رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لقد كانت مغامرة صدام حسين بغزو الكويت كارثة بكل ما تحمل الكلمة من خلال التبعات التي مازالت الأمة تدفع ثمن هذه المواقف الفردية القائمة على الأهواء، وكانت هذه لها تبعات في تمزيق الأمة والإضرار بالاقتصاد وتمكين جهات كثيرة من النفوذ في الأمة وتدويل قضايا كالعراق نفسه، مما أدى إلى غزو العراق نفسه على يد المحافظين الجدد وفق خطة برنارد لويس وتغيير خريطة المنطقة، وللأسف فإن ذلك مكّن قوة إقليمية كإيران أن يصبح لها نفوذ في بلد كان يقاوم أطماعها في المنطقة وتحالف الغرب مع إيران وتم غزو العراق وفق البرنامج الذي ذكرناه في التقسيم الطائفي كنموذج إرادة برنارد لويس للأمة العربية لصالح قوة واستمرار إسرائيل وتفوقها، ومن هنا بدأ حل الجيش العراقي ليتم حصول دولة تقوم على أساس المحاصصة الطائفية، وأن المعارضة العراقية ضد صدام تم اختيار العناصر التي تنفذ هذا البرنامج واستبعاد العناصر التي ستؤدي للوحدة الوطنية لأن العراق كان شعباً لا يعرف العرقية والطائفية، ولكن هذه الأحزاب التي عاشت في إيران وغيره وتم تأهيلها لهذه المهمة عادت لتؤدي هذه المهمة التي يريدها أصحاب المصالح في المنطقة وبدأ العراق يدخل في متاهات دمرت كيان هذه الدولة وتحول العراق إلى كيانات وفئات ذات مبادئ وأفكار تقوم على مسألتين: التطرف هو المنبع والمنهج، والفكرتان هما الطائفية والعرقية وبدأت هذه الفئات تتحدث عن اقتسام النفوذ على هذه الأسس وبدأ العراق يدخل في نفق خطير من حروب ودمار وإرهاب وتصفيات عرقية وطائفية، وضاع العراق التاريخ عراق المنصور والرشيد والبحتري وأبو حنيفة والغزالي وغيرهم إلى عبرات الموت والفقر والدمار وأصيب العراق في عمق كيانه وذاته وأصبح ملايين الأرامل والأطفال الأيتام وأطفال الشوارع وبيع الأطفال وانعدام الكهرباء والمياه الملوثة والمهجرين، ونهب البترول للمغامرات وبيعه في السوق السوداء لحساب عصابات وأفراد، حتى دجلة والفرات الذي تغنى به الشعراء أصبح ملوثاً بالجثث التي تلقى فيه من قتلى الحرب وجعلت الشعب العراقي يحرم حتى من السمك، وأصبح العراق الذي كان مكان الندوات والشعر والأدب والمكتبات إلى عراق الموت والفقر والدمار على يد هؤلاء، وأصبح العراق يدار من قبل الحرس الثوري الإيراني، وقاسم سليماني على وجه الخصوص، ولا يمكن تعيين أحد إلا بموافقة أجهزة الأمن الإيراني، وتحول العراق إلى أداة تنفيذ أعمال في الدول العربية كتدريب الحوثيين، ومجمع لاستقبال الإرهابيين الذين كان النظام السوري يهيئ لهم الدخول وفق خطة لتخصيب الإرهاب في العالم العربي وصنع ضحايا من أبناء الدول العربية اصطادهم أشخاص لا يخافون الله ولا ضمير لهم إلا أهواء وأحقاد وأطماع، وحاولت دول كالمملكة العربية السعودية مساعدة العراقيين بلملمة الفرقة وتضميد الجروح وعودة هذا البلد إلى الصف العربي وفتحت صدرها لكل فئات الشعب العراقي بدون تمييز واستضافت مؤتمراً للمصالحة بمكة واستقبلت قيادات العراق، إلا أن هناك جهات معروفة تدخلت لإحباط وإجهاض هذه المساعي، ولو أن القادة العراقيين استفادوا من هذه العروض والحكمة لتغير وجه العراق، إلا أن المصالح الحزبية والأنانية والتعصب وتقديم المصالح الذاتية على مصالح الأمة وعدم الرحمة بالضعفاء من المواطنين المحرومين من الأمن، والأطفال المحرومين من آبائهم ومن التطعيم والمعرضين للتشوه من الأسلحة الكيماوية. هذا ليس من عندنا وإنما تقارير اليونيسيف والمفوضية السامية للاجئين وبرامج وتقارير الأمم المتحدة التي تتضمن أرقاماً مخيفة مفزعة لا يتناولها الإعلام.
