رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
تؤلمني هذه الحكاية التي لا تريد فصولها أن تتوقف ويقوم بروايتها يوميا بشار الأسد وأركان حكمه. ليس اعتمادا على لسانه. كما يفعل الرواة في ليلات العرب القمرية وإنما يستخدم يده الباطشة في قسوة شديدة الإفراط تنزل على الأجساد فتمزقها والأرواح تنتهك حرمتها فتثكل أمهات وتترمل زوجات ويفقد أبناء وبنات آباءهم الذين يبدون اعتراضا على البطش ويطلبون العودة إلى ضوء القمر ولكن يبدو أنه بات يخاصم الشام فلم يعد يرغب في معانقة لياليها وقرر مغادرة أفقها الذي كان يمتلك القدرة على احتواء الجميع.
إنها حكاية قتل يومي ممنهج. لا يفتر بشار وزبانيته عن روايتها بالدم على رؤوس الأشهاد. مفتونا بنفسه وبجنده متناسيا أن ثمة من هو أقوى منه ولديه جنود لا يراها. قادر كما فعل في وقائع قريبة للغاية أن يشل حركته وينهي نظامه. ولعل الله سبحانه وتعالى يمنحه الفرصة تلو الفرصة. لكنه لا يريد أن يقتنصها. يعلن تحديه لكل هذه الفرص.
من الذي يصور له الأمر بحسبانه إرهابا ضده ومؤامرة خارجية تسعى للنيل من سوريا دولة المقاومة والممانعة؟ في حين أنها لم تعد كذلك بل إن جيشها الذي كان يمثل الاحتياطي الاستراتيجي للأمة في المواجهة المرتقبة مع الكيان الصهيوني وقبل ذلك الوسيلة الوحيدة لتحرير الجولان المحتلة منذ يونيو 1967. بات موجها لصدور النساء والصبايا والشباب والرجال الثائرين المطالبين بالحرية معتمدين المنهجية السلمية بعيدا عن العنف.
هل أصبح مغيبا بعيدا عن القرار الذي لا يمتلكه إلا المجموعة الأمنية المحيطة به؟
أنه ينفي إصداره أوامر بالقتل بينما وليد المعلم يقول إن حكومته من حقها أن تواجه الإرهابيين وفق وصفه للثوار وذلك يعني اعترافا صريحا بممارسة القتل وهو قتل للأسف بات قريبا من أساليب العدو الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني. بينما رصاصات الجيش السوري لم توجه أبدا إلى هذا العدو في الجولان منذ أكثر من 45 عاما فلماذا تكون الجيوش العربية قادرة وقوية وصلبة المراس مع شعوبها بينما يخفت صوتها مع العدو الحقيقي هي مأساة أو ملهاة بكل تأكيد.
بشار يقتل شعبه ولا أعلم كيف ينام مسكونا ضميره بالارتياح؟
إن شرعية الحاكم لا يمكن أن تتكئ على البندقية أو الدبابة أو المدرعة أو حاملة الجنود وإنما تستند على مقوم واحد فقط هو الرضا أو القبول العام به ويبدو أنه لا يوجد أحد من المحيطين ببشار يطلعه على حقائق ما يجري وأن مئات الألوف في محافظات سوريا تطالبه بالرحيل بعد أن سئمت حكمه القائم على القهر والاستبداد والدم وإن كنت استبعد ذلك فبشار من الجيل الجديد ويجيد التعامل مع وسائل التقنية الحديثة من إنترنت وغيرها وهو ما يهيئ له الاطلاع على ما تبثه لوقائع الدم المسفوك يوميا في سوريا.
ألا تتحرك فيه مشاعر إنسانية قد تجتاحه بحكم دراسته للطب والذي من المفترض أن يضفي على المرء قدرا من الرحمة ولا نطالب أن يكون ملاكا للرحمة حسب ما كان يوصف به الطبيب قديما؟
لا أظن فمن يتابع حالات القتل والاغتيال والاختطاف والاعتقال والزج في السجون السرية بالآلاف يتيقن أنه بات مجردا من أي مشاعر ولعل المرء عندما يقرأ وجهه وهو يلقي خطابا أو يخرج للقاء من تعدهم له الأجهزة الأمنية القوية القبضة في العاصمة دمشق يدرك جيدا هذه المسافة الشديدة الاتساع بينه وبين الرحمة والمشاعر والعطف والدفء الإنساني سقطت كلها مع أول رصاصة وجهها جندي أو شبيحة ضد مواطن صرخ مطالبا بالحرية بعد عقود من الصمت والصبر والمثابرة والسكوت المفروض قسرا.
