رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

عربي ودولي

3135

ناجية من مجزرة غزة تروي لحظات هروبها من الجحيم

29 مايو 2021 , 07:00ص
alsharq
غزة - حنان مطير

كانت شيرين الكولك تحيا حياة هانئة مع عائلة ودودة شيدت بيتها في شارع الوحدة، أحد أبرز شوارع مدينة غزة وأكثرها أمانا، لكن ذلك الأمان انتهى في بضع ساعات حين تحولت المنطقة إلى قطعة من جحيم بفعل القصف الصهيوني بأقوى أنواع الصواريخ المدمرة.

شيرين الأم لثلاثة أطفال عاشت المجزرة التي ارتكبها المحتل الإسرائيلي بحق أقاربها وأهلها وجيرانها في حيها الهادئ، وبعناية الله نجت من القصف بأعجوبة، لكنها ما تزال تعاني كابوس المجزرة كلما وضعت رأسها على الوسادة.

"الشرق" التقت بها وأطلقت لها العنان للتعبير عن تفاصيل ما عاشته في عتمة الليل وتلك روايتها: "حين ابتدأ العدوان على قطاع غزة واشتد القصف شرقا حيث حي الشجاعية وشمالا حيث بيت حانون، قمت بمساعدة أخت زوجي بتجهيز شقتها لاستقبال النازحين من تلك الأماكن الخطرة على اعتبار أن منطقتنا الأكثر أمنا في قطاع غزة، فيما انتقلت هي لبيت أهلها في نفس الشقة ولم نتخيل أن الجحيم كله سيكون في حارتنا ومربع بيتنا".

كانت السيدة بهاء الكولك ذات الأربعين عاما تنثر الحب والعطر بإصيصات الزهور التي صفتها على جدار شرفة منزلها المطل على شرفة منزل "شيرين الكولك"، حيث لم يكن يفصل بين الشرفتين سوى متر ونصف فقط، وكانت بهاء تجهز الورود لشيرين كلما أحبت الأخيرة نوعا منها، وكم قامت بحذف الألعاب لأبناء شيرين الثلاثة من شرفتها فيفرحون كثيرا حين يلتقطونها، فذلك البيت لم يأت منه يوما إلا كل خير وحب، إلا في تلك الساعات المرعبة حيث اندثر البيت بشرفته وأزهاره وبات ركاما فوق رؤوس أهله بعد أن انطلقت صواريخ الاحتلال الصهيوني منتصف الليل وأبادت الحي الآمن.

*مفاجأة الموت

وتقول: "في تلك الليلة ذهبنا إلى النوم جميعنا في غرفة واحدة، إذ بصوت مهول يقصف حولنا تتزلزل معه الأرض، ثم قصف جديد وجديد، أصوات صواريخ.. تكسير في كل مكان، زلزال عنيف يهز الأرض والأسرة، وهج مرعب باللون الأحمر يلون الجدران".

مشاعر مفزعة تجتاح شيرين التي هرعت تنزل عن سلم البيت من الطابق الثاني تحتضن تحت ذراعيها صغيريها أحمد وكريم فيما يحمل زوجها الصغير محمد ذا العامين والنصف بعد أن أخبرها بفزع أن العمارة المقابلة انهدمت كلها أمام عينيه وباتت ركاما فوق رأس بهاء ووالديها اللذين تجاوزا الثمانين عاما.

وتضيف: "كنا نركض ومن تحت أرجلنا يقتلع البلاط، "وكراميكا" الجدران تتطاير وتخرج من مكانها وترتطم هنا وهناك، والقصف لا يتوقف أبدا".

وتصف:"وصل زوجي عتبة البيت فلمعت السماء لونا أحمر وقصف صاروخ جديد قذف زوجي بقوته خارج البيت، حينها استسلمت للموت وتلفظت الشهادتين".

وتواصل: "كان صغيري أحمد ذي التسع سنوات يمسك بسبحة بقوة ويسبح فيها ويلتصق بي طيلة وقت المجزرة، وهو على يقين بأن الله سيحفظنا طالما بقيت السبحة في يده لذلك لم تفلت منه أبدا".