وفي الفترة الأخيرة بدأت عمليات التهجير في البصرة وغيرها وجعلها ذات نسيج واحد وفصيل واحد ليتم بعد ذلك ضمها لإيران، بعد استفتاء وفق المخطط التوسعي لملالي إيران، وهذا ما أفصح عنه نائب الرئيس الإيراني بالوحدة مع العراق وما صرح به مرشد الثورة وأحمدي نجاد وغيرهم وحددوا هدفهم بتهجير غير الموالين لإيران عقديا وفكريا وتحقيق الهدف بالهلال الذي أرادوه، ولكن سوريا رئة إيران في المنطقة قد أضرت بمصالح إيران وكشفت أهدافها للشارع العربي وأخرست أبواق إيران الصحفيين والمفكرين والمحسوبين على الإسلام الذين ظلوا أبواقاً لها في الصحافة ويترددون عليها لطلب دراهم معدودات وليحصلوا على الفنادق والهدايا، فوجئ هؤلاء بأن حزب الله وإيران تدخلوا لقمع الشعب السوري ونزلوا بكل قواهم ودفعوا المليارات لهذا الغرض، وفجأة تحول العراق الذي كان يتهم سوريا بتصدير الإرهاب إلى حليف، ويجب الدفاع عنه وتمويله بالخبراء والأموال ودعمه بكل الوسائل وتبين للسذج أن ذلك كان سابقاً ذراً للرماد في العيون لصرف أنظار الآخرين عن مخطط لفئات باطنية تظهر غير ما تبطن وتعمل بأسلوب ولغة مزدوجة دقيقة السرية قائمة على الخداع.
وقد صدم هؤلاء بالمواقف العربية الشجاعة وفوجئوا بالمواقف الخليجية والعربية مع الشعب السوري، فخرج هؤلاء عن أطوارهم وبدأ المالكي ومن معه يشتم ويسب الدول العربية وتركيا بأسلوب خرج عن اللياقة والعرف الدبلوماسي وتعاملات الدول، وأصبح يهدد يتوعد ويتصرف بطريقة استفزازية، ولكنه فوجئ بأن الناس لم يردوا عليه ولم يولوه اهتماماً كما قال رجب طيب أردوغان إن الرد على هذا الرجل سيحقق له ما أراد فكان سفره لطهران لينفس عن كمده وفشله ليقدم تهديداً عن طريق القادة الإيرانيين بالوحدة، وأن العراق بعد خروج أمريكا وانسحابها قوي بإيران وأن هناك فكرة وحدة عراقية-إيرانية وأن بغداد ستكون الجمهورية الإسلامية القادمة بعد إيران، وكذلك الحديث عن التقسيم ثم بدأت في نفس التوقيت تصريحات بيع النفط لدول كإسرائيل وتهريب النفط لإيران التي تنفذ مغامراتها في اليمن والصومال وإفريقيا ولبنان وغيرها بنفط العراق، ولو تحدث أحد عن ذلك سابقاً لاتهمه الآخرون بالمبالغة والتجني، ولكن الله أراد أن يفضحهم بألسنة عراقية من داخل أجهزة الحكم. إن القضية لم تعد احتواء المشكلة ومد يد أو فتح علاقات رغم مبادرات عربية والموافقة على عقد القمة ببغداد لعل ذلك يعيد هؤلاء لجادة الصواب، وإنما القضية أن هؤلاء ينفذون أجندة، وقد قرروا أن يسجنوا أنفسهم في دائرة ضيقة جداً وهي الطائفية والعرقية ولم يعرفوا ما يجري لهم.
