رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لم يمرّ كأس العالم قطر 2022 دونَ أن يُذكّرنا بوجود اختلافات كثيرة بين اعتزازنا بقيمنا وبانتمائنا العربي الإسلامي وبين انتصار آخرين، على قلّتهم، إلى أفكار لا تقبلها ثقافات شتّى في العالم. وبدت مواقف بعض الجهات من قضايا زائفة تجعلنا نفكّر منذ المونديال وإلى الآن في ضرورة أن نقدّم للعالم هويّتنا وثقافتنا من منظورنا وليس من منظور أولئك الذين ظلّت فيهم آفات الفكر الاستعماري معمّرة في عقولهم إلى أيّامنا. لذلك كنتُ حريصا في فترة المونديال وبعده على الدّعوة إلى توثيق كلّ شيء، لأنّنا حين نوثّق فإنّما نفعل ذلك بمنظورنا للحياة وبثقافتنا الأصيلة وبرؤيتنا لعلاقتنا مع الثقافات الأخرى، بينما لو وثّق الآخرون حاضرنا فإنّهم لاشكّ سيسبغون عليه الكثير من نظرتهم وأفكارهم. وما أحوجنا إلى أن ندرك أنّ التوثيق ليس مجرّد حصر كتابي أو بصري لما حدث، وإنّما جمع كلّ الوثائق وتقديمها من زاويتنا، إذ علينا أن نعتبر من تاريخنا العربي حين كانت الوقائع تُقدَّم من زاوية الآخرين، فيُظلم أجدادنا فضلا عن ثقافتنا وحضارتنا وتُشوّه صورتنا.
لننظر في ذلك التناول الذكي للروائي أمين معلوف في كتابه "الحروب الصليبيّة كما رآها العرب" حين عاد إلى وثائق الإخباريين العرب ليواجه بها ما راج من "الحقائق" عن تفاصيل مائتي سنة من الصراع بين الفرنجة والعرب المسلمين، والمدهش في السرديّة التاريخيّة التي أنشأها معلوف إشارته الأولى والمربكة إلى أنّ الإخباريين العرب لم يستخدموا مصطلح "الحروب الصليبيّة"، بل استخدموا عبارات مثل" حروب الفرنجة" أو "غزوات" ولكنّ الغرب اصطنع هذا المصطلح ليحوّل مجرى العلاقة بين العرب وبينه إلى صدام "ديني"! لذلك يبيّن معلوف غايته من الكتاب قائلاً: " الحقّ أنّ ما أردنا أن نقدّمه ليس كتاب تاريخ آخر بقدر ما هو، انطلاقا من وجهة نظر أهملت حتّى الآن، "رواية حقيقيّة" عن الحروب الصليبيّة وعن هذين القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي ولا يزالان يحدّدان حتّى اليوم علاقاتهما."
ولئن عاد معلوف إلى استخراج وثائق القُدامى لـ"تصحيح" التاريخ، فإننا اليوم لن ننتظر مرور سنوات وقرون لتتبنّى أجيالنا القادمة "تاريخنا الحاضر" برواية الآخرين، ألسنا أولى بتوثيق "روايتنا" لتاريخنا. ذلك هو الهدف الأساسي من رهان التوثيق، إنّه مطلبُ أجيال عربيّة عاشت لعقود تواجه صورة حضارتنا من زاوية الغرب. ولا أعتقد أنّ توثيق حدث تاريخي هام مثل المونديال هو شأنٌ غربيّ، ولكنّه شأنٌ يَخصّنا قبل غيرنا. إنّنا نوثّق الوقائع انطلاقا ممّا عشناهُ، وهذا المبدأ الأساسي في التوثيق هو منطلق علمي أيضا لما يسمّى في الدراسات التاريخيّة بـ"تاريخ الزمن الراهن"، حيثُ عاد المؤرّخون إلى تناول التجربة المعاصرة، بما فيها من مادّة متحرّكة وذاكرة حيّة، تقوم على مراقبة "الشّهود" لما جرى في فترة يكون فيها الماضي قريبا من الحاضر، وهو بتعبير موجز "تاريخ الماضي القريب" الذي كنّا نحن جزءا من الشهود عليه، قبل انقضائه.
