رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حتى ترقى حركة النهضة الإسلامية إلى الاندماج في المسار الديمقراطي، عليها أن تنظر لنفسها على أنها جزء من الكل، و الكل هو الحركة السياسية الجامعة للمسالة الوطنية التونسية. وكما أثبتت الانتخابات الأخيرة ، لا تمثل حركة النهضة سوى 20في المئة أو أزيد من ذلك بقليل ، هذا هو حجمها الحقيقي. أما باقي المجتمع التونسي ، فهو ليس مع النهضة، وهو متمسك بتعاليم الإسلام المدنية المتسامحة، و يرفض الإسلام الأصولي العُنْفِي، ومُتشَّبِثٌ بمقومات الحداثة وبناء الدولة المدنية. و في مثل هذا الوضع وجدت حركة النهضة نفسها وحيدة، باستثناء تحالفها مع الجماعات السلفية المتشددةّ في مواجهة أكثرية المجتمع.
في ظل الأزمة السياسية الحادة التي تعيشها البلاد التونسية، على الشيخ راشد الغنوشي أن يُجَسِّدَ الانصياع المُرّلمنطق و رغبة الأكثرية في المجتمع التونسي ،التي تريد أن تعيش في كنف المكتسبات التاريخية التي حققتها تونس في ظل الجمهورية الأولى ، مع إضفاء الطابع الديمقراطي على مؤسسات الجمهورية الثانية.
هذا الانصياع لتجنب الحرب الأهلية، و النموذج الجزائري ، يقتضي من الشيخ راشد الغنوشي في مفاوضاته مع السيد حسين العباسي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل ، أن يقبل بالتسوية التاريخية، التي بات الجميع في تونس متفقاً عليها، ألا وهي حل الحكومة الحالية ، و تشكيل حكومة كفاءات غير متحزبة، تقود ما تبقى من المرحلة الانتقالية. ومنذ انفجار الأزمة السياسية التونسية عقب اغتيال الشهيد محمد البراهمي باتت كل الطرق تؤدي إلى الاتحاد العام التونسي للشغل، باعتبار أن المركزية النقابية تحولت إلى بيضة القبان في إطار الصراع على السلطة في تونس. فالمبادرات جميعها يمكن أن تلتقي في طرح هذه المركزية النقابية اذا ما تنازلت أطراف السلطة و المعارضة عن بعض من مطالبهم. و لعل أهم تصريح جاء مؤيداً لمبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل جاءت عن طريق الأمين العام لحزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد زياد الأخضر الذي أبدى عن استعداد حزبه للتفاعل مع مبادرة الاتحاد العام التونسي للشغل إذا قبلت بها حركة النهضة، بالرغم من أن حزبه كان يتبنى مقاربة اسقاط المجلس التأسيسي ولا يرغب في تعديلها.
أما حركة النهضة فمن المنتظر أن يبت اجتماع مجلس شورى الحركة اليوم، في المبادرات المعروضة من قبل "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أكبر منظمة عمالية في البلاد، وقوى المعارضة وشخصيات وطنية أخرى، في شأن إيجاد مخرج من الأزمة السياسة التي تمر بها البلاد، بينما يتواصل لأكثر من 20 يوماً اعتصام المعارضة في منطقة باردو بالعاصمة تونس للمطالبة باستقالة الحكومة التي يترأسها القيادي في حركة "النهضة" الإسلامية علي العريض، وحل المجلس الوطني التأسيسي (البرلمان).
ويمثل مجلس شورى "النهضة" أهم مؤسسة في الحركة الإسلامية الحاكمة، وهو المخوّل باتخاذ القرارات المصيرية والحاسمة، مما جعل البعض يصفه بالهيئة السياسية الأهم في البلاد. ويضم مجلس شورى "النهضة" تيارات مختلفة كثيراً ما تتباين مواقفها إزاء المواقف السياسية. وبشأن الأزمة الراهنة، هناك من يدعو إلى التهدئة وتقديم التنازلات من أجل تجاوز المحنة، بينما يدعو تيارٌ آخر إلى عدم التراجع أمام ضغط الشارع والمعارضة (صحيفة الحياة 18 أغسطس2013)..
و لاتزال المعارضة التونسية المتمثلة في "جبهة الإنقاذ الوطني" تدعو إلى تصعيد الاحتجاجات ضد الحكومة التي يقودها القيادي النهضوي علي العريض، وإلى إطلاق "أسبوع الرحيل" من أجل طرد المحافظين والموظفين الذين عينتهم الحكومة في الإدارات المركزية والجهوية.وقالت الجبهة في بيان إن "حملة إرحل تنطلق اليوم، وهي تستهدف عزل المحافظين ورؤساء المنشآت العامة وفي الإدارة المركزية، الذين تم تعيينهم على أساس الولاء الحزبي".
ودعت الجبهة في بيانها، إلى "التعبئة العامة لأسبوع الرحيل ابتداء من 24 أغسطس الجاري، والبدء في مشاورات لتشكيل الهيئة الوطنية العليا للإنقاذ، وحكومة الإنقاذ الوطني المستقلة والمتكونة من 15 عضواً برئاسة شخصية وطنية مستقلة سيتم الإعلان عنها في الوقت المناسب".وجددت تمسكها بـ "ضرورة حل المجلس الوطني التأسيسي والسلطات المنبثقة منه حكومة ورئاسة"، وحمّلت "لائتلاف الحاكم بقيادة حركة النهضة الإسلامية، مسؤولية المماطلة في ذلك وتأزيم الوضع".