إن العالم تغير وتجاوز هذه المسألة والمرحلة إلى مرحلة التوحد في كيانات، ولو أخذوا بالمبادرة فإن ذلك كان سيساعد البلاد للخروج من النفق المظلم، وسيعيد العراق لدوره لأن العراق لا يمكن أن تحل أموره بتهميش طائفة وإغفال دورها وإخراجها من الدور السياسي وصناعة القرار، فهذا لا يمكن وحتى الأخير تم إبعاد حتى العناصر المعتدلة تمهيداً للوصول إلى التقسيم، وإذا لا سمح الله تحقق ذلك فإن إيران لن تعطي هؤلاء أي دور بل سيندمون ويبكون دماً لأنهم حينها سيكونون مجرد موظفين عند الحرس الثوري وليسوا مستقلين، فمتى يستيقظ العقلاء في العراق ويدعون لمؤتمر وفاق ويمدون يدهم بصدق للأشقاء الذين ليس لهم أطماع وسيجدون الأبواب مفتوحة من اخوتهم الذين يريدون خروج العراق من النفق المظلم والتئام جرحه.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
في زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا وتتصارع فيه المفاهيم، باتت القيم المجتمعية في كثيرٍ من المجتمعات العربية أقرب إلى «غرفة الإنعاش» منها إلى الحياة الطبيعية. القيم التي كانت نبض الأسرة، وعماد التعليم، وسقف الخطاب الإعلامي، أصبحت اليوم غائبة أو في أحسن الأحوال موجودة بلا ممارسة. والسؤال الذي يفرض نفسه: من يُعلن حالة الطوارئ لإنقاذ القيم قبل أن تستفحل الأزمات؟ أولاً: التشخيص: القيم تختنق بين ضجيج المظاهر وسرعة التحول: لم يعد ضعف القيم مجرد ظاهرة تربوية؛ بل أزمة مجتمعية شاملة فنحن أمام جيلٍ محاط بالإعلانات والمحتوى السريع، لكنه يفتقد النماذج التي تجسّد القيم في السلوك الواقعي. ثانياً: الأدوار المتداخلة: من المسؤول؟ إنها مسؤولية تكاملية: - وزارة التربية والتعليم: إعادة بناء المناهج والأنشطة اللاصفية على قيم العمل والانتماء والمسؤولية، وربط المعرفة بالسلوك. - وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية: تجديد الخطاب الديني بلغة العصر وتحويل المساجد إلى منصات توعية مجتمعية. - وزارة الثقافة: تحويل الفنون والمهرجانات إلى رسائل تُنعش الوعي وتُعيد تعريف الجمال بالقيمة لا بالمظهر. - وزارة الإعلام: ضبط المحتوى المرئي والرقمي بما يرسّخ الوعي الجمعي ويقدّم نماذج حقيقية. - وزارة التنمية الاجتماعية: تمكين المجتمع المدني، ودعم المبادرات التطوعية، وترسيخ احترام التنوع الثقافي باعتباره قيمة لا تهديدًا. ثالثاً: الحلول: نحو حاضنات وطنية للقيم: إن مواجهة التراجع القيمي لا تكون بالشعارات، بل بإنشاء حاضنات للقيم الوطنية تعمل مثل حاضنات الأعمال، لكنها تستثمر في الإنسان لا في المال. هذه الحاضنات تجمع التربويين والإعلاميين والمثقفين وخبراء التنمية لتصميم برامج عملية في المدارس والجامعات ومراكز الشباب تُترجم القيم إلى ممارسات يومية، وتنتج مواد تعليمية وإعلامية قابلة للتكرار والقياس. كما يمكن إطلاق مؤشر وطني للقيم يُقاس عبر استطلاعات وسلوكيات مجتمعية، لتصبح القيم جزءًا من تقييم الأداء الوطني مثل الاقتصاد والتعليم. رابعا: تكامل الوزارات:غرفة عمليات مشتركة للقيم: لا بد من إطار حوكمة ؛ • إنشاء مجلس وطني للقيم يُمثّل الوزارات والجهات الأهلية، يضع سياسة موحّدة وخطة سنوية ملزِمة. مؤشرات أداء مشتركة • تُدرج في اتفاقيات الأداء لكل وزارة • منصة بيانات موحّدة لتبادل المحتوى والنتائج تُعلن للناس لتعزيز الشفافية. • حملات وطنية متزامنة تُبث في المدارس والمساجد والمنصات الرقمية والفنون، بشعار واحد ورسائل متناسقة. • عقود شراكة مع القطاع الخاص لرعاية حاضنات القيم وبرامج القدوة، وربط الحوافز الضريبية أو التفضيلية بحجم الإسهام القيمي. الختام..... من يُعلن حالة الطوارئ؟ إنقاذ القيم لا يحتاج خطابًا جديدًا بقدر ما يحتاج إرادة جماعية وإدارة محترفة. المطلوب اليوم حاضنات قيم، ومجلس تنسيقي، ومؤشرات قياس، وتمويل مستدام. عندها فقط سننقل القيم من شعارات تُرفع إلى سلوك يُمارس، ومن دروس تُتلى إلى واقع يُعاش؛ فيحيا المجتمع، وتموت الأزمات قبل أن تولد.
