رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
آخر من يتحدث عن حقوق العمالة والبيئة وكل ما يتعلق بحقوق الإنسان هو الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد انكشاف «عورته « ـ كما هو حال أمريكا ـ وسقوط «ورقة التوت» التي كانت تغطيه، بعد السكوت المخزي، بل والدعم الكامل للكيان الصهيوني، في أكبر وأشنع مجازر يشهدها العصر الحديث، على يد هذا الكيان في غزة.
يتحدث الاتحاد الأوروربي عن قانون جديد يعتزم فرضه على شركات كبرى يتعلق بالعمالة والضريبة البيئية، وغالبا هذه القوانين تستهدف بالدرجة الأولى شركات أخرى غير غربية.
وزير الدولة لشؤون الطاقة والرئيس التنفيذي لقطر للطاقة سعادة المهندس سعد بن شريدة الكعبي كان واضحا وصريحا جدا في حوار مع صحيفة فايننشال تايمز عندما سئل عن موقف قطر للطاقة إذا ما طبق الاتحاد الأوروبي قانون فرض ضريبة 5% على الشركات العالمية، «سنوقف شحن الغاز للاتحاد الأوروبي إذا فرضت دوله الأعضاء هذا القانون.. إذا كنا سنخسر 5% من الإيرادات التي نحققها بسبب البيع لأوروبا فلن نبيع لأوروبا.. «.
* الوقائع المرة اليوم حول انتهاكات حقوق الإنسان تأتي من الغرب والاتحاد الأوروبي، الذي يصم أذنيه، ويغمض عينيه، عن تقارير تتحدث عن حجم تلك الانتهاكات، والشركات الغربية الكبرى التي تستخدم قسريا عمالة في مواقع عملها دون حقوق فعلية لهذه العمالة، فقط لأن هذه العمالة غير أوروبية، أو بمعنى أصح «ليسوا من أصحاب العيون الزرقاء «، ويتم استخدامهم في بيئات عمل غير مناسبة، ولا تتوفر فيها إجراءات الأمن والسلامة أو السكن الصحي المناسب، وحدثت حالات وفيات لعمالة في مواقع العمل بسبب عدم توفر إجراءات الأمن والسلامة، عدا عن استغلالهم بالعمل لساعات تزيد عما هو متفق عليه، دون مقابل أو أجر يتساوى مع ساعات العمل الإضافية، ثم يأتون إلى دولنا في العالم العربي أو في أفريقيا وربما في أمريكا اللاتينية، ليحاضروا عن القيم الغربية وحقوق الإنسان والحريات، ويضيفون إليها حقوق الطفل والمرأة، حسب مواصفات ومقاييس غربية، بينما كل هذه الحقوق ينتهكها الكيان الصهيوني ـ حليف الغرب ـ في أبشع صورها مع الإنسان الفلسطيني واللبناني، لكن لا يتم ذكر ذلك.
* وفي دول الاتحاد الأوروبي نفسها استغلال بشع للعمالة غير الأوروبية، خاصة تلك التي أتت من بلدان آسيوية وأفريقية، وكثير منها يفقد حياته في مواقع العمل، لكن لا نرى تلك التقارير «الرنانة» عن تلك الشركات الغربية، وإذا ما تحدّثت بعض المنظمات الحقوقية عن تلك الانتهاكات فإنها تشير إلى أنها تصرفات فردية، ونابعة من الشركات وليس من أسس تلك الدول الغربية، بينما إذا ما حدثت حادثة أو وفاة عامل في شركة في دولة عربية أو أفريقية، فإن مئات التقارير سوف تصدر عن تلك الحادثة، ولن يعزوا ذلك إلى خطأ أو أنها حالة فردية لا ترتبط بإهمال، وسيشمل الانتقاد الدولة بكاملها، وستتهم بأنها المسؤولة عن هذه الحادثة.
* وحسب القانون الذي يعتزم الاتحاد الأوروبي تطبيقه، والذي يستهدف تحصيل 5% من الشركات العالمية، فإن جزءا منه يتعلق بالبيئة، والسؤال من يدمّر البيئة ويقتل الإنسان، ويبيد الحجر والبشر غير دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا والكيان الإسرائيلي.. ؟!.
من يدمّر البيئة ويلقي فيها كل المخلفات الممنوعة ونفايات الأسلحة المحرمة دوليا، وتكون قارات العالم الثالث مرتعا لذلك غير الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية؟
من ينهب خيرات وثروات أفريقيا وينقلها إلى بلدانه غير دول الاتحاد الأوروبي، ويحرم شعوب تلك الدول من الانتفاع بثروات بلدانها؟
في الوقت الذي تسارع دول عربية وآسيوية وأفريقية الخُطى في إصلاحات حقيقية في أنظمة العمل والبيئة وحقوق الإنسان..، يحدث العكس من ذلك في دول الاتحاد الأوروبي، من انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان والحريات والعمالة.. هذه حقيقة وإن حاولت دول الاتحاد الأوروبي القفز عليها.
* في قطر مثلا، هناك صندوق خاص بدعم وتأمين العمال، يهدف لضمان حقوقهم وتوفير بيئة عمل صحية وآمنة لهم، وتعزيز منظومة العمل بالدولة، فهل في الاتحاد الأوروبي ما يوازي مثل هذا المشروع أو هذه المبادرة النوعية؟
قوانين وتشريعات الحفاظ على حقوق العمال وإلزام الشركات التي يعملون بها بعدم التخلف عن صرف رواتبهم بصورة فاعلة شهريا دول تأخير عبر آلية ربط نظام صرف الرواتب بوزارة العمل، وإذا ما تخلفت أي جهة عن ذلك فإن حظرا سيطولها مباشرة.. فهل هناك ما يحفظ للعمال حقوقهم بمثل هذه الصورة الواضحة..؟
قانون وقف العمل في ساعات ذروة الحرارة بالصيف هل يقابله قوانين في أوروبا تحفظ حقوق العمال إذا ما انخفضت درجات الحرارة إلى مستويات يصعب فيها العمل بالأماكن المفتوحة.. ؟.