نقف أمام تاريخنا الراهن موقف الشّهود، حتّى لا نتلقّف الوعي به عن طريق الآخرين، لقد تأذّت حضارتنا العربيّة طويلاً من حركة الاستشراق التي وثّقت تراثنا و"حقَّقته"، فالاستشراق له استراتيجيّة معلومة، أسهب إدوارد سعيد في فضحها، حين اعتبر أنّ الغرب لا يرى نفسه غير "اليد العليا" التي لها فضل على العرب، وأنّ الحركة الاستشراقيّة مرتبطة بالنزعة الاستعمارية من ناحية وبالعنصريّة من ناحية أخرى. ورغم ذلك فإنّنا لا نستطيع أن نتجاهل الأثر الإيجابي للمستشرقين، فقد نفضوا الغبار عن مئات المخطوطات وقاموا بالضبط البيبلوغرافي للمخطوطات العربيّة وأصدروا فهارس لأبرز المخطوطات العربيّة الموجودة في خزائن المكتبات الأوروبية، ودرسوا مصادر التراث العربي فصنّفوه وحصروه ووثّقوه، ولكنّ هذه الإسهامات التي وجدنا أثرها منذ أواخر القرن الثاني عشر الميلادي جديرة بأن تراجع من منظورنا العربي، كما أنّه لا يفوتنا أنّ تلك "الجهود الاستشراقيّة" أفادت كثيرا الأهداف الدينيّة والعسكريّة والتوسّعيّة للدّول الغربيّة، لذلك نجدّد القول بخطورة التوثيق وأهدافه وفي المسالك التي تتحكّم فيه أحيانًا. وبالنظر إلى ذلك الإرث الهائل من تراث المخطوطات الذي حققه المستشرقون، علينا أن ننتبه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي متعلّقة بمناهج التحقيق، حيثُ تأثّرت مناهجهم بما رافق نقدهم للنصوص الكلاسيكيّة اللاتينيّة القديمة، حيثُ ساد التشكيك فيها، فتمّ التعامل مع التراث العربي من نفس الزاوية، ولذلك كثرت المقاربات النقديّة له دون مراعاة لأصول التدوين لدى العرب، وقد أريق حبر كثير حول عمليات النقد والشك والتحريف لمصادر تراثيّة، وانتقل ذلك الهاجس إلى عدد من الباحثين والكتاب العرب بفعل أثر الحركة الاستشراقيّة، وبات من الضّروري التخلّص من النظرة الاستشراقيّة إلى تراثنا، بوضع منهج أصيل يُستمدُّ من معايير التدوين والتوثيق العربي.
ولاشكّ فإنّ الاهتمام بالمخطوطات وحفظها هو جزء من الوعي التوثيقي، وفي هذا السياق سعت مكتبة قطر الوطنيّة إلى القيام بهذه المسؤولية التاريخيّة والمجتمعيّة، ذلك أنّها منذ تأسيسها وهي تعمل على الحفاظ على التراث العربي الإسلامي باعتباره من أهم ركائز رسالتها، وقد ساهمت مجهودات المؤمنين بهذه الرسالة في تزويد المكتبة بمخطوطات ومصادر نادرة كانت نواة أساسيّة للمجموعة التراثيّة التي اشتملت على آلاف المخطوطات العربيّة الإسلامية وانخرط ذلك المسعى في تقليد عُرف به القطريون منذ عقود حين كان حكّام قطر والميسورون يهتمون بالمخطوطات ويقتنونها، فكان الشيخ جاسم بن محمد آل ثاني مؤسس الدولة يعتني بالمخطوطات وينفق في طباعتها لتوفيرها لطلاّب العلم في مختلف الدول العربيّة، وعلى نهجه سار ابنه الشيخ عبد الله بن جاسم آل ثاني عندما أوقف بعض المخطوطات وكذلك الشيخ علي بن عبد الله آل ثاني الذي عرف بشغفه بالعلم والكتاب وأوقف كتبه في دار الكتب القطريّة وفي مكتبة قطر بالأحساء، وخلق هذا التوجّه الثقافي بيئة مناسبة للاهتمام بالمخطوطات لدى المثقفين القطريين، فتجد أغلب المكتبات الخاصّة ثريّة بالمخطوطات، وكانوا يسعون في اقتنائها والاستفادة منها، فتكون حديث مجالسهم ونواة لكثير من معارفهم.