حين انهزم الشيخ راشد الغنوشي في المواجهة مع الدولة البوليسية عام 1991، حين كان لحركة النهضة جناح عسكري سرّي، انصاع لمنطق تجنيب تونس الحرب الأهلية على الطريقة الجزائرية، في تلك اللحظة التاريخية، كان الغنوشي مهزوماً أمام الدولة البوليسية ، و أمام المجتمع المدني التونسي الذي يرفض العنف بكل اشكاله وصوره. فتَجَّنَبَ الرَّدَ على عنف الدولة البوليسية باللجوء إلى عُنْفٍ مُضَادٍ، كما فعلت الحركات الإسلامية في كل من مصر و الجزائر.
و إذا كانت السلفية الجهادية لم تستطع أن تثبت أقدامها في تونس (على عكس الجزائر والمغرب وليبيا) ، فالفضل في ذلك يعود إلى وعي ووطنية حركة النهضة الإسلامية الذي أعلنه رئيسها الشيخ راشد الغنوشي مبكراًمع بداية عقد التسعينيات من القرن الماضي . ففي الجزائر الذي حصل فيها الانقلاب العسكري في بداية سنة 1992، عقب الفوز المدوي للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية، انجرت الجماعات الإسلامية المسلحة إلى ممارسة العنف ضد الدولة التسلطية الجزائرية المدعومة من الغرب، فكانت الحرب الأهلية التي استمرت قرابة عقد كامل ، و حصدت أكثر من 200000 قتيل.
وفي مصر شهدت أيضاً صراعاً مسلحاً دامياً بين تنظيم الجهاد الإسلامي و نظام حسني مبارك الديكتاتوري ، لكن التحول الكبير حدث حين قامت الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد بمراجعات شجاعة حقيقية وشفافة (بدءاً من عام 1998) أنهت حقبة التوتر والعنف ورسخت السلم الأهلي وأنجزت استقراراً كبيراً في المجتمع المصري؛ ما أضاف إلى موقف التيارين الإسلاميين الآخرين (الإخوان وشباب الوسط) وإلى المعارضة عموماً، قوة مدنية سلمية ديموقراطية شابة مجربة سمحت بمواجهة عسف السلطة وفسادها على قواعد جديدة تحمي المواطنة والتعددية والوحدة الوطنية... والتجربتان التونسية والمصرية (وهما تشبهان هنا التركية والإيرانية) تميزتا في الأصل بوجود نظام علماني حداثوي وطني، ودولة مركزية قوية ذات شرعية ثابتة وسيادة غير منتقصة وجيش وطني موحد (وكلها صمام أمان التنّوع الأقلوي)، تردفها ليبرالية بورجوازية مستقرة في مجتمع مديني غالب، ما يعني ضعف أو غياب العصبيات النابذة والمفككة للدولة... كما يعني في الوقت نفسه تغوّل الدولة على حساب المجتمع وخياراته.
في عام 2013، الشيخ راشد الغنوشي هو الحاكم الفعلي لتونس، وهو في موقع القرار الأول للسلطة في تونس، فهل يركب رأسه غرور السلطة، أم يتخذ المواقف التاريخية الشجاعة و المسؤولة، لبلورة الدستور الديمقراطي لتونس ما بعد الثورة، من دون الخضوع لإملاءات و شروط الأقلية السلفية المتشددة، ويندمج في سيرورة العمل الجدي و المسؤول نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التعددية، لكي تستعيد تونس معناها الريادي مرّة أخرى بعد انطلاق «الربيع العربي» منها أواخر عام 2010، ولربما بصورة أكثر تأثيراً عملياً في الموقف التاريخي الذي تنتظره المعارضة التونسية بكل أطيافها ، و الاتحاد العام التونسي للشغل، أن يصدر عن حركة النهضة،حتى تتجاوزتونس انقساماً داخلياً عميقاً حول الأزمة السياسية الحادة الحالية ، وباعتراف الغنوشي نفسه؟
ففي ظل الأزمة السياسية الحادّة التي تعيشها تونس في هذه المرحلة الدقيقة ، تقتضي الحكمة إيجاد تسوية تاريخية بين السلطة و المعارضة كما يقترحها الاتحاد العام التونسي للشغل ، من خلال إعلاء منطق و نهج الحوار الديمقراطي من دون خطوط حمراء أو التمسك بالحكومة الحالية الفاشلة ، وتغليب المصلحة الوطنية على أية مصلحة حزبية ضيقة، للخروج من الأزمة عبر تشكيل حكومة كفاءات غير متحزبة . فالعلاقة بين حركة النهضة الإسلامية والمعارضة العلمانية و الاتحاد العام التونسي للشغل ،إما أن تكون تعاوناً يعود على الشعب التونسي بالخير، أو صداماً قد يؤدي إلى كارثة وفقاً للنموذج الجزائري.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
5085
| 29 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4617
| 29 سبتمبر 2025
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
4413
| 06 أكتوبر 2025