رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كل نسخة من معرض الكويت الدولي للكتاب تُشعرني بأنني أدخل بيتًا قديمًا أعرف تفاصيله، لكنني أكتشف في كل زيارة أن الضوء تغيّر، وأن الكتب التي اعتدت المرور عليها صارت تُحدّق فيّ بطريقتها الخاصة، كما لو أنها تنتظر هزيمتي أو انتصاري، أو على الأقل تنتظر ما الذي تبقى مني.
لا أعرف سر هذا الارتباط. ربما لأن المعرض لم يكن يومًا مجرد قاعة ممتلئة برفوف وبشر، بل كان مساحة تتقاطع فيها مسارات العمر؛ تلك التي أضعتُها، وتلك التي ما زلتُ أبحث عنها بإصرار يليق بمن يعرف أن الكتب أحيانًا أكثر رحمة من الحياة. هناك دائمًا كتابٌ ما يبحث عن قارئه المفقود، وناشرٌ ما زال يؤمن بأن الحرف قادر على أن يغيّر مصير المرء حين يلامس جرحه أو حلمه، أو يوقظه من غفوته الطويلة.
كنت أمشي بين الدور وكأنني أتحسس وجهي القديم. شيء في الهواء يعيد ترتيب الروح، ويجعل التعب يتراجع خطوة كي يسمح للجمال بأن يتقدم بثقة. هنا تتنفس الروح بحبر جاد، حبر يعرف أن الكلمات لا تُكتب لكي تتكدس، بل لكي تفتح شقًا صغيرًا في عتمة ما، أو لتضيء ركنًا أهمله المرء وهو يركض في حياته من دون أن يلتفت.
كنت أتجول في معرض هذا العام، بلا نية واضحة ولا خريطة محددة، فقط أترك قدميّ تقودانني حيث تشتهي الورقة. وفجأة، ومن بين آلاف العناوين، لمحته: ديواني الأول، في طبعة قديمة، صادرة عن دار سعاد الصباح للنشر والتوزيع، نسخة من الطبعة الثانية تحديدًا، تلك التي وافق صدورها لحظة كنت أحاول فيها أن أجد مكاني في العالم، أو على الأقل مكاني أمام اللغة. توقفت. شعرت للحظة بأن الوقت يبتلع كل الأصوات من حولي، وأن الرف الذي يحمله قد انحنى قليلًا ليقترب مني، كأنه يريد أن يهمس بشيء لم يعد أحد ينتبه له.
مددت يدي بحذر غريب، كما لو أن الكتاب جسد حيّ يتنفس، أو طفل تركته قبل خمسة وثلاثين عامًا في مهد من الورق، وعدتُ فجأة لأجده يكبر بطريقته، دون أن ينتظرني. كان غلافه كما تركته تقريبًا: بسيطًا، خجولًا، لكنه يحمل عناد بداياتي وارتباكاتها، ورغبة فتاة كانت تظن أن الشعر قادر على أن يرمم ما لا يرممه العالم.
أمسكته، وداهمتني كل الشجون دفعة واحدة. رأيت تلك التي كنتها: فتاة ترتجف وهي تقدّم مخطوطها الأول، تظن أن النقد يمكن أن يلتهمها، وأن المدح قد يخونها، وأن الشعر وحده هو المكان الذي لا يطرد أحدًا. تذكرت الصحف التي كتبت عن الديوان آنذاك، وتذكرت القراء الذين التقيتهم مصادفة وهم يتحدثون عنه بينما كنت أقف بينهم مجهولة. تذكرت الخوف، والفرح، والارتباك الذي رافق تلك السنوات الأولى، حين كنت أتعلم كيف أضع قلبي على الورق دون أن أنهار.
الغريب أنني حين فتحت الكتاب الآن، بعد هذا العمر، لم أقرأه بعين الكاتبة التي أصبحتها، بل بعين المرء الذي يدرك أن الكلمات القديمة لا تفقد قيمتها لمجرد أن الزمن مرّ فوقها. وجدت بين الصفحات ما يشبه رسائل لم أكتبها لأحد، بل كتبتها لأحمي نفسي من هشاشتي، من ضياعي، ومن كل ما كنت أظنه أكبر من احتمالي. وكنت أبتسم كلما قرأت بيتًا أعرف أنني لم أعد أكتبه بالطريقة نفسها، لكنني لا أستطيع أن أخونه أيضًا، فهو شاهد على امرأة كانت تقف في بداية الطريق، بشجاعة لا تتكرر.