وليس من الغريب على مكتبة قطر الوطنيّة أن تحمل هذه المسؤوليّة وأن تقوم بدورها في صيانة المخطوطات بشكل حديث، فالمكتبة التراثيّة تزخرُ بأنفس المخطوطات، والوثائق والخرائط والصّور النادرة. ومن أجل توفير رصيد أكبر من المخطوطات لفائدة القراء والباحثين على السّواء أرست مكتبة قطر الوطنيّة جسرا للتواصل مع المكتبات والأرشيفات والمؤسسات العالميّة للحصول على نسخ رقميّة من الوثائق والمخطوطات، وعرضها في البوّابة الرقميّة التي تعدّ ثمرة شراكات ممتدّة ومتينة في الزّمن مع المكتبة البريطانيّة ومؤسسة قطر، وقد تضمّن مشروع الرقمنة قرابة مليون وثيقة تاريخيّة من الأرشيف البريطاني حول تاريخ المنطقة، وكم يسّرت هذه الوثائق فهمنا لمنطقة الشرق الأوسط، وهي مادّة هامّة للدراسة قد تنقل إلينا منظور الآخر، ولكن إذا كنا على وعي بثقافتنا وتاريخنا فإنّنا ندرسها من زاويتنا وبالمناهج التي تغذّي رؤيتنا ولا تجعلنا غافلين عن إدراك الحقائق فيها. وإذا علمنا أنّ الأرشيف الضّخم المعروف باسم سجلات مكتب الهند يمسح قرابة تسعة أميال من مساحة أرفف المكتبة البريطانيّة، فإنّنا ندرك ما توليه الأمم من أهمية للوثائق.
إنّنا نحتاج إلى التوثيق حاجتنا إلى بناء أرشيف واسع أيضا، لأنّ الذاكرة التاريخيّة تتطلّب وجود هذا الأرشيف، فمن خلاله يستطيع الفرد كما المؤسسات تحويل الذّاكرة إلى قوّة فاعلة في الحاضر، لقد كنت ألاحظ في كلّ أسفاري مدى انتشار ثقافة التوثيق في دول العالم وخاصّة منها الدّول الغربيّة، هناك حيثُ يدرّبون الأطفال منذ صغرهم على توثيق تواريخهم الشّخصيّة من خلال ألبومات الصّور وكتابة المذكرات عن رحلاتهم، وتسجيل أبسط الأشياء اليوميّة، وقس على ذلك ما تفعله المؤسسات من أرشفة تاريخها. فعمليّة التوثيق تُسعفنا أفرادا ومجتمعات من فقدان الذاكرة، وتجعل ماضينا القريب بعد أن يُصنّف في "التراث" مادّة تنتمي إلينا بشتّى المعايير، ويصبح الأرشيف التاريخي بما يغتني به من وثائق شاهدا على كلّ الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وحتى السياسيّة والإداريّة، فيساهم في حفظ الذاكرة وبناء الوعي التاريخي لكلّ فئات المجتمع بما يعزّز ذاكرتهم الوطنيّة، لذلك فإنّ التوثيق هو جزء من عمل وطني لا تقلّ قيمته عن بناء وسائل التقدّم في المجتمع، فلا يُمكن للشّعوب أن تعيش دون ذاكرة.
