رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يوشك العام 2014 على الرحيل. لم يتبق له سوى الغد فقط. سيغادرنا بعد أن سكن فينا مدة 366 يوما. ظلت المعمورة خلالها في حالة حراك متراوح بين الإيجابية والسلبية. وتحققت تحولات نوعية على مدار ه. ولكنه كان زاخرا بالتطورات الموجعة للبشرية. وربما كان عالمنا العربي أكثرها تفاعلا مع هذه التطورات. فاشتدت فيه حالات التشظي والنزعات الطائفية والمذهبية. وشهدت بعض أوطانه – وما زالت- حروبا داخلية. تكاد تقضى على الأخضر واليابس. ومع ذلك فإن ثمة نقاط ضوء وفرت الذريعة للشعور بالأمل في الزمن الآتي وامتلاك القدرة على الخروج من شرنقة الوجع. وبالنسبة لي شخصيا كان الإعلان عن المصالحة المصرية القطرية قبل أيام من رحيل هذا العام. في مقدمة هذه النقاط التي أزاحت بعضا من العتمة التي سادت النظام الإقليمي العربي خلال الأعوام الأخيرة في أعقاب ثورات الربيع العربي التي سنحتفل في مطلع العام الجديد بمرور أربع سنوات عليها.
لقد عشت في قطر ما يقرب من عشرين عاما إلا بضعة أشهر. تفاعلت مع بشرها وأحداثها وتطوراتها . خضت خلالها مع تجربة مهنية أعتبرها شديدة الإيجابية في مسيرتي المهنية. وبنيت شبكة من العلاقات الإنسانية والمهنية أيضا . أعتز بها أيما اعتزاز. على أساس من النزاهة والاحترام والتقدير وبعيدا عن أي أجندات أو معطيات ذات نفع شخصي. كما أن أفراد أسرتي يعتزون بهذه السنوات التي أمضوها بالدوحة. وعندما تعرضت العلاقات مع القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو لقدر من سوء الفهم والتأزم . أصابنا جميعا في البيت قدر من الألم خاصة مع الدور السلبي التي لعبته بعض المنابر الإعلامية لدى البلدين. على نحو أسهم في تأجيج المشاعر وتوسيع الهوة. ومع الإعلان عن المصالحة بعد اللقاءات التي جرت بين مسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين تلبية لوساطة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز . وتجاوب كل من القيادتين المصرية والقطرية معها بأريحية وحميمية. واتكاء على أرضية صلبة من تاريخية العلاقات بين بلديهما وشعبيهما. والإدراك لطبيعة المهددات والمخاطر التي تحدق بالأمة والمنطقة. اجتاحنا الفرح العارم وسكنتنا البهجة العميقة.
ومن الأهمية - حتى تتكرس المصالحة - بمكان ألا يسمح البلدان الشقيقان مرة أخرى بعودة الأسباب التي أدت إلى القطيعة واحتقان العلاقات الثنائية على نحو يعلي من سقف ما هو مشترك وهو أكثر بكثير مما يفرق ويعيد ترميم ما علاه الصدأ من جوانب التعاون والتي شهدت في السنوات الأخيرة نموا واضحا واتساعا أفقيا ورأسيا . والأهم من كل ذلك ألا يسمح للمنابر الإعلامية بتجاوز الحدود ومنظومة القيم الأخلاقية والمهنية وفق المحددات الوطنية والقومية التي تحكم مواقف الدولتين. ولست في موضع عرض رؤية تفصيلية في هذا المنحى. فهي - من خلال متابعتي للملف -تخضع للدراسة وثمة توافق على كل ما من شأنه أن يحقق أمن واستقرار ومصالح كل طرف اتساقا مع جوهر النظام الإقليمي العربي. والذي عبر عنه الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية في التصريحات التي أدلى بها قبل أيام . والتي أكد فيها أهمية المصالحة القطرية - المصرية، وتنقية الأجواء بين البلدين الشقيقين. ورأى أن هذه المصالحة تصب في صالح العمل العربي المشترك . والذي أنشئت لأجله الجامعة العربية وتشكل ميثاقها حيث تنص المادة الثانية من الميثاق على أن الجامعة تعمل من أجل تعزيز الروابط والصلات بين الدول العربية.
وأحسب أن إنجاز المصالحة المصرية القطرية -أو وفق التعبير الرسمي المستخدم في البيانات الأخيرة التي صدرت من الدوحة والقاهرة فضلا عن الرياض توطيد العلاقات بين الجانبين - سيشكل رافعة قوية باتجاه إعادة صياغة محددات النظام الإقليمي العربي. بعد ما تعرض له خلال الأعوام الأخيرة من خلخلة في بنيته السياسية والاقتصادية والاجتماعية إضافة إلى العسكرية والأمنية. وثمة شواهد عدة في هذا الصدد. أهمها احتواء مظاهر الاحتقان في العلاقات الخليجية العراقية والتي يقوم حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي بتصحيح مساراتها عبر سلسلة من الزيارات لعواصم مجلس التعاون الخليجي . بعد أن أفسدتها ممارسات سلفه نور المالكي. الذي كان يراهن على عاصمتين فقط. هما واشنطن وطهران. فانتهى حكمه بسقوط ما يقترب من ثلث مساحة العراقي في قبضة تنظيم داعش.
