 ألف مصاب وتشريد جميع سكان غزة وخاصة في الشمال المُباد. وكان لافتا إعلان بايدن في خطابه وقف العمليات العسكرية في لبنان تفاؤله بأن «السلام ممكناً» على أمل تحقيق إنجازات تخلّد إرثه، خاصة في الشرق الأوسط.
فوّت بايدن فرصة تصحيح مواقفه المنحازة بتهجمه مع قيادات الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونغرس الأمريكي بتنديدهم ورفضهم مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية، باعتقال نتنياهو وغالنت وزير دفاعه المُقال، بتنديده وأركان إدارته والكونغرس بالقرار، بدلاً من دعمه كما فعل بعد إصدار المحكمة نفسها مذكرة اعتقال بحق بوتين. انحاز بايدن لسردية نتنياهو باليوم الأسود ورفضه، كما أوضحت في مقالي في «القدس العربي». وكعادة الصهاينة برفضهم اتهاماتهم بارتكاب جرائم حرب يردون بورقة «العداء للسامية»-البالية- وسبق أن انتقد نتنياهو توصيات محكمة العدل الدولية بتهمة قيام جيشه بإشرافه بما يرقى لجرائم حرب إبادة.
تُضاف لاستخدام إدارة بايدن الفيتو خمس مرات برفض قيام دولة فلسطينية، ورفض وقف حرب غزة، ورفض منح فلسطين عضوية كاملة في الأمم المتحدة. ووصل الأمر بتساؤل معلقين صهاينة: هل يكون بايدن آخر رئيس صهيوني في البيت الأبيض؟ ليأتيهم ترامب الذي يفاخر «أنا الرئيس الذي قدّم لإسرائيل خدمات أكثر من أي رئيس أمريكي آخر»!.
لن ينسى الفلسطينيون والمنطقة إرث بايدن بتفاخره بصهيونيته، وتعليقه قبل عقود «لو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا إيجادها»!. وشراكة بايدن وإدارته في حرب الإبادة على غزة للشهر الرابع عشر بشحنات السلاح وقنابل تدمر أحياء بأكملها وغطاء سياسي. ورفض وقف إطلاق النار وتكرار تبني السردية والموقف الإسرائيلي والتغاضي عن جرائم حربها.
بجردة حساب عن فشل مشاريع ومبدأ الرئيس بايدن بما يهمنا بقضايا وملفات الشرق الأوسط والخليج العربي، لا يوجد ما يفيد بتحقيق أي انجاز أو اختراق يسجل في خانة وإرث بايدن. بل على العكس تسببت سياسات ومواقف بايدن وإدارته بجعل الشرق الأوسط أكثر اشتعالا. وفشل بتحقيق أي انجاز يُحسب لإرثه خلال رئاسته، يضاف لرصيد إنجازاته. وهو صاحب الفكرة الفاشلة بتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم عندما كان سيناتور عام 2006 قبل عامين من بدء رئاسة أوباما تمسكاً بتوصية كيسنجر.
وفشلت جميع مقاربات بايدن تجاه أزمات وملفات الشرق الأوسط من الصراع العربي-الإسرائيلي-وحل الدولتين-وتهدئة التوترات المتفاقمة وبرنامج إيران النووي، ومعها فشل زيارات مسؤوليه بجولاتهم المكوكية المتكررة من وزير خارجيته بلنكين يُفاخر بيهوديته وانحياز مستشاره للأمن الوطني سوليفان ومدير الاستخبارات المركزية بيرنز ومبعوثه للشرق الأوسط ماكغوريك بتحقيق انجاز يذكر وأهمها مطالب بايدن بوقف حرب غزة.
ما منع بايدن من بتحقيق أكبر اختراق في المنطقة بتطبيع السعودية وإسرائيل العلاقات الدبلوماسية، وتغيير وجه المنطقة بالاستجابة لمطالب السعودية بتوقيع معاهدة عسكرية تلزم إدارة بايدن بالدفاع عن السعودية وتزويدها بأسلحة متطورة، والمساعدة في برنامج نووي سلمي، والعمل على قيام دولة فلسطينية. ليبني على ما حققه سلفه ترامب بتطبيع العلاقات وتوسعة اتفاقات إبراهام، ودمج إسرائيل في محيطها العربي. بعد تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب.
لكن حرب الإبادة الوحشية الإسرائيلية وتوظيف الفيتو، وزيارة نتنياهو الكونغرس الأمريكي وترويج أكاذيبه وسط تصفيق المشرعين الأمريكيين له، تعد سقطات أخلاقية وقيمية كبيرة. وذلك رغم قرار محكمة العدل الدولية الاستشاري أن ما تقوم به إسرائيل وممارساتها هو احتلال غير شرعي يجب إنهاؤه. وقبله تصويت الكنيست الإسرائيلي بشبه إجماع برفض قيام دولة فلسطينية وتطرف بن غفير وسموترتش، تلك كانت المسامير الأخيرة في نعش عملية السلام وحل الدولتين وحلم الفلسطينيين بدولة فلسطينية.
كتب الرئيس بايدن مقالاً في دورية فورين أفيرز شارحا سياسته الخارجية في حال فاز بالرئاسة عام 2020. وبقي يردد «عادت أمريكا لتعلب دورا قياديا على المسرح العالمي. (بعد سنوات انعزالية إدارة ترامب)، ويعلق «كان القادة يسألونني كم من الوقت ستبقى أمريكا تقود العالم»؟ ةواليوم ها قد عاد ترامب مجدداً.
وبعد تفويت الفرص، وسجل فشل بايدن بتحقيق أي من أهدافه بحل أزمات المنطقة ليخلده في الداخل الأمريكي والخارج. بسبب عجزه عن ممارسة الضغوط على نتنياهو لوقف شراكته بحرب إبادة غزة وتحقيق رؤية أمريكا بحل الدولتين، وحتى تهديده بإسقاط حكومة نتنياهو المتطرفة وتشجيع وصول حكومة أكثر عقلانية يمكن التعامل معها، لإنقاذ ماء وجه بايدن وإرثه.
أسوأ أنواع الفشل هو عجز القادرين عن تحقيق أهدافهم، ليس عن قلة القدرات بل بتعمد التواطؤ والشراكة والانحياز.
تأهيل ذوي الإعاقة مسؤولية مجتمع
لم يعد الحديث عن تأهيل ذوي الإعاقة مجرد شأن إنساني أو اجتماعي بحت، بل أصبح قضية تنموية شاملة... اقرأ المزيد
201
| 24 أكتوبر 2025
منْ ملأ ليله بالمزاح فلا ينتظر الصّباح
النّهضة هي مرحلة تحوّل فكري وثقافي كبير وتمتاز بالتّجدّد وتظهر دائما من خلال المشاريع الجديدة العملاقة المعتمدة على... اقرأ المزيد
681
| 24 أكتوبر 2025
لا تنتظر الآخرين لتحقيق النجاح
في حياتنا اليومية، نجد أنفسنا غالبا ما نعتمد على الآخرين لتحقيق النجاح والسعادة. نعتمد على أصدقائنا وعائلتنا وزملائنا... اقرأ المزيد
111
| 24 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تويتر @docshayji
@docshyji
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5067
| 20 أكتوبر 2025
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
4917
| 24 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3699
| 21 أكتوبر 2025