وقد حرصت خلال مسيرتي العمليّة أن تكون مؤلفاتي نوعا من التوثيق لمسيرة حياتي، إذ أنّ كلّ كتاب هو نوع من التوثيق لفترة من حياتي. فكثيرًا ما عُنيت بأدب الرّحلات لما له من قيمة توثيقيّة، واعتبرتُ حياة الإنسان أشبه برحلة، وما عليه إلاّ أن يترك أثرًا فيها فيسجّل ما يراه صالحا للتوثيق لفائدته على نفسه وعلى النّاس، واعتبرتُ أنّ سعي العرب إلى توثيق رحلاتهم أسعفنا كثيرًا من انفراد الروايات الغربيّة عن بلداننا وعن الشعوب الأخرى، فمنذ نهاية القرن التاسع الميلادي بدأت الرحلات العربيّة مع المسعودي في نقل الحقائق الجغرافيّة والتاريخيّة وأنماط عيش الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم، من خلال التجارب والمشاهدات، ومن أجلّ ما وصلنا كتاب "مروج الذهب ومعادن الجوهر" الذي جمع بين التاريخ والجغرافيا والسياسة، وكان القرن الثاني عشر الميلادي من أكثر القرون تسجيلاً للرحلات، فعرفنا فيه رحلة ابن جبير الأندلسي ورحلة ابن بطوطة التي سمّاها بـ"تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" وقدّم فيها صورة شاملة عن العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري، واستمرّت الرحلات إلى عصرنا الراهن مرورا بعصر "النهضة العربيّة"، فمن يقدر أن يتجاهل رحلة رفاعة رافع الطهطاوي التي سجّل تفاصيلها في كتابه "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" فبيّنت ما بلغه الغرب من تقدّم في نهايات القرن التاسع عشر، وأثر ما سجّله على حركة الفكر والأدب في أجيال العرب. إنّنا لا نستطيع أن ننفي الدور الكبير الذي ساهم فيه أدب الرحلات لنقل منظورنا العربي الإسلامي للآخر ولطبيعة تفكيرنا وتلقينا للحضارة الإنسانية في فترات تاريخيّة مختلفة، ولذلك فإنّ تلك الرحلات إنّما هي وثائق صاغها العرب من زاوية تفكيرهم وانطلاقا من ثقافتهم ورؤيتهم للعالم.
وقد كنتُ على وعي مبكّر بكلّ هذه الأبعاد العميقة لأدب الترحال ولأهمية التوثيق حيثما حللتُ، فقد سمحت لي مسؤوليّاتي الدبلوماسيّة حين عملت سفيرًا لبلدي في أكثر من دولة على أن أطّلع على ثقافات الشّعوب وأن أوثّق فيما كتبتُ للقضايا الكبرى التي شغلتني وشغلت الثقافة العربيّة، فكتابي "جدل المعارك والتسويات: الحرب الخليجيّة الأولى ومجلس الأمن"، هو إلى حدّ ما توثيق للموضوع الذي شغلني مع زملائي سفراء دول الخليج العربي أثناء عملي مندوبا لبلادي في الأمم المتّحدة بنيويورك حول تعامل مجلس الأمن مع الحرب الإيرانيّة العراقيّة.
وفي كتابي "على قدر أهل العزم" وثّقتُ لعملي كوزير للإعلام وبعدها للثقافة والتراث والفنون، وليس أدلّ على ذلك ما عمدتُ إلى توثيقه عن فعالية "الدوحة عاصمة للثقافة العربيّة عام 2010"، ذلك الحدث الذي حوّل الدوحة إلى مركز إشعاع ثقافي عربي. كما وثّقت للحواضر الثقافيّة في العالم العربي، التي عشت فيها ومن بينها القاهرة، وبيروت، وسجلتُ ملاحظاتي عن المتاحف التي عرفتها ومنها "متحف اللوفر" و"متحف الميتروبوليتان"، و"متحف الفن الإسلامي"، و"متحف قطر الوطني"، وهي أعمال توثيقيّة رافقتها آرائي ومواقفي الفكريّة. أمّا كتابيَّ ""وظلم ذوي القُربى"، و"جسور لا أسوار" فهما توثيق دقيق لترشحي ومسيرتي نحو رئاسة اليونسكو وما واجهته من تحديات خلال هذه المسيرة، ولا شكّ فإنّ ما فيهما من معطيات توثيقيّة ستسهم في تقديم تلك التجربة من زاوية العرب وليس من زاوية "الإعلام الغربي"، فقد سارعتُ إلى توثيقها حتّى لا يمرّ الزمن عن تفاصيلها فيغمر النسيان بعضًا منها، فالحاجة إلى الذّاكرة أمر لا محيد عنهُ، وكم نحن في حاجةٍ إلى تسجيل تجاربنا الخاصّة التي لها علاقة مباشرة بالوطن وبالقضايا التي تعيشها المجتمعات العربيّة، فقد كنت أيّامها صوتا للمثقفين العرب الذين عانوا طويلا من إقصاء المتشدّقين بحقوق الإنسان وبالتنوع الثقافي وبالتساوي بين الشّعوب.
