رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
أولى الدين الإسلامي الحنيف اهتماما كبيرا للحفاظ على عناصر القوة بجميع أنواعها (المالي -الاقتصادي -التكنولوجي - السياسي - الاجتماعي) في المجتمع وكرس ثقافة التوفير والعقلانية في تنظيم إدارة الموارد الاقتصادية للأمة وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وحفظ حقوق الأجيال القادمة ومستقبلهم ولذلك توجهت المؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية للعب دور كبير في مجال المسؤولية الاجتماعية وعلى ضرورة الاعتناء بالآخرين كما نعتني بأنفسنا فالشركات والهيئات الإسلامية لها دور ضروري في مجالات المسؤولية الاجتماعية من خلال الاستثمار في المؤسسات التي تعمل وفق أحكام الشريعة الإسلامية أو من خلال اتخاذ خطوات جدية في مجال المسؤولية الاجتماعية حتى لا يتضرر أفراد المجتمع من المبادئ الأخلاقية الأساسية في الإسلام هو السلوك الاجتماعي التي يمكن من خلالها الارتقاء بأخلاق الإنسان وتحقيق الرفاهية له ولمجتمعه لذا فإن كل إنسان له الحق في أن يحترم اجتماعيا من خلال استثماراته وتنميتها الحلال فله الحق في أن يستثمر في إحدى الشركات التي تشترك في أنشطة متوافقة لمبادئ الشريعة الإسلامية من خلال مجالات وأنشطة الصناعة المالية والاقتصادية الإسلامية فأصبحت صناعة محترفة مكنت الكثير من المؤسسات من تحقيق النمو والأرباح والاستجابة لحاجات عملائها وهذا التوسع في الصناعة لا يعد نجاحا كاملا مادامت الصناعة لا تهتم الاهتمام الكافي بما يعرف حاليا بالمسؤولية الاجتماعية فالمؤسسات المالية الإسلامية لا تسعى لتحقيق العوائد والأرباح فقط إرضاء لرغبات المستثمر( مساهم - مالك ) بل عليها أيضًا مراعاة حاجات ورغبات العاملين والمتعاملين والمجتمع بكافة عناصره مما يحملها مسؤولية اجتماعية تقتضي منها ممارسة بعض الأنشطة وتقديم بعض الخدمات التي تشير إلى تجاوبها مع آمال وطموحات المجتمع فالمسؤولية الاجتماعية من المواضيع الهامة التي أثارت باهتمام الاقتصاديين لما لها من آثار كبيرة على المجتمع من جهة والمحيط والبيئة من جهة مما جعل دراستها ضرورة ملحة تقتضيها معطيات الواقع الراهن وعليه فالتقرير في محاولة الإشارة إلى مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات المالية الإسلامية مع تركيز السياق ذاته على إبراز مدى اهتمام الصناعة المالية الإسلامية للتنمية بتبني هده المسؤولية من جوانبها المختلفة وفقا للتالي :-
أولا : المسؤولية الاجتماعية (Social Responsibility )
المسؤولية الاجتماعية أحد مجالات أنشطة المؤسسات المالية الإسلامية فهي الجسر الذي تؤدي من خلاله واجبها نحو المجتمع للمشاركة في مكافحة تحديات الفقر والجهل وتوزيع الثروة والإسهام في نشر العدالة وتستخدم المؤسسات الإسلامية عدة منتجات للوفاء بمسؤوليتها الاجتماعية مثل التبرع والقرض الحسن وتمويل الحرف الصغيرة والمتوسطة وتمويل الخدمات الصحية والتعليمة ودعم الهيئات الخيرية والدينية وإدارة أموال الزكاة جمعا وتوزيعا وقد عرفها مجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة بالالتزام المستمر من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ويمكن تقسيم المسؤولية لمستويات ثلاثة متكاملة:-
(المسؤولية الفردية الذاتية) مسؤولية الفرد عن نفسه وعن عمله وهو يسبق المسؤولية الاجتماعية.
(المسؤولية الجماعية) مسؤولية الجماعة جماعيا وبكاملها وككل من أعضائها وعن سلوكها وهذا المستوى يدعم المسؤولية الاجتماعية ويعززها.
(المسؤولية الاجتماعية) المسؤولية الفردية عن الجماعة كمسؤولية الفرد أمام ذاته والجماعة التي ينتمي إليها.
