رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
القائد الناجح، رئيساً كان أم وزيراً أم مديراً، ودون كثير مقدمات وشروحات، هو ذاك المتواضع الذي يحترم من يعمل معه.
التواضع واحترام الآخرين، صفتان رئيسيتان لابد منهما في أي قائد ناجح، أو يرغب في النجاح، تضاف إليهما قدرة أو مهارة فائقة، ليس للاستماع لمن معه وحوله فحسب، بل ينصت باهتمام حتى يعي ويفهم ما يُقال له.
تقع كثير من مشكلات العمل، لاسيما بين الرئيس والمرؤوس، بسبب أن الأول لا يريد أن ينصت، بل هو لا يسمع، وبالتالي لا تجده يفهم ويعي الحديث، وهذا بالضرورة يقوده إلى اتخاذ قرارات أو إصدار توجيهات، غالباً لا تصيب الهدف، فيأتيك غاضباً بعد حين من الوقت ويتساءل عن سر تدني الأداء والمستوى والإنتاج وغيرها!.
إذا أردنا ذكر صفات أخرى للقائد الناجح وبشكل سريع في هذه المقدمة، وقبل الدخول في لب موضوع اليوم، فإننا نذكر من تلك الصفات، أنه يتقبل النقد الهادف بكل رحابة صدر، ويتميز بسمعة واسعة مفادها أنه من القلائل الذين يسعدون بجلب وتعيين من هم أفضل وأقوى منه في العمل، لا يخشى منهم، بل يعتبرهم إضافة حقيقية له وقوة يستعين بها على تحقيق مقاصد وأهداف المؤسسة، أو الشركة، أو الحكومة، أو الدولة بشكل عام.
ثم هو يثق في قدراته، لكنه مع ذلك يدرك قيمة العمل الجماعي أو العمل بروح الفريق الواحد، فتراه بسبب ذلك يستشير هذا وذاك، ويسأل الصغير والكبير، ويستفيد من خبرة وعلم كل من معه، فلعل أحدهم يكون معه مفتاح الإبداع دون أن يدري، فتكون مهمته كقائد أن يتعرف عليه ويتعاون معه لفتح مغاليق الإبداع، ليكون الاثنان سبباً في أي نجاح إن حدث، حيث لا تجده ينتهز الموقف والمنصب ليستولي على النجاح، وينسبه إلى شخصه، بل هو يشارك الجميع فيه.
الخبير قولاً وعملاً
المقدمة السابقة شبه الطويلة عن القيادات والكفاءات كان لابد منها، ونحن ندخل في موضوع بالغ الأهمية ويتعلق بالمستشارين أو الخبراء، الذين تجد أمرهم يدخل تلقائياً ضمن سياق أي حديث عن الإدارة والكفاءة والنجاح، وأهمية اختيار المستشار أو الخبير بعناية فائقة، حتى يكون صاحب مهمة معينة فعلية، لا أن يتحول إلى تحفة فنية في مكاتب الوزراء والقادة!.
اختيار المستشارين أو الخبراء والمعاونين، مسألة أجدها غاية في الأهمية لمن أراد أن يدير مؤسسته، أو شركته، أو وزارته، أو دولته بكل أمانة ودقة، سواء كان يرجو بذلك وجه الله ورضاه، أو يرجو تحقيق مصالح ومكاسب دنيوية ترفع من شأنه واسمه، ولن نختلف ها هنا حول المقاصد النهائية، بحثاً عن دنيا عاجلة أو رجاء آخرة باقية، لأن الحديث يدور حول آلية اختيار المساعدين والمستشارين ومن يستعين بهم الرئيس أو الزعيم أو القائد لإدارة شؤون الدولة، أو الوزارة، أو الشركة، أو ما شابه من كيانات إدارية، صغرت أم كبرت.
من هو الخبير ومن هو المستشار؟
الخبير هو ذاك المهني صاحب الدراية المتعمقة بمجال معين محدد، يعرف تفاصيل ودقائق الأمور فيه، كأن نقول: هذا خبير اقتصادي في مجال الكشف عن مواقع النفط مثلاً.
أما المستشار فهو صاحب باع طويل وواسع في مجال ما، يعرف علاقات وقوانين وأنظمة مرتبطة بهذا المجال، كأن نقول: مستشار تربوي لوزير التربية والتعليم مثلاً.
الخبير يُطلب منه الرأي في مجاله، فيقدمه للطالب، والمنطق السليم يقتضي الأخذ برأيه، أما المستشار، فإنه يبدي رأياً للمسؤول حين يُطلب منه أو يبادر بعرض وجهة نظره أو رأيه، لكن الفرق بينه وبين الخبير، أن المستشار قد يؤخذ برأيه أو يُرد. والمنطق الإداري السليم ها هنا أن رأيه غير ملزم للمسؤول، الذي ربما يكون محاطاً بعدد من المستشارين، في حين يكون رأي الخبير - كما يقتضي المنطق الإداري السليم – أقرب إلى الإلزام أو القبول به، إذ لا يوجد سبب مقنع وجيه لرفض رأيه من المسؤول، إلا إذا وجد رأياً أكثر وجاهة وعمقاً من خبير ثانٍ يفوق الأول، عمقاً ودقة في علمه وخبراته.