تحسست شيرين روحها، فوجدت أنها ما تزال على قيد الحياة رغم تلك الظروف التي تشبه القيامة - وفق وصفها - فهمت بالخروج من تحت الحمم، فسمعت صوت زوجي يصرخ "ادخلي لا تخرجي"، في حين أن كل قراراتهم كانت مجرد اجتهاد في النجاة. تعلق: "تلك الليلة لم تترك الصواريخ مكانا آمنا".

*أرواح على الأكف

وتكمل: "لا أدري كيف قررنا بعدها الخروج حاملين أرواحنا على أكفنا، لم نجد مخرجا فكل الجهات تحاصرنا بجبال ركام المنازل التي قصفها الاحتلال فوق رؤوس أهلها وجميعهم أقاربي من عائلة الكولك وعائلات أخرى، تسلقناها دون الالتفات لجروحنا والقصف ما يزال مستمرا".

وتتبع: "أمام عيوننا سقطت خزانات المياه من فوق عمارتنا وتمايلت جدران البيوت التي لم تقصف بشكل مباشر ومنها ما سقط بجوارنا، غرقت المنطقة بالمياه والنار والحمم والشظايا والدخان والسواد والحجارة المتطايرة والصراخ المذعور، والشهداء يا الله!".

تخطت شيرين وعائلتها أعلى درجات الخطر بخروجها من المربع المنكوب، لا تدري أين المفر، وأين المأمن، حتى الإسعافات لم يترك لها منفذ تدخل منه لتصل للمصابين، وهناك بدأت تشعر بأنفاسها تنقطع وعرقها يتصبب ولم تعد تشعر بجسدها، وسقطت مغشيا عليها قبل أن يتم إسعافها.

لكن صوتا مليئا بالذعر والتوسل يتسلل لمسامعها صارخا "ماما متموتيش.. ماما متموتيش" لملمت به قواها الخائرة، وأخبرتهم "أنا منيحة يا ماما مش حموت".

"عدنا لاستكمال رحلتنا مشيا على الأقدام، حتى وصلنا مستشفى الشفاء، افترش صغاري الأرض، وأنا ما أزال لا أستوعب ما جرى، كأنني أشاهد فيلما خياليا على شاشة التلفاز، كأنني أرى القيامة حقيقة، فيما راحت تهدئ من روعي الحاجة أم عوني الكولك تلك التي كان مصابها أعظم وأعظم فأبناؤها الثلاثة وعائلاتهم يرقدون تحت أنقاض العمارة المقصوفة".

* شهيد تلو الشهيد

ألقت بنفسها على الأرض وبين كل دقيقة وأخرى كان يصلها خبر استخراج فلان شهيدا من تحت الأنقاض ثم فلان ثم فلان حتى وصل عددهم إلى 37، أما الصبية زينب الكولك فكانت لحسن الحظ تمسك هاتفها حين سقط البيت فوقها وظل بيدها تحت الأنقاض، تختم شيرين حديثها: "كنت أستمع لحديثهم معها محاولين تحديد مكانها، وكان أهلها يفقدون أرواحهم واحدا تلو الآخر بجوارها، حتى تمكنوا من انتشالها حية تعاني الصدمة ولا تتكلم فيما يرقد والدها بحالة خطيرة في المستشفى".

انتهى العدوان لكن آثاره الإجرامية على نفوس من عاشوه لم تنته، فأحمد ما زال يستيقظ صارخا فزعا، أما غرفته الجديدة فدمرها المحتل وكذلك شاشة التلفاز الجديدة وسيارة والده التي لطالما خرجوا فيها جميعا فرحين، وكذلك حقيبة مدرسته وكتبه جميعها انتهت، أما والدته فرغم آلامها وحزنها إلا أنها تخبرهم أن المال معوض والجنة للشهداء وكلنا للأقصى والقدس فداء.

مساحة إعلانية