ثانيا: مفهوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية
تعمل المؤسسات المالية الإسلامية على تحقيق الإنماء الجاد وفق منهج وشرع الله عز وجل ولذا فإن الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية للهيئة يصدر عن إيمان أفراده بمسؤوليتهم في تحقيق الأهداف التي أمر بها الله سبحانه وتعالى وذلك بتيسير تداول الأموال والانتفاع بها والعمل على تحريكها وتوظيفها في خدمة الأفراد والمجتمع ولهذا تنعكس خصائص المؤسسات الإسلامية والأسس الحاكمة لأنشطتها وعملياتها وطبيعتها المتميزة على مسؤولياتها الاجتماعية التي تتميز بدورها عن غيرها من المنظمات فتعريفها التزام تعبدي أخلاقي يقوم على أثره القائمون على إدارة المؤسسات الإسلامية بالمساهمة في تكوين وتحسين وحماية رفاهية المجتمع ككل ورعاية المصالح والأهداف الاجتماعية لأفراده عبر صياغة الإجراءات وتفعيل الطرق والأساليب الموصلة لذلك بهدف رضا الله سبحانه وتعالى والمساهمة في إيجاد التكافل والتعاون والتقدم والوعي الاجتماعي التنمية الشاملة.
ثالثا: المسؤولية الاجتماعية للشركات
بمثابة إجراءات تدمج بموجبها المؤسسات السلوكيات الاجتماعية في سياساتها وعملياتها المتصلة بأعمالها التجارية ويشمل ذلك المتطلبات البيئية والاقتصادية والمجتمعية ورغم اختلاف تحديد مفهوم للمسؤولية الاجتماعية إلا أن المضمون يتفق في نموذج من التذكير للشركات بمسؤولياتها وواجباتها إزاء مجتمعها الذي تنتسب إليه إذ أن مقتضى هذه المسؤولية يكون بمثابة مبادرات اختيارية تقوم بها الشركات صاحبة الشأن بإرادتها المنفردة تجاه المجتمع وتطويره فمجلس الأعمال العالمي للتنمية عرفها بالالتزام المستمر من قبل شركات الأعمال بالتصرف أخلاقياً والمساهمة في تحقيق التنمية الاقتصادية والعمل على تحسين نوعية الظروف المعيشية للقوى العاملة وعائلاتهم والمجتمع المحلي والمجتمع ككل بأسلوب يخدم التجارة والتنمية معا.
رابعا: الأبعاد الرئيسية لتطبيقات المسؤولية الاجتماعية
الشعور بالمسؤولية له أهمية كبيرة للفرد والمجتمع وكلما عظم الشعور بالمسؤولية لدى الأفراد وعظم إدراكها في النفس للفرد والمجتمع بصلاحهما ولذلك كان رقي الأمم مرتبطا بدقة هذا الشعور وسمو الإدراك به عند أبنائها خصوصا الذين يتصدرون مراكز التوجيه والقرار ويتولون مقاليد الإدارة والتنظيم وتتمثل الأبعاد كالتالي :-
(البعد الاقتصادي) يقتضي باستخدام الموارد بشكل رشيد لتنتج سلعا وخدمات بنوعية راقية توزع العوائد بشكل عادل على عوامل الإنتاج المختلفة كما يقتضي بالمنافسة العادلة عن طريق احترام قواعد المنافسة وعدم إلحاق الأذى بالمنافسين إضافة إلى منع الاحتكار والإضرار بالمستهلكين والاستفادة من التقدم التكنولوجي في معالجة الأضرار التي تلحق بالبيئة.
( البعد القانوني) يقتضي بالالتزام الواعي والطوعي بالقوانين والتشريعات المنظمة لمختلف المجالات في المجتمع كاحترام قوانين حماية المستهلك من المواد الضارة و حماية الأطفال صحيا وثقافيا وحماية البيئة عن طريق منع التلوث بشتى أنواعه وصيانة الموارد الطبيعية وتنميتها والتخلص من مخلفات المنتوجات بعد استهلاكها وبتحقيق العدالة والسلامة سواء عن طريق التقليل من إصابات العمل أو تحسين ظروف العمل ومنع عمل المسنين وصغار السن وإعطاء فرص العمل لذوي الاحتياجات الخاصة إضافة إلى احترام حقوق الإنسان ومنع التمييز على أساس الجنس والدين.
(البعد الاجتماعي) يقتضي بمراعاة المعايير الأخلاقية والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع عن طريق احترام العادات والتقاليد ومراعاة الجوانب الأخلاقية في الاستهلاك لهذا يتم التركيز على المنتجات والخدمات المقدمة بما يتوافق ونوعية الحياة في المجتمع والتركيز على تقديم الحاجات الأساسية للمجتمع ( مأكل – ملبس – مسكن---).
