رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هل كان الشاعر التونسي الشاب أبو القاسم الشابي يعلم عندما قال قصيدته المشهورة "إرادة الحياة" والتي يقول في مطلعها : (إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلي.. ولا بد للقيد أن ينكسر)، هل كان أبو القاسم يعلم بأن كلماته ستتردد في أنحاء تونس والعالم العربي بعد وفاته بعشرات السنين ؟ ربما لو علم بذلك وقتها لخففت عنه تلك الفرحة شيئاً من أوجاع قلبه وآلام مرضه الذي لازمه طيلة حياته والذي جعله يعاني طويلاً حتى فارق الحياة وهو في ريعان شبابه (ولد في 1909م الموافق 1327 هـ وتوفي في 1934م الموافق 1353 هـ) وكان يبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً تقريباً.
خمسة وعشرون عاماً هي مدة بقائه وعمره في هذه الحياة، إنها مدة قصيرة جداً عانى فيها كثيراً من مرضه ولكنه لم يستسلم لذلك المرض الذي تحكم في جسده فأبدع ونظم القصائد وساهم في الشعر العربي بإبداعاته حتى أصبح علماً لا ينساه التاريخ ولا الناس، وهاهو الشعب التونسي كذلك يحذو حذوه وينتصر على ذلك المرض الذي ينتشر في جزء من جسد الأمة العربية والذي كان ولا يزال يقاومه بكرات دمه البيضاء.. حتى إذا عجزت البيضاء عن مقاومة المرض فلابد إذن من أن تساندها الكرات الحمراء وتضخ المزيد من الدماء من أجل أن يتحرر الجسد !!.
إنها تونس الخضراء.. وهو الوصف الذي يليق بها في أيام الصفاء والرخاء، ولا يليق بها الآن.. إلا أن نقول "تونس الحمراء".. احتراماً لدماء شهدائها الذين سكبوا دماءهم الطاهرة على أرضها، لقد صنعت تونس مجدها بدم أبنائها وشبابها الثائر الذي أبى أن يسكت طويلاً كغيره خانعاً وخائفاً في وجه من يحرمه من لقمة عيشه.. وفي وجه من يحرمه من عبادة ربه قبل ذلك وفوق ذلك كله.
لا أدري هل هي المصادفة أم القدر الذي جعل لون علم تونس يصطبغ باللون الأحمر أكثر من اللون الأبيض فيه، هل في ذلك إشارة إلى أن تاريخ تونس سيرتبط كثيراً بلون الدم الذي سكبه شعبها ولا يزالون من أجل تحرير بلادهم من كل طاغوت يحكم بغير ما أنزل الله، ولا أدري كذلك هل هي المصادفة أم القدر الذي جعل تونس تقود عصر العلم في الماضي فتنشأ أول جامعة عربية وإسلامية عريقة هي جامعة الزيتونة وجامعها الشهير، كي تصدّر العلم لطلاب العالم العربي والإسلامي وتقود بذلك نهضة العلم، فهل هي مصادفة أخرى أنها اليوم تقود نهضة الحرية وتتصدّر الدول العربية في التغيير والإصلاح وتسبق الكثير من الدول التي نسمع لها جعجعة ولا نرى طحناً..
حقيقة لقد أذهلتنا وأفرحتنا ثورة الشعب التونسي الكريم على طغيان حاكمه واستبداده به من بعد أن سلبه إرادتين.. إرادة العيش والسعي وراء لقمة العيش الكريم.. وإرادة العبادة لله عز وجل، لقد حرم "زين العابدين" شعبه تلك الإرادة، فاستحق أن يحرمه شعبه متعة البقاء في كرسي الحكم، وأن يضرب في الوقت نفسه أعظم مثال لمن يثور من أجل دينه في وجه من يريد أن يكون ذنباً للاستعمار، ففرنسا المعادية للإسلام تقف وراءه طيلة حكمه وتسانده في أن يكون "عوناً" لها في القضاء على منابع التدين ومظاهر العبادة لله عز وجل، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
إن من يقف في وجه حرية الناس ويحول بين عبادة الناس لربهم والخضوع له سبحانه، إنما مصيره الهلاك لا محالة، لأن الله تعالى قادر على أن ينصر المظلوم متى وكيفما شاء سبحانه، فالله يمهل للظالم ولكن لا يهمله، ومن أحسن من قصة فرعون مثالاً يُضرب في مثل هذا الموقف.. ولكن بعض الطغاة والظلمة لا يقرأون التاريخ ولا ينظرون للواقع فيعرفون أن من يقف في وجه هذا الدين سيهلك وسيزول لا محالة.