واستمرّ عملي التوثيقي في كتابي"مسافر زاده الجمالُ" فسجّلت فيه ما جادت به القريحة في لحظات ملهمة وثّقتها التكنولوجيا، فاستوعب الأنستغرام النصوص القصيرة، بالإضافة إلى الصور بشأن موضوعات كثيرة منها الشخصيات التي عرفتها وصنعت جزءا من تاريخ أوطانها، وزياراتي للبلدان ولقاءاتي بمثقفيها وقادتها وكبار المسؤولين فيها، كلّ شيء موثّق بالنص والصّورة ليبقى أثرا للأجيال، وإننّي لأحثّ صانعي الأحداث على التوثيق الشّخصي لمساهماتهم لما في ذلك من نفع لمجتمعاتهم.
جوهر الكلام: صرخات ثقيلة تحت سماء ملبّدة!
تتنوع مُسمّيات (المطر) في لغة العرب تبعا لشدته وغزارته، ومنها الرشّ: وهو أول المطر، والطّلّ: المطر الضعيف، والرذاذ:... اقرأ المزيد
369
| 21 نوفمبر 2025
«ثورة الياسمين حرّرت العصفور من القفص»
عَبِقٌ هُو الياسمين. لطالما داعب شذاه العذب روحها، تلك التّي كانت تهوى اقتطافه من غصنه اليافع في حديقة... اقرأ المزيد
453
| 21 نوفمبر 2025
ظلّي يسبقني
في الآونة الأخيرة، بدأت ألاحظ أن ظلّي صار يسبقني. لا أعلم متى بدأ ذلك، ولا متى توقفت أنا... اقرأ المزيد
228
| 21 نوفمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
10539
| 20 نوفمبر 2025
وفقًا للمؤشرات التقليدية، شهدت أسهم التكنولوجيا هذا العام ارتفاعًا في تقييماتها دفعها إلى منطقة الفقاعة. فقد وصلت مضاعفات الأرباح المتوقعة إلى مستويات نادرًا ما شوهدت من قبل، لذلك، لم يكن التراجع في التقييمات منذ منتصف أكتوبر مفاجئًا. وقد يعكس هذا الانخفاض حالة من الحذر وجني الأرباح. وقد يكون مؤشرًا على تراجع أكبر قادم، أو مجرد استراحة في سوق صاعدة طويلة الأمد تصاحب ثورة الذكاء الاصطناعي. وحتى الآن، لا يُعدّ الهبوط الأخير في سوق الأسهم أكثر من مجرد "تصحيح" محدود. فقد تراجعت الأسواق في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها سجلت ارتفاعًا طفيفًا خلال الأسبوع الذي بدأ يوم الاثنين 10 من الشهر نفسه، لكنها عادت وانخفضت في نهاية الأسبوع. وما تزال السوق إجمالاً عند مستويات مرتفعة مقارنة بشهر أبريل، حين شهدت انخفاضًا مرتبطًا بإعلان الرئيس دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية. فعلى سبيل المثال: تراجعت أسهم شركة إنفيديا بنحو 10% في الأسبوع الأول من نوفمبر، لكنها بقيت أعلى بنحو 60% مقارنة بما كانت عليه قبل ستة أشهر فقط. مؤشر S&P 500 انخفض إلى 6700 في الرابع عشر من نوفمبر، مقارنة بذروة بلغت 6920، وما زال أعلى بنحو سبعين بالمئة مقارنة بنوفمبر 2022. هيمنة شركات التكنولوجيا الكبرى على القيمة السوقية الإجمالية أصبحت واضحة. فمع نهاية أكتوبر، ورغم ارتفاع المؤشر طوال العام، باستثناء التراجع في أبريل، شهدت نحو 397 شركة من شركات المؤشر انخفاضًا في قيمتها خلال تلك الفترة. ثماني من أكبر عشر شركات في المؤشر هي شركات تكنولوجية. وتمثل هذه الشركات 36% من إجمالي القيمة السوقية في الولايات المتحدة، و60% من المكاسب المحققة منذ أبريل. وعلى عكس ما حدث لشركات الدوت كوم الناشئة قبل 25 عامًا، تتمتع شركات التكنولوجيا اليوم بإيرادات قوية ونماذج أعمال متينة، حيث تتجاوز خدماتها نطاق الذكاء الاصطناعي لتشمل برمجيات تطبيقات