من هنا تأتي الآية الكريمة تبين مكانة الخبير في قوله تعالى (ولا ينبئك مثلُ خبير) أي: ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه، مثل خبير بها - كما جاء في تفسير ابن كثير - على رغم أن بعض المفسرين قالوا إن الله في هذه الآية، يعني نفسه تبارك وتعالى، فإنه أخبر بالواقع لا محالة، ولكن بعضاً آخر من المفسرين رأى في الآية إشارة مهمة إلى منزلة الخبرة، التي يصل إليها أي مشتغل وباحث في مجال محدد، والتعمق في تفاصيله ودقائقه.
الرسول قدوتنا في مسألة الخبراء والمستشارين
النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم – بخبرته في الحياة والتعاملات مع البشر، ومعرفة شخصياتهم وأنماط تفكيرهم وسلوكياتهم ومهاراتهم، كان دقيقاً في اختيار مستشاريه والخبراء الذين أحاط نفسه بهم، سواء على المستوى السياسي أو العسكري أو غيرهما من مجالات، فقد كان دقيقاً مثلاً في اختيار أمراء السرايا وقادة المعارك وغيرها من المهام الحياتية المتنوعة آنذاك، في قصة رفع الأذان المعروفة، جاءه أحد الأنصار وهو عبدالله بن زيد الأنصاري، بعد رؤية صالحة رأى فيها ما يقوله المؤذنون اليوم، وقد توافقت رؤياه رؤية عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ورغب أن يكون له شرف القيام بمهمة رفع الأذان، لكنه – صلى الله عليه وسلم – لم يوافق له على رغبته، لعلمه أن بلالاً أندى صوتاً من الأنصاري، فاختار بلال بن رباح ليكون مؤذن المدينة.
قصة غاية في البساطة، لكنها إشارة إلى أهمية أن يكون القائد على دراية بمن معه، فقد كانت له – صلى الله عليه وسلم - رؤيته الثاقبة ونظرته إلى الرجال، وكأنه يعلمنا أنه ليس دوماً وليس شرطاً أن تكون بعض المعايير التي نتفق عليها بشأن اختيار القادة والمسؤولين أو الخبراء والمستشارين، صحيحة، فلكل مهمة قائد أو شخص معين، وفي الوقت ذاته ليس بالضرورة أن ينفع هذا الشخص في مهام أخرى، أو إن نجح فلان في مهمة، فليس شرطاً أن ينجح في مهمة أخرى، وهكذا.
اختيار الخبراء والمستشارين ليس مكافأة نهاية خدمة
نستخلص مما سبق أهمية وضرورة التأنّي لدى أي مسؤول حين يقوم باختيار معاونيه، أو مستشاريه، أو خبرائه، إن أراد النجاح في مهمته، الأمر لا يجب أن يكون نوعاً من المكافأة أو شراءً للذمم أو أهداف أخرى، بل لابد أن يكون اختيار المستشارين أو المعاونين أو ما شابههم في المهام، بعيداً عن نظام المحسوبيات والمجاملات، سواء لمن يتم اختيارهم أو لمن قام بتزكيتهم وترشيحهم، الأمر أكبر وأخطر من ذلك بكثير.
اختيار المستشارين ربما يأتي مقدماً على اختيار الخبراء، باعتبار أن المستشار يكون أقرب للمسؤول ويبدي الرأي في مجال أوسع نطاقاً من الخبير، ومن هنا لابد أن يكون اختيار المستشارين وفق معايير محددة تشمل الكفاءة والخبرات المتراكمة اللازمة في المجال الذي يتم اختياره له، بالإضافة إلى ضرورة تمكنه من كثير من المهارات الشخصية، كالتفكير الناقد وتحليل المشكلات، والقدرة والإبداع في ابتكار وتقديم الحلول بتجرد وموضوعية، دون نزوع إلى ترضية هذا وذاك على حساب المصلحة العامة أو الكبرى.
المسألة في النهاية أمانة، والأمانة هي كل ما تم الائتمان عليه من قول، أو عمل، أو مال، أو علم، وأي اتباع للهوى والمزاج في تقديم الاستشارة للمسؤول، إنما هو أقرب إلى خيانة الأمانة، فقد يسير موكب الكيان الإداري، سواء كان على شكل شركة، أو مؤسسة، أو وزارة، أو دولة، بيسر وأمن وأمان ونجاح واستقرار، حين يقوم الجميع بأداء مهامهم بأمانة واقتدار، ونقيض ذلك يؤدي بالضرورة إلى التخبط وعدم استقرار، ومن خسارة إلى أخرى، وصولاً إلى انتكاسة أو أعمق من ذلك وأعقد، والأمثلة من هنا وهناك أكثر من أن نحصيها، كان للمستشارين تحديداً وربما أحياناً بعض الخبراء أو المعاونين، دورهم في النجاحات أو الانتكاسات.
تقع النجاحات حين يقوم المستشارون أو الخبراء والمعاونون بأدوارهم بكل أمانة وجدارة واقتدار، فيما الانتكاسات تزلزل الكيانات إن تخلى أولئك عن أماناتهم وعهدهم، متبعين أمزجتهم وأهواءهم، بل ربما أهواء غيرهم أيضاً على حساب المنفعة العامة، وعلى رغم علمنا جميعاً أن الله يحب أن تؤدى الأمانات إلى أهلها كاملة غير منقوصة، إلا أن الواعين لمثل هذه القبسات القرآنية قليل قليل.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
د. عـبــدالله العـمـادي
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6696
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2769
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2442
| 30 أكتوبر 2025