رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
استحضار الفكرة في الكتابة، أشبه باستحضار النية في الصلاة، مع فارق التشبيه، فلا معنى لما يَكتبهُ الكاتب، إذا لم تكنْ الفكرة واضحة عنده، وإلا فهو يكتب لمجرد التسلية.
وبعد بحثي عن معنى (الفكرة)، وجدتُ الكثير من المعاني في هذا المنحى، لكن هناك قولاً أعجبني كثيراً للراغب الأصفهاني في وصفهِ للفكرة، يقول: هي قوّة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكّر: هو جولان تلك القوّة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلاّ فيما يُمكن أن يحصل له صورة في القلب.
ومن هُنا يبدأ المشوار الحقيقي للكاتب، فأول الأسئلة التي يطرحُها الكاتب على نفسه هي: ما الفِكرةَ في الطرح؟ وما الهدف من هذا الطرح؟.
وسنتناول هذه التساؤلات، ولكنني قبل أن أتحدث عنها، أريد أن أتطرق لبعض الفنون الأدبية، وخلوها من الفكرة الواضحة، وهذا الشيء يصيب المتلقي بالغثيان، فهناك مقالات تشبه الخبر الصحفي والتقرير، والسؤال هنا: هل نشكر ذلك الكاتب على هذه الفقرة غير الموفقة؟، أم نعزّي أنفسنا على ما وصلنا إليه؟.
وهناك بعض قصائد، تتعب نفسياً حتى تهلوس، فلا أنت تفهم ماذا يقصد الشاعر، ولا الشاعر يفهم ماذا يقصد بها، فتترك القصيدة وشاعرها، لتأخذ حبة بندول إكسترا نايت صداع حمى (كلها مع بعض)، صُنعت من أجل هذا الغرض، أو من أجل هذا المرض والذي قد تصاب به بعد قرأتك لذلك النص.
فالقصيدة روح وفن وعبق وراحة، والأهم من ذلك (لا بد أن تكون مقبولة ومفهومة)، والقصيدة ليست عجينة مبلولة ترمى في صفحات معينة، أو تُذاع بطريقة معينة، فيتم تداولها على أنها قصيدة وكفى.
فهنا المفهوم مغلوط فيه، ولن أقول بأن هذا المفهوم المغلوط فيه وجد فقط في القصيدة الحرة دون غيرها، بل إنه موجود في غالبية أنواع القصيد، على اختلاف مسمياتها، وهذا جُرم، بل جريمة بحق مفهوم القصيدة.
فمنذ أن عرفت البشرية ما يسمى بالقصيدة، فلم تكن مجرد وزن وقافية، بل هي أعمق من ذلك بكثير، هي المعنى هي الصورة هي الشعور.
وهناك قصص قصيرة، تقرأها 10 مراتٍ، ثم تسأل نفسك بتعجب، أين القصة في القصة؟ لا فكرة لا أسلوب لا معنى، فنرى مثلاً قصة تتحدث عن نوع من أنواع الأكلات الشعبية، أو قصة تتحدث عن أنواع الاقمشة التي يلبسها العامة، أو تسريحة شعر فتاة.
أين القصة المرتبطة بالفكرة؟، بل ما الهدف من كتابة هذه القصة؟، وبعدها هل تريدني أن أفكر؟، هل تريدني فعلاً أن أفكر في هذه القصة ومجرياتها؟ وما الذي يُريدُ أن يوصلهُ كاتبها لنا؟ أم تريدني بعدها أن أصرخ كغيري: (وترحل.. صرختي تذبل.. في وادي لا صدى يوصل.. ولا باقي أنين).
هل تُريدُ مني أن أكون سعيداً بعد قراءتها؟ وأنني قرأت شيئاً جديداً غير مفيد في يومي العابر، شيئاً من عالم الأدب؟ أم تريدني كما في كل مرة، أن أعطيها أطفالي كي (يشخبطون) عليها بعض الرسومات غير المفهومة، والتي تشبه هذه القصة!.
وهناك بعض الروايات، (وما أدراك ما الروايات!)، فنجد بعضها يتكلم عن حقبة زمنية غير موجودة، ويصرّ على أنها قائمة على أسس الرواية الحديثة، والبعض الآخر خواطر خالصة، جُرّدت من كل مفاهيم الرواية وتقنياتها، وأنت تقرأها وكأنك تقرأ خوارزميات بكلمات رومانسية.
ولا يزال سؤالي قائما: أين الفكرة التي بُني عليها العمل الأدبي المطروح؟، وللأسف ليس هناك فكرة واضحة لكاتب ذلك العمل، والأمثلة كثر في محيط أدب الوطن العربي، بل حتى في محيط الأدب العالمي، إذاً هناك خلل ما، في جانب ما، عند كاتب ما.
يبدأ الخلل (بأن الكاتب في الأصل خال من الإبداع، فارغ من المضامين)، وهذه أولى إشارات التحدّي لدى الكاتب، وهو أن على الكاتب الذي يُريد أن يستمر فعلياً، فلا بد له من البدء في المسار الصحيح، المسار الحقيقي لذلك الفن.
كتبت جلنار عبدالله في (أقاصيص هاربة) قصة قصيرة جداً: (كان مصراً أن أربط حذائي عند الجلوس، وعندما فعلت، انصرف هو).
استطاعت جلنار وفي سطرٍ واحد فقط، أن تقدم لنا صوراً عدة، الالتزام، الطاعة العمياء، الإصرار الغريب، الانتظار غير المرجو، وقد تحمل هذه القصة القصيرة جداً صورة من صور الخيانة، كونه (انصرف..).
إذاً المسألة متعلقة بـ (الغوص في ذاتك أيها الكاتب)، وهذا مطلبي كقارئ، وهو مطلب عادل، كي أقول أنني قرأت شيئا جميلا للكاتب فلان.
لذلك أرى أن همْ الفكرة، أصعب بكثير من كتابتها، إذاً الفكرة وكتابتها عملية شاقة، تحتاج لكل مقومات المرونة كي تخرج لنا كما يتصورها ذلك الكاتب في ذهنه قبل أن تخرج لنا.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
8853
| 09 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
5532
| 14 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
4998
| 13 أكتوبر 2025