رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مثلما تشكل الطائرات اليوم عصب وسائل المواصلات في العالم، شكلت السفن البحرية "المراكب" والسفن البرية "الجمال" أهم وسائل التنقل في مختلف المدن العربية ومنها الخليجية التي تعاظم دورها في القرن التاسع عشر بالتحديد حيث شكلت منطقة تجارية إستراتيجية ربطت بين الشرق والغرب، ومثلت للآخرين مطامع استعمارية، من سفن الاستعمار البرتغالي (1507)، ومرورا بالسفن التجارية التابعة لشركة الهند الشرقية الهولندية والبريطانية (1820)، إلى السفن الحربية في الحربين العالميتين الأولى والثانية (1914 — 1939)، ووصولا إلى السفن الأمريكية التجارية والحربية إلى اليوم (2050)!
(1)
تحولت تجارة اللؤلؤ للسكان في الخليج في تلك الفترة مصدر الرزق الأكبر والاهم، وانتشرت مناطق الغوص (المغاصات) على طول الساحل العربي من جزيرة بنات سلامة في رأس مسندم عند مضيق هرمز مروراً بمدينة دبي في ساحل عمان، ثم سواحل قطر والبحرين لينتهي عند سواحل الكويت، إلى أن استطاع الياباني في آخر بلاد الدنيا "ميكيموتو" (Mikimoto K?kichi)، إنجاح تقنية زراعة اللؤلؤ، والدخول في فترة التردي والكساد والفقر المدقع على طول المنطقة الساحلية وأهلها، إلى اكتشاف الشركات الغربية حقول النفط العربية ورسم الحدود وتحويل المدن الخليجية إلى دول مستقلة. كانت وسائل الانتقال مفتوحة على الحدود رغم بعض العراقيل، فالإنسان يملك حرية الانتقال من مكان إلى آخر دون صعوبات وعقد وفيزا وجوازات وتصنيفات دينية، مسلم مسيحي، أو مذهبية، سنية شيعية، درزية، أو طائفية أيديولوجية بعثية اشتراكية يسارية قومية، وعندما تقع الأزمات وتبدأ المشاكل تراه يحمل حقيبته ويرحل إلى ارض الله الواسعة من مدينة خليجية إلى أخرى عربية أو أجنبية. لقد بدأت المصاعب تظهر بعد تحويل القرى والمدن إلى دول وفرض شروط وقيود وحدود على التنقل والإقامة والعيش على الأرض والانتساب إلى الوطن وتعريف من هو المواطن وتوزيع صكوك المواطنة، ونتيجة لذلك حرمت فئات عديدة من أبناء الأرض الذين ولدوا وترعرعوا وتربوا وتنقلوا فيها من الجنسية الوطنية وحقوق المواطنة وحقوق الإنسان أيضا من قبل العيش الكريم والزواج والطلاق وحرية التنقل والتعليم والعلاج وحتى استلام شهادة ميلاد من المستشفى ليتم الاعتراف بالمولود أو شهادة وفاة من المقابر حتى يتم دفنه! وأصبحت حتى التسمية الغريبة التي تطلق عليهم ليس لها مكان من الصرف والإعراب (البدون)!! وتجمعت كل مآسي هؤلاء في ملف واحد يتم تأجيله سنة بعد الأخرى، وهو يشبه وضع اسماك في حوض زينة يتم التفرج عليها منذ عصر انتهاء الاستعمار إلى اليوم بلا حل؟! إنها عقدة البدون معنا وعقدتنا معهم هي مرتبطة بمدى إدراكنا وفهمنا وإيماننا بقيمة الإنسان التي لم يستوعبها ملك ملوك أفريقيا وصرخ قائلا (من انتم)!!