ثمة حرص عربي واضح على التعامل مع الأزمة التي صنعها بشار وأركان حكمه من منطلق قومي يحول دون العامل الدولي الذي يقود بالضرورة إلى التدخل العسكري وقدم النظام الإقليمي العربي الذي تجسده الجامعة العربية أكثر من مبادرة وتصور وخطة عمل كان آخرها قبل أيام فيما يعرف بالمبادرة السياسية التي تسعى إلى تطبيق النموذج اليمني الذي يقود إلى تغيير أمن وسلمي في السلطة ووفق الآليات الديمقراطية المتعارف عليها لكن نظام سارع إلى الرفض وطلب وزير خارجيته وليد المعلم العرب بأن يذهبوا إلى نيويورك أو القمر ويبدو أنهم فضلوا الذهاب إلى نيويورك وتركوا القمر الذي يبدو أنه غادرنا إلى كون آخر وبشر مختلفين.
وأظن أن هذه المبادرة السياسية هي آخر ما تحمله جعبة النظام الإقليمي العربية بعد أن استنفذ كل المبادرات التي قبلها نظام بشار ثم التف حولها وسعى إلى تجييرها لصالح بقائه مثلما فعل مع بعثة المراقبين العرب الذين انتشروا في أكثر من عشرين مدينة سوريا لكن فيضان القتل لم يتوقف وهو ما دعا دول الخليج الست إلى سحب مراقبيها حتى لا تكون شهود زور على قتل النظام لشعبه حسب التعبير الذي استخدمه سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مداخلته الصريحة أمام وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير بالقاهرة.
ما الذي يدفع بشار إلى رفض كل ما هو عربي لإنقاذ وطن وشعب يتعرض لما يمكن وصفه بالإبادة؟
أول هذه العوامل تكمن في سوء تقدير موقف لأركان نظامه استنادا على ما يمتلكه من مقومات قوة منية وعسكرية وهي لن تبقى للأبد وقابلة للزوال أو التلاشي في أي لحظة وثانيها الموقف الروسي المتحيز له لأسباب تتعلق بحالة الاستقطاب الدولي ولكنه سرعان ما يمكن أن يتخلى عنه لو حصل على الثمن وثالثها ربما يكمن فيما يعتقد أنه تناقضات في المواقف العربية تجاه أزمة بلاده وبعضها يرتبط بعوامل مذهبية وطائفية ورابعها تحليلات يقدمها البعض ربما من قبيل أن الدول الغربية الكبرى التي تمتلك القدرة على الخيار العسكري غير راغبة في اللجوء إليه تحت زعم أن سوريا لا تمتلك فاتورة التدخل فهي دولة ليست نفطية مثل ليبيا أو رغبة في حماية الكيان الصهيوني من تداعيات أي تدخل عسكري قد تتجسد في تعريض أمنها لمخاطر إقليمية.
وذلك قد يكون صحيحا إلى حد كبير ولكن ترديد مثل هذه الطروحات بكثافة في الآونة الأخيرة قد يكون من مقام التوريط مثلما حدث مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مما دفعه إلى غزو الكويت في الأول من أغسطس من العام 1990 فدفع النظام الإقليمي العربي: حكومات وشعوبا. فاتورة باهظة الثمن من جراء هذه القابلية للتورط فيما لا تحمد عقباه.
إن بشار لا يتوقف عند حد ويزداد ولعه بلعبة القتل ضد شعبه ويرفض النصيحة معتقدا أنه مختلف ومغاير عن غيره من زعماء سقطوا من قبل يبدو لي أنه يصدق هذا الوهم العبث الزيف. إنها يا سيدي حتمية تاريخية بديهية تحققت ملايين المرات وكان آخرها قبل أشهر في تونس ومصر وليبيا مؤداها: أن من يقتل شعبه يتحول إلى عمل غير صالح بوضوح أشد عمل فاسد. لا تجدي معه محاولات تصحيح المسار أو تقديم النصح أو طرح المبادرات السياسية ومن ثم فإن الشعب السوري وحده المهيأ لتغيير المعادلة عبر ثورته السلمية غير أن ذلك مرهون بتوحيده قواه الحية بعيدا عن الاستقطاب الداخلي أو الإقليمي أو الدولي.
صحيح قد يطول الأمد لكن الحتمية التاريخية تؤكد أيضا أن الشعوب هي من تحقق الربح وغيرها من الحكام القتلة من يقذف بهم التاريخ إلى أحط مواضعه فهل يستوعب بشار والذي يزعم أنه قارئ جيد للتاريخ وكثيرا ما كان يقدم مواعظه لحكام عرب أقدم منه سنا وأكثر خبرة هذه الحقائق لعل وعسى حتى لا تسقط سوريا الوطن الجميل والشعب الصابر في براثن تدخل عسكري لن يكون بمقدور روسيا أو غيرها أن تحمي نظامه من التحلل.
السطر الأخير:
أجيبي دعوة الروح
دثريني بأثوابك الحبلى بالعشق
دعيني أتمدد بحقولك
أتصبب عرقا في جداولك
أستميحك عذرا أيا فاتنتي
لم أكتب القصيد إلا لعينيك
امنحيني البشارة
هيئيني للدوران بمناراتك
صبي زيتك الفضي
على بقاياي المنهارة
فأستعيد سيرتي الأولى
يسكنني بهاؤك والنضارة
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7902
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6783
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3501
| 12 أكتوبر 2025