لا أعرف لماذا لا يقرأ بعض الظلمة التاريخ المقروء في الكتب أو المُشاهد في الواقع ليعلموا ويوقنوا بأن ظلم الناس مهما تعددت أشكاله وأنواعه فإنه لن يجلب لهم إلا السوء في الدنيا والآخرة، وأن النهايات التاريخية التي يأملونها لنهاية حكمهم لن تكون " وردية " كما يتوقعون، فهذا شاه إيران قضى عمره " خادماً " للولايات المتحدة الأمريكية ومنفذاً لسياساتها التي ترمي وقتها للقضاء على مظاهر الإسلام في إيران من رفع للأذان وإقامة للصلاة فقام بمحاربة ذلك طيلة حياته وفترة حكمه حتى إذا ثارت ثورة الناس عليه وكادوا يصلون إليه، حتى فرّ هارباً يبحث عن مأوى يستضيفه، فكانت " صفعة قوية " في وجهه بأن رفضت الولايات المتحدة بقاءه فيها، فلجأ إلى مصر حيث قضى بقية حياته بائساً يائساً.. ويتكرر السيناريو نفسه ويعيد التاريخ أحداثه.. فهاهي فرنسا الداعمة لحكم زين العابدين وسياسته التي تحارب التديّن وتضيّق على الناس عبادتهم لربهم.. ترفض وبكل قوة أن تستضيفه على أراضيها ولا حتى أقاربه وبقية أهله وكأنها تتبرأ منه بكل وضوح بعد أن " انتهى كرته " ونفذ ما كان مطلوباً منه في تكوين جبهة مناهضة للإسلام في هذا الجزء من العالم العربي والإسلامي.
إذا كان من المخطط له أن تستورد تونس من فرنسا.. لغتها وعلمانيتها وكافة مساوئها، فإنه ومن غير المخطط له أن يستورد الشعب التونسي فكرة الثورة الفرنسية وأن يثور الفقراء والبؤساء على واقعهم المرير، فكما كتب الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو رواية " البؤساء " تجسيداً ووصفاً لواقع الظلم الاجتماعي وقتها بفرنسا، يكتب شعب تونس الحرية الآن لنفسه.. ويختار الثورة على واقعه ويشق طريق الحرية بدماء الشهداء.
إن من الغريب فعلاً أن يستنكر الزعيم الليبي معمر القذافي هذه الثورة الشعبية وهو الذي كتب كتابه الأخضر مدافعاً عن الثورة الشعبية ومروجاً لها، بل ويلوم الشعب التونسي على فعلته تلك، ويبكي على أطلال الرئيس السابق زين العابدين، بينما لم يحرّك ساكناً عندما فعل صاحبه ما فعل في تونس منذ عقود من الزمن، بل ويعدد أمجاد النظام السابق في حين أنه لم يعدد جريمة واحدة من جرائمه تجاه شعبه.
إن صفحات التاريخ تتقلب بسرعة.. وقلم الأحداث مازال يكتب الشرف والعزة للأحرار الذين حررهم الإسلام من عبودية الطواغيت، ويكتب الذل والخزي والعار لمن اختاروا طريق العبودية لغير الله، فهل من متعظ وهل من مستوعب لهذا المشهد قبل أن ترفع الأقلام وتطوى الصحف؟!.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7881
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6522
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3438
| 12 أكتوبر 2025