6315
| 24 أكتوبر 2025
ليس الفراغ في الأماكن، بل في الأشخاص الذين لم يتقنوا الجلوس في أماكنهم. كم من مقعدٍ امتلأ جسدًا، وظلّ فارغًا فكرًا، وإحساسًا، وموقفًا. الكرسي لا يمنح الهيبة، بل من يجلس عليه هو من يمنح المكان معناه. المدرب… حين يغيب التأثير: المدرب الذي لا يملأ مقعده، هو من يكرّر المعلومات دون أن يُحدث تحولًا في العقول. يشرح بجمود، ويتحدث بثقة زائفة، ثم يغادر دون أن يترك بصمة. الحل أن يفهم أن التدريب رسالة لا مهنة، وأن حضوره يقاس بتغيير الفكر والسلوك بعده. وعندما يغيب هذا الإدراك، يتحول التدريب إلى ترفٍ ممل، ويفقد المجتمع طاقاته الواعدة التي تحتاج إلى من يشعل فيها شرارة الوعي. المدير… حين يغيب القرار: المدير الذي لا يملأ كرسيه، يهرب من المسؤولية بحجة المشورة، ويُغرق فريقه في اجتماعات لا تنتهي. الحل: أن يدرك أن القرار جزء من القيادة، وأن التردد يقتل الكفاءة. وعندما يغيب المدير الفاعل، تُصاب المؤسسة بالجمود، وتتحول بيئة العمل إلى طابور انتظار طويل بلا توجيه. القائد… حين يغيب الإلهام: القائد الذي لا يملك رؤية، لا يملك أتباعًا بل موظفين. الحل: أن يزرع في فريقه الإيمان لا الخوف، وأن يرى في كل فرد طاقة لا أداة. غياب القائد الملهم يعني غياب الاتجاه، فتضيع الجهود، ويضعف الولاء المؤسسي، ويختفي الشغف الذي يصنع التميز. المعلم… حين يغيب الوعي برسالته: المعلم الذي يجلس على كرسيه ليؤدي واجبًا، لا ليصنع إنسانًا، يفرغ التعليم من رسالته. الحل: أن يدرك أنه يربّي أجيالًا لا يلقّن دروسًا. وحين يغيب وعيه، يتخرّج طلاب يعرفون الحروف ويجهلون المعنى، فيُصاب المجتمع بسطحية الفكر وضعف الانتماء. الإعلامي… حين يغيب الضمير: الإعلامي الذي لا يملأ كرسيه بالمصداقية، يصبح أداة تضليل لا منبر وعي. الحل: أن يضع الحقيقة فوق المصلحة، وأن يدرك أن الكلمة مسؤولية. وعندما يغيب ضميره، يضيع وعي الجمهور، ويتحول الإعلام إلى سوقٍ للضجيج بدل أن يكون منارة للحق. الطبيب… حين يغيب الإحساس بالإنسان: الطبيب الذي يرى في المريض رقمًا لا روحًا، ملأ كرسيه علمًا وفرّغه إنسانية. الحل: أن يتذكر أن الطب ليس مهنة إنقاذ فقط، بل مهنة رحمة. وحين يغيب هذا البعد الإنساني، يفقد المريض الثقة، ويصبح الألم مضاعفًا، جسديًا ونفسيًا معًا. الحاكم أو القاضي… حين يغيب العدل: الحاكم أو القاضي الذي يغفل ضميره، يملأ الكرسي رهبة لا هيبة. الحل: أن يُحيي في قراراته ميزان العدالة قبل أي شيء. فحين يغيب العدل، ينهار الولاء الوطني، ويُصاب المجتمع بتآكل الثقة في مؤسساته. الزوج والزوجة… حين يغيب الوعي بالعلاقة: العلاقة التي تخلو من الإدراك والمسؤولية، هي كرسيان متقابلان لا روح بينهما. الحل: أن يفهما أن الزواج ليس عقداً اجتماعياً فحسب، بل رسالة إنسانية تبني مجتمعاً متماسكاً. وحين يغيب الوعي، يتفكك البيت، وينتج جيل لا يعرف معنى التوازن ولا الاحترام. خاتمة الكرسي ليس شرفًا، بل تكليف. وليس مكانًا يُحتل، بل مساحة تُملأ بالحكمة والإخلاص. فالمجتمعات لا تنهض بالكراسي الممتلئة بالأجساد، بل بالعقول والقلوب التي تعرف وزنها حين تجلس… وتعرف متى تنهض.