الأعمال والحوسبة السحابية. وهناك حجّة قوية مفادها أن جزءًا كبيرًا من الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي يأتي من شركات كبرى مربحة تتمتع بمراكز نقدية قوية، ما يجعل هذه الاستثمارات أقل عرضة للمخاطر مقارنة بموجات الحماس السابقة في قطاع التكنولوجيا. غير أن حجم الاستثمارات المخطط لها في مراكز البيانات أثار مخاوف لدى بعض المستثمرين. كما أن هناك 10 شركات ناشئة خاسرة متخصصة في الذكاء الاصطناعي تقدر قيمتها مجتمعة بنحو تريليون دولار. وهناك ايضاً تراجع صدور البيانات الاقتصادية الأمريكية بسبب الإغلاق الحكومي الذي دخل شهره الثاني، فلم تُنشر أي بيانات وظائف رسمية منذ 5 سبتمبر، ما دفع المحللين للاعتماد على بيانات خاصة. هذه البيانات أظهرت أعلى مستوى لتسريح الموظفين منذ 2003 في أكتوبر. كما جاءت نتائج أرباح بعض الشركات التقليدية مخيبة، حيث هبط سهم مطاعم تشيبوتلي بنحو 13% في نهاية أكتوبر بعد إعلان نتائج دون توقعات السوق.
2454
| 16 نوفمبر 2025
في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به المؤمن أذى الناس، ليس كضعفٍ أو استسلام، بل كقوة روحية ولحمة أخلاقية. من منظور قرآني، الصبر على أذى الخلق هو تجلٍّ من مفهوم الصبر الأوسع (الصبر على الابتلاءات والطاعة)، لكنه هنا يختصّ بالصبر في مواجهة الناس — سواء بالكلام المؤذي أو المعاملة الجارحة. يحثّنا القرآن على هذا النوع من الصبر في آيات سامية؛ يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: 10). هذا الهجر «الجميل» يعني الانسحاب بكرامة، دون جدال أو صراع، بل بهدوء وثقة. كما يذكر القرآن صفات من هم من أهل التقوى: ﴿… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). إن كظم الغيظ والعفو عن الناس ليس تهاونًا، بل خلق كريم يدل على الاتزان النفسي ومستوى رفيع من الإيمان. وقد أبرز العلماء أن هذا الصبر يُعدُّ من أرقى الفضائل. يقول البعض إن كظم الغيظ يعكس عظمة النفس، فالشخص الذي يمسك غضبه رغم القدرة على الردّ، يظهر عزمًا راسخًا وإخلاصًا في عبادته لله. كما أن العفو والكظم معًا يؤدّيان إلى بناء السلم الاجتماعي، ويطفئان نيران الخصام، ويمنحان ساحة العلاقات الإنسانية سلامًا. من السنة النبوية، ورد عن النبي ﷺ أن من كظم غيظه وهو قادر على الانتقام، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فكم هو عظيم جزاء من يضبط نفسه لصالح رضا الله. كما تبيّن المروءة الحقيقية في قوله ﷺ: ليس الشديد في الإسلام من يملك يده، بل من يملك نفسه وقت الغضب. أهمية هذا الصبر لم تذهب سدى في حياة المسلم. في مواجهة الأذى، يكون الصبر وسيلة للارتقاء الروحي، مظهراً لثقته بتقدير الله وعدله، ومعبّراً عن تطلع حقيقي للأجر العظيم عنده. ولكي ينمّي الإنسان هذا الخلق، يُنصح بأن يربّي نفسه على ضبط الغضب، أن يعرف الثواب العظيم للكاظمين الغيظ، وأن يدعو الله ليساعده على ذلك. خلاصة القول، الصبر على أذى الخلق ليس مجرد تحمل، بل هو خلق كرامة: كظم الغيظ، والعفو، والهجر الجميل حين لا فائدة من الجدال. ومن خلال ذلك، يرتقي المؤمن في نظر ربه، ويَحرز لذاته راحة وسموًا، ويحقّق ما وصفه الله من مكارم الأخلاق.
1596
| 21 نوفمبر 2025