خامسا: مبادئ التزام وتطبيق المؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية لمسؤوليتها الاجتماعية
يتمثل في قبول الملتزم للتكليف الموكل إليه والالتزام بأداء دوره الاجتماعي في المجتمع من خلال وفائه بمسؤولياته الاجتماعية في المجالات المختلفة تجاه الأطراف المتعددة سواء داخل المؤسسة المالية أو خارجها من دافعية التزام المؤسسة المالية الإسلامية بمسؤوليته الاجتماعية بتبني إدراك مساهمي البنك والعاملين به غايات وأهداف تداول الأمور كما حددها الله سبحانه وتعالى وذلك رغبة منهم في تحقيق الأرباح والعوائد المادية في ظل الالتزام بالمنهج الذي خطه الله لعباده ويساعد البنك الإسلامي على الوفاء بمسؤوليته الاجتماعية التزامه بتطبيق بعض المبادئ والقواعد أهمها :
قاعدة الحلال والحرام لا تقبل المؤسسة نشاطًا إلا بعد التأكد من مشروعيته ومسايرته لمقتضيات الشريعة الإسلامية بما يساعدها على انتقاء الأعمال والأنشطة والخدمات الصالحة كالتزام كامل بأحكام الشريعة قولاً وعملاً شكلاً ومضموناً التزامه بمبادئ الإسلام في تكوين رأس ماله وفي وتنظيماته ولوائحه وفي طريقة تعبئته لموارده وفي طريقة وأساليب توظيفه لأمواله.
وجود هيئة الرقابة الشرعية حيث تساعد تلك الهيئة في تصحيح الأنشطة والخدمات التي تثار حولها الشكوك وتبحث مدى مسايرة النشاط أو الخدمة لمقتضيات الشريعة وتساهم في بيان الأنشطة والبرامج الاجتماعية التي يمكن للمؤسسة المالية تقديمها بقيام بإعداد تخطيط واضح للأهداف وإعداد برامج العمل اللازمة لتحقيقها التقويم المستمر للأداء والنتائج.
مبدأ الغنم بالغرم يلتزم المؤسسة المالية الإسلامية بتقييم الأموال طبقًا لمبدأ الغنم بالغرم بما يقضي الاهتمام بنتائج الأعمال وما تحققه من عوائد تركيز الخسارة على جانب واحد فيحدث الظلم الوضوح الفكري لمهمة ووظيفة البنك الإسلامي لدى كل العاملين من الإدارة العليا إلى أدنى مستوى تنفيذي.
مبدأ لا ضرر ولا ضرار فيلزم هذا المبدأ المؤسسة بضرورة الاهتمام بالأعمال والأنشطة والخدمات التي يقدمها فلا يترتب عليها ضرر يلحق به أو يلحق بأحد المتعاملين معه، التحري الدقيق في اختيار قيادات المؤسسة بما يضمن أن تكون هذه القيادات نماذج حية للشخصية المسلمة الواعية المؤمنة.
سادسا: تطبيقات المسؤولية الاجتماعية بين الربحية والتكاليف
المؤسسات المالية والاقتصادية الإسلامية نظم اجتماعية شاملة تهدف إلى غرس القيم الإسلامية في المجتمع في مختلف المعاملات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية من خلال المسؤولية الاجتماعية التي تساهم في تمويل مشروعات الرعاية الصحية والاجتماعية وزيادة الوعي الادخاري لدى أفراد المجتمع من خلال سهولة الوصول إلى الأوعية والأدوات الادخارية والمساهمة في التأهيل العلمي والقضاء على الأمية وزيادة الوعي المصرفي لأبناء المجتمع فهي تمتاز بأنها تعد بمثابة مكسب للمؤسسة (عوائد غير مادية ومنفعه ذاتية) وليست تكاليف بخلاف المؤسسات المالية التقليدية ويرجع هذا إلى أن أخلاقيات العمل المصرفي القائم على الشريعة الإسلامية أعطت هذا المفهوم بعداً مختلفاً كما أعطت طريقة إستراتيجية مهمة للتفكير في الأعمال الخيرية.
زيتونتي ماتت.. وبقيت أنا !
الهوينا كان يمشي، هنا فوق رمشي، اقتلوه بهدوءٍ، وأنا أهديه نعشي...... صدق القائل ومِنَ الحُبِ ما قَتل، هذا... اقرأ المزيد
189
| 31 أكتوبر 2025
بيد الوالدين تُرسم ملامح الغد
تُعتبر الأسرة الخلية الأولى في المجتمع وأحد أهم العوامل المؤثرة في بناء شخصية الطفل، حيث تُسهم في تكوين... اقرأ المزيد
183
| 31 أكتوبر 2025
الخطأ في تشخيص حالات التوحد (ASD)
ظهرت للأسف من قبل أخصائيين غير مدربين على كفاءة وضمير مهني التجارة بمسمى العلاج وعدم الإدراك والفهم والوعي... اقرأ المزيد
120
| 31 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6645
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2712
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2211
| 30 أكتوبر 2025