5079
| 20 أكتوبر 2025
لم تكنِ المأساةُ في غزّةَ بعددِ القتلى، بل في ترتيبِ الأولويات؛ لأن المفارقةَ تجرحُ الكرامةَ وتؤلمُ الروحَ أكثرَ من الموت. ففي الوقتِ الذي كانتْ فيهِ الأمهاتُ يبحثنَ بينَ الركامِ عن فلذاتِ أكبادِهِنَّ أو ما تبقّى منهُم، كانتْ إسرائيلُ تُحصي جثثَها وتُفاوِضُ العالمَ لتُعيدَها قبلَ أن تسمحَ بعبورِ شاحنةِ دواءٍ أو كيسِ طحينٍ. وكأنَّ جُثثَ جنودِها تَستحقُّ الضوء، بينما أَجسادُ الفلسطينيينَ تُدفنُ في العتمةِ بلا اسمٍ ولا وداعٍ ولا حتى قُبلةٍ أَخيرةٍ. فكانتِ المفاوضاتُ تُدارُ على طاولةٍ باردةٍ، فيها جُثثٌ وجوعٌ وصُراخٌ ودُموعٌ، موتٌ هنا وانتظارٌ هناك. لم يكنِ الحديثُ عن هدنةٍ أو دواءٍ، بل عن أشلاءٍ يُريدونَها أولًا، قبلَ أن تَعبُرَ شُحنةُ حياةٍ. أيُّ منطقٍ هذا الذي يجعلُ الجُثّةَ أَكثرَ استحقاقًا من الجائعِ، والنّعشَ أسبقَ من الرّغيف؟ أيُّ منطقٍ ذاك الذي يُقلِبُ موازينَ الرحمةِ حتى يُصبحَ الموتُ امتيازًا والحياةُ جريمةً؟ لقد غدتِ المساعداتُ تُوزَّعُ وفق جدولٍ زمنيٍّ للموتى، لا لاحتياجاتِ الأحياء، صارَ من يُدفنُ أَسرعَ ممن يُنقذُ، وصارتِ الشواهدُ تُرفَعُ قبلَ الأرغفةِ. في غزّةَ لم يَعُدِ الناسُ يَسألونَ متى تَصلُ المساعداتُ، بل متى تُرفَعُ القيودُ عن الهواء. فحتى التنفّسُ صارَ ترفًا يَحتاجُ تصريحًا. في كلِّ زُقاقٍ هناكَ انتظارٌ، وفي كلِّ انتظارٍ صبرُ جبلٍ، وفي كلِّ صبرٍ جُرحٌ لا يندملُ. لكنَّ رغمَ كلّ ذلك ما زالتِ المدينةُ تَلِدُ الحياةَ من قلبِ موتِها. هُم يَدفنونَ موتاهم في صناديقِ الخشبِ، ونحنُ نَدفنُ أحزانَنا في صدورِنا فتُزهِرُ أملًا يُولَدُ. هُم يَبكونَ جُنديًّا واحدًا، ونحنُ نَحمِلُ آلافَ الوُجوهِ في دَمعَةٍ تُسقي الأرضَ لتَلِدَ لنا أَحفادَ من استُشهِدوا. في غزّةَ لم يكنِ الوقتُ يَتَّسِعُ للبُكاءِ، كانوا يَلتقطونَ ما تَبقّى من الهواءِ لِيَصنَعوا منه بروحِ العزِّ والإباء. كانوا يَرونَ العالمَ يُفاوِضُ على موتاهُ، ولا أَحدَ يَذكُرُهم بكلمةٍ أو مُواساةٍ، بينما هُم يُحيونَ موتاهُم بذاكرةٍ لا تَموتُ، ومع ذلك لم يَصرُخوا، لم يَتوسَّلوا، لم يَرفَعوا رايةَ ضعفٍ، ولم يَنتظروا تلكَ الطاولةَ أن تَتكلَّمَ لهم وعَنهُم، بل