لم يعد الأمر مجرد مصادفة. كان أشبه بموعد مؤجل مع ذاتي الأولى. المعرض كله اختفى في تلك اللحظة، وبقيت أنا والكتاب الذي بدأت به رحلتي، الكتاب الذي حمل بصمتي الأولى قبل أن تتشعب الأصوات وتتغير الأساليب وتتباين التجارب. شعرت بأن السنوات الطويلة انحنت أمام تلك اللحظة، وأن شيئًا بداخلي يربّت على كتفي قائلاً إن الطريق مهما طال يبدأ دائمًا بصفحة واحدة.
وضعت الكتاب فوق صدري، بلا مبالغة، كمن يعيد شيئًا إلى مكانه الأصلي. ورغم ازدحام القاعة حولي، كنت أسير وفي داخلي سكون نادر. سكون يشبه اعترافًا مؤجلًا بأن المرء لا ينجو إلا حين يعود إلى النقطة التي بدأ منها، لا ليبقى فيها، بل ليطمئن أن تلك الشرارة الصغيرة التي أشعلت بداياته لم تنطفئ بعد، وأن الشعر، مهما تبدّل العالم، ما زال قادرًا على حمله إلى حيث يحسّ أنه حي بحق.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كاتبة كويتية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
هناك لحظات في تاريخ الدول لا تمرّ مرور الكرام… لحظات تُعلن فيها مؤسسات الدولة أنها انتقلت من مرحلة “تسيير الأمور” إلى مرحلة صناعة التغيير ونقل الجيل من مرحلة كان إلى مرحلة يكون. وهذا بالضبط ما فعلته وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي في السنوات الأخيرة. الأسرة أولاً… بُعدٌ لا يفهمه إلا من يعي أهمية المجتمع ومكوناته، مجتمعٌ يدرس فيه أكثر من 300 ألف طالب وطالبة ويسند هذه المنظومة أكثر من 28 ألف معلم ومعلمة في المدارس الحكومية والخاصة، إلى جانب آلاف الإداريين والمتخصصين العاملين في الوزارة ومؤسساتها المختلفة. لذلك حين قررت الوزارة أن تضع الأسرة في قلب العملية التعليمية هي فعلاً وضعت قلب الوطن ونبضه بين يديها ونصب عينيها. فقد كان إعلانًا واضحًا أن المدرسة ليست مبنى، بل هي امتداد للبيت وبيت المستقبل القريب، وهذا ليس فقط في المدارس الحكومية، فالمدارس الخاصة أيضًا تسجل قفزات واضحة وتنافس وتقدم يداً بيد مع المدارس الحكومية. فمثلاً دور الحضانة داخل رياض الأطفال للمعلمات، خطوة جريئة وقفزة للأمام لم تقدّمها كثير من الأنظمة التعليمية في العالم والمنطقة. خطوة تقول للأم المعلمة: طفلك في حضن مدرستك… ومدرستك أمانة لديك فأنتِ المدرسة الحقيقية. إنها سياسة تُعيد تعريف “بيئة العمل” بمعناها الإنساني والحقيقي. المعلم… لم يعد جنديًا مُرهقًا بل عقلاً مُنطلقًا وفكرًا وقادًا وهكذا يجب أن يكون. لأول مرة منذ سنوات يشعر المُعلم أن هناك من يرفع عنه الحِمل بدل أن يضيف عليه. فالوزارة لم تُخفف الأعباء لمجرد التخفيف… بل لأنها تريد للمعلم أن يقوم بأهم وظيفة. المدرس المُرهق لا يصنع جيلاً، والوزارة أدركت ذلك، وأعادت تنظيم يومه المدرسي وساعاته ومهامه ليعود لجوهر رسالته. هو لا يُعلّم (أمة اقرأ) كيف تقرأ فقط، بل يعلمها كيف تحترم الكبير وتقدر المعلم وتعطي المكانة للمربي لأن التربية قبل العلم، فما حاجتنا لمتعلم بلا أدب؟ ومثقف بلا اخلاق؟ فنحن نحتاج القدوة ونحتاج الضمير ونحتاج الإخلاص، وكل هذه تأتي من القيم والتربية الدينية والأخلاق الحميدة. فحين يصدر في الدولة مرسوم أميري يؤكد على تعزيز حضور اللغة العربية، فهذا ليس قرارًا تعليميًا فحسب ولا قرارًا إلزاميًا وانتهى، وليس قانونًا تشريعيًا وكفى. لا، هذا قرار هوية. قرار دولة تعرف من أين وكيف تبدأ وإلى أين تتجه. فالبوصلة لديها واضحة معروفة لا غبار عليها ولا غشاوة. وبينما كانت المدارس تتهيأ للتنفيذ وترتب الصفوف لأننا في معركة فعلية مع الهوية والحفاظ عليها حتى لا تُسلب من لصوص الهوية والمستعمرين الجدد، ظهرت لنا ثمار هذا التوجه الوطني في مشاهد عظيمة مثل مسابقة “فصاحة” في نسختها الأولى التي تكشف لنا حرص إدارة المدارس الخاصة على التميز خمس وثلاثون مدرسة… جيش من المعلمين والمربين… أطفال في المرحلة المتوسطة يتحدثون بالعربية الفصحى أفضل منّا نحن الكبار. ومني أنا شخصيًا والله. وهذا نتيجة عمل بعد العمل لأن من يحمل هذا المشعل له غاية وعنده هدف، وهذا هو أصل التربية والتعليم، حين لا يعُدّ المربي والمعلم الدقيقة متى تبدأ ومتى ينصرف، هنا يُصنع الفرق. ولم تكتفِ المدارس الخاصة بهذا، فهي منذ سنوات تنظم مسابقة اقرأ وارتقِ ورتّل، ولحقت بها المدارس الحكومية مؤخراً وهذا دليل التسابق على الخير. من الروضات إلى المدارس الخاصة إلى التعليم الحكومي، كل خطوة تُدار من مختصين يعرفون ماذا يريدون، وإلى أين الوجهة وما هو الهدف. في النهاية… شكرًا لأنكم رأيتم المعلم إنسانًا، والطفل أمانة، والأسرة شريكًا، واللغة والقرآن هوية. وشكرًا لأنكم جعلتمونا: نفخر بكم… ونثق بكم… ونمضي معكم نحو تعليم يبني المستقبل.
13656
| 20 نوفمبر 2025
في قلب الإيمان، ينشأ صبر عميق يواجه به المؤمن أذى الناس، ليس كضعفٍ أو استسلام، بل كقوة روحية ولحمة أخلاقية. من منظور قرآني، الصبر على أذى الخلق هو تجلٍّ من مفهوم الصبر الأوسع (الصبر على الابتلاءات والطاعة)، لكنه هنا يختصّ بالصبر في مواجهة الناس — سواء بالكلام المؤذي أو المعاملة الجارحة. يحثّنا القرآن على هذا النوع من الصبر في آيات سامية؛ يقول الله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا﴾ (المزمل: 10). هذا الهجر «الجميل» يعني الانسحاب بكرامة، دون جدال أو صراع، بل بهدوء وثقة. كما يذكر القرآن صفات من هم من أهل التقوى: ﴿… وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ … وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134). إن كظم الغيظ والعفو عن الناس ليس تهاونًا، بل خلق كريم يدل على الاتزان النفسي ومستوى رفيع من الإيمان. وقد أبرز العلماء أن هذا الصبر يُعدُّ من أرقى الفضائل. يقول البعض إن كظم الغيظ يعكس عظمة النفس، فالشخص الذي يمسك غضبه رغم القدرة على الردّ، يظهر عزمًا راسخًا وإخلاصًا في عبادته لله. كما أن العفو والكظم معًا يؤدّيان إلى بناء السلم الاجتماعي، ويطفئان نيران الخصام، ويمنحان ساحة العلاقات الإنسانية