منظمة العمل الدولية افتتحت مكتبا لها بالدوحة وهو دليل على مدى التزام قطر، وما توفره قوانينها وتشريعاتها من حماية لحقوق العمال.
* وفي مجال مواقف قطر الداعمة لدول بالعالم لمواجهة الآثار السلبية لقضايا المناخ، أعلن حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى خلال مشاركته في قمة الأمم المتحدة للمناخ في 2019 عن المساهمة بمبلغ 100 مليون دولار لدعم الدول الجزرية والمخاطر الطبيعية والتحديات البيئية، وبناء القدرة على مواجهة آثارها المدمرة.
هذه الأدوار الفاعلة لدولة قطر على الصعيد العالمي لا يتم الحديث عنها، وتقفز بعض الأطراف الغربية أو ما تسمى بمؤسسات في تلك المجتمعات، سواء بجهل أو بقصد، لتوجيه انتقادات غير منطقية، ولا تتسق مع الواقع، وبعيدة تماما عن حجم الجهود الجبارة التي تقوم بها الدولة، سواء على صعيد البيئة أو حقوق الإنسان، بل إن إحدى ركائز رؤية قطر 2030 هي التنمية البيئية، التي تحرص على الانسجام بين النمو الاقتصادي والحفاظ على البيئة.
** آن الأوان أن نقول كفى للغرب وقوانينه التي تستهدف نهب خيرات وثروات دول وشعوب العالم «الآخر»، تحت مسميات وتبريرات يفصلونها حسب متطلباتهم واحتياجاتهم، وبما يتفقون عليه من مصالح خاصة في دولهم، على حساب دولنا وشعوبنا.
النمو الاقتصادي القادم والفرص الاستثمارية لن تكون محصورة في أوروبا فحسب، بل في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، فلماذا نرهن اقتصادياتنا وتوجهاتنا الاستثمارية في الغرب، ونضع كل ذلك في أوروبا «الشيخوخة»، التي كانت ولازالت وتعمل في المستقبل لنهب ثروات الشعوب؟!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
6021
| 26 سبتمبر 2025
في قاعة الأمم المتحدة كان خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني حفظه الله مشهدا سياسيا قلب المعادلات، الكلمة التي ألقاها سموه لم تكن خطابًا بروتوكوليًا يضاف إلى أرشيف الأمم المتحدة المكدّس، بل كانت كمن يفتح نافذة في قاعة خانقة. قطر لم تطرح نفسها كقوة تبحث عن مكان على الخريطة؛ بل كصوت يذكّر العالم أن الصِغَر في المساحة لا يعني الصِغَر في التأثير. في لحظة، تحوّل المنبر الأممي من مجرد منصة للوعود المكررة والخطابات المعلبة إلى ساحة مواجهة ناعمة: كلمات صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وضعتهم في قفص الاتهام دون أن تمنحهم شرف ذكر أسمائهم. يزورون بلادنا ويخططون لقصفها، يفاوضون وفودًا ويخططون لاغتيال أعضائها.. اللغة العربية تعرف قوة الضمير، خصوصًا الضمير المستتر الذي لا يُذكر لفظًا لكنه يُفهم معنى. في خطاب الأمير الضمير هنا مستتر كالذي يختبئ خلف الأحداث، يحرّكها في الخفاء، لكنه لا يجرؤ على الظهور علنًا. استخدام هذا الأسلوب لم يكن محض صدفة لغوية، بل ذكاء سياسي وبلاغي رفيع ؛ إذ جعل كل مستمع يربط الجملة مباشرة بالفاعل الحقيقي في ذهنه من دون أن يحتاج إلى تسميته. ذكاء سياسي ولغوي في آن واحد».... هذا الاستخدام ليس صدفة لغوية، بل استراتيجية بلاغية. في الخطاب السياسي، التسمية المباشرة قد تفتح باب الردّ والجدل، بينما ضمير الغائب يُربك الخصم أكثر لأنه يجعله يتساءل: هل يقصدني وحدي؟ أم يقصد غيري معي؟ إنّه كالسهم الذي ينطلق في القاعة فيصيب أكثر من صدر. محكمة علنية بلا أسماء: لقد حول الأمير خطابًا قصيرًا إلى محكمة علنية بلا أسماء، لكنها محكمة يعرف الجميع من هم المتهمون فيها. وهنا تتجلى العبارة الأبلغ، أن الضمير المستتر في النص كان أبلغ حضورًا من أي تصريح مباشر. العالم في مرآة قطر: في النهاية، لم يكن ضمير المستتر في خطاب صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله - مجرد أداة لغوية؛ بل كان سلاحًا سياسيًا صامتًا، أشد وقعًا من الضجيج. لقد أجبر العالم على أن يرى نفسه في مرآة قطر. وما بين الغياب والحضور، تجلت الحقيقة أن القيمة تُقاس بجرأة الموقف لا باتساع الأرض، وأن الكلمة حين تُصاغ بذكاء قادرة على أن تهز أركان السياسات الدولية كما تعجز عنها جيوش كاملة. فالمخاطَب يكتشف أن المرآة وُضعت أمامه من دون أن يُذكر اسمه. تلك هي براعة السياسة: أن تُدين خصمك من دون أن تمنحه شرف الذكر.
5595
| 25 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4470
| 29 سبتمبر 2025