(2)
بينما تحمل المراكب على الضفاف الخليجية الفرد وعائلاته من مسقط إلى ابوظبي، ومن الدوحة إلى المنامة والإحساء والدمام، ومن الكويت إلى البصرة وبر فارس الساحل الخليجي الشرقي في الماضي، كانت سفينة تنقل مهاجرا اسمه (فولماوث كيرني) من قرية مونيغال (Moneygall) الصغيرة الواقعة في إيرلندا إلى العالم الجديد، وهو ابن صانع للأحذية، وقد استقل إحدى السفن المتجهة إلى أمريكا بعد تعرض بلاده للمجاعة الشديدة في ذلك الوقت، لم يكن لهذا الشخص النكرة أي قيمة لمدة مائة وخمسين سنة إلى أن جاء من أحفاده وهو الناصع البياض، رجل ذو بشرة سوداء، ومن أصول افريقية كينية، وديانة مسلمة، واسم عربي، تخرج من أفضل جامعة في العالم وأصبح رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى (2016)! لقد فتحت المدينة الصغيرة قلبها لرئيس الأمريكي والتي قال فيها "أنا باراك أوباما من مونيغال أوباماز. وقد أتيت إلى وطني لأجد الرابط الذي فقدناه في مرحلة ما من حياتنا". وقالت عنه العجوز "لقد جذبني إليه بقوة وطبع قبلة حنونة على خدي. لن أغسل خدي الذي احتضن قبلة أوباما ما حييت". كثيرون من أمثال هذا المهاجر الذي رحل من مدينته الأم إلى أخرى كما فعل أجدادنا في الجزيرة العربية وخارجها، إلا أن الثمرة عندنا كانت مغايرة حيث لا يتم الاعتراف بالعديد من أبناء المهاجرين وأحفادهم الذين اختلطت أرواحهم ودماؤهم بالوطن وترابه، وظلوا مهشمين، مهملين، مسلوبين أدنى الحقوق الأساسية التي نتفق عليها جميعا دون اختلاف في الشرق أو الغرب ووقعنا عليها والتزمنا بها باتفاقيات دولية وشرائع دينية وكرامة إنسانية!!
(3)
آخر الأصوات المخنوقة وليست الأخيرة انطلق من الكويت بعد انتفاضة الربيع العربي تمثلت في مواجهة مظاهرة سلمية صغيرة خرجت للمطالبة بحقوق لفئة البدون المحرومة التي تشكل ما نحو (106) آلاف شخص في الكويت من نسبة المواطنين (33%)، وفي الإمارات عشرون ألف شخص من نسبة المواطنين (23%)، في قطر 1200 شخص من نسبة المواطنين (16%)، وفي السعودية سبعون ألف شخص من نسبة المواطنين (73%)، وعددهم الإجمالي في الدول الخليجية ما يقارب (184) ألفا ومائتي شخص طبقا لإحصائية مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الأخيرة. تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش الاخير (Human Rights Watch) قبل عدة أسابيع، أشارا الى أن دول الخليج لم تحرز تقدماً رغم تعهداتها منذ عقود بحل قضية البدون الذين يعيشون في الدولة الخليجية دون الحصول على جنسية أو هوية. وذكر التقرير الذي يستند إلى مقابلات مع أشخاص من البدون ومع محامين وناشطين، أن عددا كبيرا من البدون ما يزالون "في موقع ضعف، من دون حماية، ويعيشون في الفقر" في البلاد الغنية بالنفط ويعتبرون "سكانا غير شرعيين".
(4)
هي مفارقة قدرية بالتأكيد فقد تكون محظوظا إذا ولدت في طائرة تحلق في السماء، أو سفينة تبحر في خضم المحيط متجهة إلى العالم الجديد وحتى قبل أن تستنشق الهواء وتلامس رمال الأرض، سيتم الاعتراف بك كمواطن يتمتع بجميع الامتيازات والحقوق بغض النظر عن أصلك وفصلك ودينك ومذهبك وطائفتك وقد تصبح رئيس الولايات المتحدة إذا تم اختيارك من قبل الناخبين واثبت جدارتك وأهليتك وقدرتك كما فعل ابن المهاجر (المزدوج) الذي قدم والده (البيسري) من أفريقيا وجد أمه (الطرثوث) من إيرلندا، بينما قد تشترك مع أبناء الوطن في الدين والمعتقد والمصير والدم والعائلة والقبيلة والطائفة والمذهب والجغرافيا والتاريخ الماضي والمصير الحاضر وبناء المستقبل وتكون احد الناجحين والمتفوقين والقياديين ومع ذلك لا يتم الاعتراف بك وبحقوقك كانسان؟!
فاصلة أخيرة:
مسافرون خارج الزمان والمكان
مسافرون ضيعوا نقودهم.. وضيعوا متاعهم
ضيعوا أبناءهم.. وضيعوا أسماءهم.. وضيعوا انتماءهم..
وضيعوا الإحساس بالأمان
فلا بنو هاشم يعرفوننا.. ولا بنو قحطان
ولا بنو ربيعة.. ولا بنو شيبان
ولا بنو "لينين" يعرفوننا.. ولا بنو "ريجان"
يا وطنى.. كل العصافير لها منازل
إلا العصافير التي تحترف الحرية
فهى تموت خارج الأوطان
نزار قباني
Aljaberzoon.blogspot.com
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2292
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1200
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
786
| 10 ديسمبر 2025