رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

المهندس إبراهيم بن هاشم السادة

[email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

603

المهندس إبراهيم بن هاشم السادة

حين يفكر الآخر عنّا

30 يوليو 2025 , 12:02ص

في البداية، كانت التكنولوجيا مجرد أداة تسهّل المهام، ثم أصبحت تقترح، ثم تتوقّع، ثم تكتب، ثم تفكّر عنّا، ومع كل خطوة جديدة في مسار الذكاء الاصطناعي، نتراجع خطوة من مهاراتنا الإنسانية في التحليل، في المقارنة، في التخيّل، في الصبر، وفي القدرة على التعامل مع المجهول، لم نعد نحفظ الأرقام، لأن الهاتف يتذكّرها، ولم نعد نعرف الاتجاهات، لأن الخريطة تتحدث، لم نعد ننتظر الفكرة، لأن «الروبوت» يقدّم لنا عشرات أفكار بدلاً منها، وهكذا تتآكل الذاكرة، ويضعف الحسّ، وتخبو شرارة الاكتشاف.

لقد عُهد الإنسان يكتب بيده، ويفكر بعقله، ويتأمل بعينيه، ويقرّر بقلبه، ثم دخلت الآلة فساعدته، ثم تطورت فسبقته، ثم تقدّمت فحلّت محلّه، ثم وقفت أمامه تقول: «دعني أفكّر عنك. فأنا أسرع، أدق، وأقلّ خطأً، وبدأ الإنسان يُسلّم شيئًا فشيئًا مفاتيح نفسه.

قبل أيام، سمعت قصة لطالب جامعي طُلب منه إنجاز بحث بسيط، لم تكن المشكلة في ضيق الوقت، بل في غياب المهارة، فاستعان بالذكاء الاصطناعي ليكتب له البحث، وخشية أن يكتشف أستاذه أن «الآلة» هي الكاتبة، أدخل النص في برنامج آخر، يحوّل الأسلوب إلى ما يشبه «الكتابة البشرية»، فكانت النتيجة: آلة كتبت، وآلة أخفت أثر الآلة. والطالب اكتفى بالنسخ والتسليم، الطريف والمُحزن في آن واحد هو أن هذا البحث حصل على «الترتيب الثاني» في إجمالي البحوث المقدّمة من الطلاب.

الخطر ليس في الذكاء الاصطناعي نفسه، بل في كسلنا المتزايد تجاه التفكير، في تسليمنا العميق بأن هناك من «يعرف أفضل»، ومن «يُنتج أسرع»، ومن «يُقنع أكثر». وكأننا نقول للعقل: ارتَح، فقد جاءت الآلة لتحلّ محلك، لكن السؤال الأخطر: إذا اختفى القلم من بين أيدينا، فهل ستبقى اللغة حيّة؟، وإذا لم نعد نحلل، ونقارن، ونستنبط، ونُخطئ ونتعلّم، فماذا يبقى من إنسانيتنا؟

لا أحد يدعو إلى كسر الآلة أو التراجع عن التقدم، فالذكاء الاصطناعي أصبح مسار عالمي لا يمكن وقفه، ولكن نريد أن نصاحبه دون أن نذوب فيه، نريد أن نُمسك بزمام الأداة لا أن نمشي في ظلّها، أن نستخدم الذكاء الاصطناعي ليُوسّع مداركنا لا ليُعطلها، وأن نحافظ على المهارات التي بُنيت عبر قرون من التراكم الإنساني، نريد أن نفكّر ولو ببطء، لأن أن الفكرة التي وُلدت من قلقٍ وتأمّل. ليست كالفكرة التي اقترحها علينا روبوت مطمئن وسريع.

نحن بحاجة أن نُعيد تدريب أنفسنا على بعض المهارات المنسيّة، أن نكتب، لأن القلم يدرب الوعي، وأن نحفظ، لأن العقل بلا ذاكرة يصبح شاشة عرض لا أكثر، وأن نتخيل، لأننا نملك أحلامًا لا تستوعبها الخوارزميات إحساسًا وروحًا، وبالإمكان أن يتجسد ذلك في الطفل الذي يُمسك القلم في المدرسة، وفي الطالب الذي يُطلب منه أن يبحث ويُحلل لا أن يَنسخ، وفي الكاتب الذي يرفض أن يُملي عليه أحد أفكاره، حتى وإن كان برنامجًا يفهم اللغة ويُتقن الأسلوب.

وهذا المقال نفسه، وإن كُتب بمساعدة أدوات الذكاء، فإنه لم يولد من شاشة، بل من سؤالٍ حيّ، يسكن قلب كاتب لم يسلم القلم. بل جرّب به طريقًا جديدًا، دون أن يترك قبضته.

مساحة إعلانية