رَفَعوا وُجوهَهم إلى السماء يقولون: إن لم يكن بك علينا غضبٌ فلا نُبالي. كانتِ إسرائيلُ تَحصُي خَسائِرَها في عَدَدِ الجُثَث، وغزّة تَحصُي مَكاسِبَها في عَدَدِ مَن بَقوا يَتَنفَّسون. كانت تُفاخر بأنها لا تَترُكُ قَتلاها، بينما تَترُكُ حياةَ أُمّةٍ بأَكملها تَختَنِقُ خلفَ المَعابِر. أيُّ حضارةٍ تلكَ التي تُقيمُ الطقوسَ لِموتاها، وتَمنَعُ الماءَ عن طفلٍ عطشان؟ أيُّ دولةٍ تلكَ التي تُبجِّلُ جُثَثَها وتَتركُ الإنسانيّةَ تحتَ الرُّكام؟ لقد كانتِ المفاوضاتُ صورةً مُكثَّفةً للعالمِ كُلِّه؛ عالمٍ يَقِفُ عندَ الحدودِ يَنتظر “اتِّفاقًا على الجُثَث”، بينما يَموتُ الناسُ بلا إِذنِ عُبورٍ. لقد كشفوا عن وجوهِهم حينَ آمَنوا أن عودةَ جُثّةٍ مَيتةٍ أَهمُّ من إِنقاذِ أرواحٍ تَسرِقُ الأَنفاس. لكن غزّة كالعادة كانتِ الاستثناءَ في كلِّ شيءٍ وصَدمةً للأعداءِ قبل غيرِهم، وهذا حديثهم ورأيهم. غزّة لم تَنتظر أَحدًا ليُواسيَها، ولم تَسأَل أَحدًا ليَمنَحَها حَقَّها. حينَ اِنشَغَلَ الآخرونَ بعدَّ الجُثَث، كانت تُحصي خُطواتها نحو الحياة، أَعادت تَرتيبَ أَنقاضِها كأنها تَبني وطنًا جديدًا فوقَ عِظامِ مَن ماتوا وُقوفًا بشموخ، وأَعلَنَت أنَّ النَّبضَ لا يُقاس بعددِ القلوبِ التي توقَّفَت، بل بعددِ الذين ما زالوا يَزرَعونَ المستقبل، لأنَّ المستقبل لنا. وهكذا، حين يَكتُب التاريخُ سطره الأخير، لن يَقول من الذي سلّم الجُثَث، بل من الذي أَبقى على رُوحه حيّة. لن يَذكُر عددَ التوابيت، بل عددَ القلوب التي لم تَنكسِر. دولةُ الكيان الغاصب جَمَعَت موتاها، وغزّة جمَعَت نَفسها. هم دَفَنوا أَجسادَهم، وغزّة دَفَنَت بُذورَ زيتونِها الذي سَيُضيء سَنا بَرقه كل أُفق. هم احتَفلوا بالنِّهاية، وغزّة تَفتَح فَصلًا من جديد. في غزّة، لم يَكُنِ الناس يَطلُبون المعجزات، كانوا يُريدون فقط جُرعةَ دواءٍ لِطفلٍ يحتضر، أو كِسرةَ خُبزٍ لامرأةٍ عَجوز. لكن المعابِر بَقِيَت مُغلَقة لأن الأَموات من الجانب الآخر لم يُعادوا بعد. وكأنَّ الحياة هُنا مُعلَّقة على جُثّة هناك. لم يَكُن العالم يسمع صُراخَ الأَحياء، بل كان يُصغي إلى صَمتِ القُبور التي تُرضي إسرائيل أكثر مما تُرضي الإنسانية.
3804
| 21 أكتوبر 2025