سلامًا. من السنة النبوية، ورد عن النبي ﷺ أن من كظم غيظه وهو قادر على الانتقام، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فكم هو عظيم جزاء من يضبط نفسه لصالح رضا الله. كما تبيّن المروءة الحقيقية في قوله ﷺ: ليس الشديد في الإسلام من يملك يده، بل من يملك نفسه وقت الغضب. أهمية هذا الصبر لم تذهب سدى في حياة المسلم. في مواجهة الأذى، يكون الصبر وسيلة للارتقاء الروحي، مظهراً لثقته بتقدير الله وعدله، ومعبّراً عن تطلع حقيقي للأجر العظيم عنده. ولكي ينمّي الإنسان هذا الخلق، يُنصح بأن يربّي نفسه على ضبط الغضب، أن يعرف الثواب العظيم للكاظمين الغيظ، وأن يدعو الله ليساعده على ذلك. خلاصة القول، الصبر على أذى الخلق ليس مجرد تحمل، بل هو خلق كرامة: كظم الغيظ، والعفو، والهجر الجميل حين لا فائدة من الجدال. ومن خلال ذلك، يرتقي المؤمن في نظر ربه، ويَحرز لذاته راحة وسموًا، ويحقّق ما وصفه الله من مكارم الأخلاق.
1800
| 21 نوفمبر 2025
في لحظة تاريخية، ارتقى شباب المغرب تحت 17 عاماً إلى أسمى آفاق الإنجاز، حين حجزوا مقعدهم بين عمالقة كرة القدم العالمية، متأهلين إلى ربع نهائي كأس العالم في قطر 2025. لم يكن هذا التأهل مجرد نتيجة، بل سيمفونية من الإرادة والانضباط والإبداع، أبدعها أسود الأطلس في كل حركة، وفي كل لمسة للكرة. المغرب قدم عرضاً كروياً يعكس التميز الفني الراقي والجاهزية الذهنية للاعبين الصغار، الذين جمعوا بين براعة الأداء وروح التحدي، ليحولوا الملعب إلى مسرح للإصرار والابتكار. كل هجمة كانت تحفة فنية تروي قصة عزيمتهم، وكل هدف كان شاهداً على موهبة نادرة وذكاء تكتيكي بالغ، مؤكدين أن الكرة المغربية لا تعرف حدوداً، وأن مستقبلها مزدهر بالنجوم الذين يشقون طريقهم نحو المجد بخطوات ثابتة وواثقة. هذا الإنجاز يعكس رؤية واضحة في تطوير الفئات العمرية، حيث استثمر الاتحاد المغربي لكرة القدم في صقل مهارات اللاعبين منذ الصغر، ليصبحوا اليوم قادرين على مواجهة أقوى المنتخبات العالمية ورفع اسم بلادهم عالياً في سماء البطولة. وليس الفوز وحده، بل القدرة على فرض أسلوب اللعب وإدارة اللحظات الحرجة والتحلي بالهدوء أمام الضغوط، ويجعل هذا التأهل لحظة فارقة تُخلّد في التاريخ الرياضي المغربي. أسود الأطلس الصغار اليوم ليسوا لاعبين فحسب، بل رموز لإصرار أمة وعزيمة شعب، حاملين معهم آمال ملايين المغاربة الذين تابعوا كل لحظة من مغامرتهم بفخر لا ينضب. واليوم، يبقى السؤال الأعمق: هل سيستطيع هؤلاء الأبطال أن يحولوا التحديات القادمة إلى ملحمة تاريخية تخلّد اسم الكرة المغربية؟ كل المؤشرات تقول نعم، فهم بالفعل قادرون على تحويل المستحيل إلى حقيقة، وإثبات أن كرة القدم المغربية قادرة على صناعة المعجزات. كلمة أخيرة: المغرب ليس مجرد منتخب، بل ظاهرة تتألق بالفخر والإبداع، وبرهان حي على أن الإرادة تصنع التاريخ، وأن أسود الأطلس يسيرون نحو المجد الذي يليق بعظمة إرادتهم ومهارتهم.
1176
| 20 نوفمبر 2025