والمؤكد أن الأزمات الإقليمية الملتهبة في كل من سوريا وليبيا واليمن ستشهد في ضوء هذا التطور الإيجابي. حراكا باتجاه التعامل معها بقدر من الجدية. على نحو يحافظ على مؤسسات الدولة الوطنية وشرعيتها. والتي كادت تتلاشى في ضوء ما تتعرض له هذه الأقطار العربية الثلاث من حروب وصراعات وانقسامات حادة. ووفق قراءاتي فإن ثمة ما يتم بلورته حاليا في صمت بين أكثر من عاصمة عربية. في مقدمتها القاهرة والدوحة والرياض لحسم الأمور سياسيا من خلال التحرك النشط لجمع الفرقاء المتناحرين في هذه الأقطار إلى مائدة حوار وطني شامل. بمنأى عن منهجية الإقصاء والتهميش لأي طرف. ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم لإنقاذ ما تبقى من هذه الأوطان. التي أهدرت إمكاناتها ومواردها البشرية والطبيعية في صراعات لا يمكن أن تحسم عبر الخيار العسكري والأمني. وهو ما يستوجب أن تدركه القوى والأطراف التي ما زالت تؤمن بهذا الخيار. لأنه لا يفضي إلا لمزيد القتل والجروح التي لا تلتئم بسهولة في وطننا العربي. ومن ثم يعقبها الرغبة في الثأر والانتقام.
ولا يغيب عن ذلك ملف الوحدة الوطنية الفلسطينية. والذي يبدو لي أنه سيدخل منطقة الجدية في ضوء التطورات الأخيرة بين القاهرة والدوحة. وكلاهما لعب دورا إيجابيا في سبيل وضع لبناته الأساسية من خلال الاتفاقات التي تم التوقيع عليها بين طرفي المعادلة الفلسطينية الرئيسيين وهما حركة فتح وحركة حماس. وستنتهي حالة المراوغة التي كان يكابدها هذا الملف. الذي كان كلما يشهد تقدما سرعان ما يتعرض لانتكاسة. تعيد الأمور إلى المربع الأول. رغم كل النوايا الطيبة التي يعلن عنها قادة الحركتين.
إن الأمل في القيادتين المصرية والقطرية كبير للغاية. لتوفير كل متطلبات نجاح ما تحقق من خطوات إيجابية على صعيد توطيد العلاقات بين البلدين الشقيقين . من خلال التحييد الكامل لبعض الأصوات التي أظهرت مناهضتها لهذه التطورات . لأنها أدركت خطرها على مصالحها التي تتحقق من خلافات الجانبين خاصة على الصعيد الإقليمي فهي – أي هذه الأصوات – تفتقر إلى الحس الوطني والقومي الذي يجعلها حريصة على التعاضد والتماسك بين مفردات النظام الإقليمي العربي.
ويمكن الإشارة إلى أن المصالحة بين الدوحة والقاهرة . كانت واحدة من أهم أسباب انتصار خيار التماسك لمنظومة مجلس التعاون الخليجي والتي نجحت وساطة أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح وجهود العاهل السعودي الملك عبد الله. وتجاوب الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. في المحافظة عليه . ودفعه إلى المزيد من الخطوات الرامية إلى تعزيز النجاحات والتحولات المهمة. التي حققتها هذه المنظومة على مدى أكثر من ثلاثة وثلاثين عاما. وفي تقديري إن مصر ليس من مصلحتها أن تقيم شراكة خليجية دون مجلس تعاون قوى ومتماسك وصلب بين وحداته الست . وفي الوقت ذاته لم يكن من مصلحة قطر أن تنأى عن الدولة العربية المحورية. وهو ما أكده البيان الذي أصدره الديوان الأميري عقب الزيارة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني مساعد وزير الخارجية والمبعوث الخاص لسمو الشيخ تميم إلى القاهرة. ولقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي برفقة رئيس الديوان الملكي السعودي خالد بن عبد العزيز بن عبدالمحسن التويجري. عندما شدد على وقوف قطر التام إلى جانب مصر، كما كانت دائماً إدراكا منها أن أمن مصر من أمن قطر، التي تربطها بها أعمق الأواصر وأمتن الروابط الأخوية، وأن قوة مصر قوة للعرب كافة كما أكد أن دولة قطر التي تحرص على دور قيادي لمصر في العالمين العربي والإسلامي، تؤكد حرصها أيضاً على علاقات وثيقة معها والعمل على تنميتها وتطويرها لما فيه خير البلدين وشعبيهما الشقيقين. وهو ما كان له مردود إيجابي على الصعيدين الرسمي والشعبي وأغلبية النخب والقوى السياسية. والتي عبرت في بيانات رسمية عن تأييدها للخطوات الإيجابية بين البلدين داعية إلى المزيد منها حتى يكتمل قوس البهجة وتعود أزمنة المودة بين القاهرة والدوحة.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4602
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3402
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
1551
| 05 أكتوبر 2025