رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
دعاء الأمير في قمة الكويت مازال يجلجل في الآفاق: اللهم اجعلنا من الذين تحبنا شعوبنا ونبادلها حباً بحب
في بلد المليون شاعر.. ما أحوجنا إلى قصيدة واحدة تحيي ما مات في العرب!!
الأمن العربي أصبح أكثر انكشافاً ومشاريعُ الأمم الأخرى تتمدد في الوطن العربي
تنعقد يوم غد القمة العربية السابعة والعشرون؛ بحضور من حضر من القادة، نصف الزعماء العرب يتغيبون عنها في العاصمة الموريتانية نواكشوط، بلد المليون شاعر، ما أحوجنا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة، إلى شاعر واحد، وقصيدة واحدة، تحيي ما مات في العرب.
تنعقد هذه القمة العربية في موريتانيا، هذا البلد العربي المحوري، الذي يقع في الشمال الغربي للقارة الإفريقية، على شاطئ المحيط الأطلسي من الجهة الغربية من وطننا، بلد نسيَه العرب، بل نسوا القارة التي يقع فيها، وهي التي تمثل العمق والأمن القومي للعالم العربي، حتى باتت كل مشاريع الأمم تتنافس عليها، إلا العربَ الذين أضاعوا مشروعهم القومي، وباتوا بلا هوية، والكل يتناهشونهم، فأصبحوا فريسة تتكالب عليها الأمم.
تنعقد القمة العربية في ظرف دقيق، ومرحلة حساسة.. وفي كل مرة نردد هذه الجمل "المنمقة"، وهذه المفردات "المدغدغة" للمشاعر، وكأن القمة التي نحن بصدد الحديث عنها هي المنقذة لمشروعنا القومي العربي، أو أنها الرافعة لما سقط منا من أوطان، أو أنها ستجد الحلول لما تعانيه الشعوب من مآسٍ، والبلدان من ويلات.. لم أطلع على جدول أعمال قمة نواكشوط، وإن كنت لا أعتقد أنها سوف تختلف عن قمة شرم الشيخ العام الماضي.. الكثير لم يكن يعرف أن القمة الماضية كانت في هذه المدينة، التي هجرها السياح.. أو قمة الكويت التي كانت قبلها، لكني مازلت أتذكر أبرز جدول أعمال قمة شرم الشيخ، التي تضمنت نحو 12 بنداً، أذكر بعضها.. لتقولوا لي ماذا تم بشأنها، هل حلت هذه القضايا أم إن أوضاعها في مزيد من التدهور..؟!!
القضية الفلسطينية، أهلكناها قتلاً، وليس بحثاً، وفي النهاية لم نقدم لها الحلول، ولم نسعَ لإنقاذ الشعب الفلسطيني، بل أسهمنا في قتله، بالمشاركة مع الكيان الإسرائيلي.. حاصرناه كما يفعل الصهاينة.. سكتنا عن التهويد للأراضي الفلسطينية.. صمتنا عن انتهاك القدس والأقصى والمقدسات الإسلامية.. ثم لمنا الشعب الفلسطيني لأنه أكل "جيفة" وهو يكاد يموت جوعاً.
سوريا.. عام سادس وهذا الشعب يقتل على يد نظامه، والجامعة العربية تقدم رجلاً وتؤخر عشراً، والأنظمة العربية؛ من تقف مع هذا الشعب لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، بل إن هناك أنظمة عربية تقدم الدعم العسكري واللوجستي للنظام الأسدي المجرم، الذي لم يمر على التاريخ أن فعل نظام بشعبه ما يفعله هذا النظام اليوم.. والقتل مستمر لهذا الشعب، الذي يوشك على الانقراض بسبب آلة القتل، التي تحصد يومياً العشرات، ما بين قتيل ببراميل "النظام" المتفجرة، أو الطائرات الروسية الغادرة، أو الحرس الثوري الايراني المحتل، أو ميليشيات حزب الله الحاقدة، أو المرتزقة الذين أتوا بهم من كل حدب وصوب، لقتل هذا الشعب الأبي، الذي كل جريمته أنه طالب بالإصلاح، وبحياة كريمة، فتخلى عنه العالم كله، بل شاركوا القاتل بقتل متعدد الأشكال والألوان.
ليبيا.. لم يترك العرب هذا الشعب يقرر مصيره بإرادته، بعد أن تخلص من حكم الفرد، فأشعلوا فيه النار، وحرضوا أطرافا ضد أخرى، وأمدوهم بالسلاح "المحرم" ليقتل الأخ أخاه، فتحول العرب إلى محرضين، بدل أن يكونوا مصلحين، موحدين للأشقاء في ليبيا.
اليمن.. عام ثانٍ من عاصفة الحزم التي أتت لتنقذ اليمن الشقيق من السقوط في براثن عصابات مرتمية في حضن المشروع الإيراني، استولت على السلطة بقوة السلاح، كما سقطت عواصم أخرى، لكن هذه الخطوة والمبادرة، التي يتحرك فيها العرب لأول مرة، مبادرين بقيادة الشقيقة السعودية، لم تحسم حتى اللحظة، بفعل مؤامرات الظلام، من هنا وهناك، وفي استمرار أمدها مصلحة "حوثية" مع حليفهم المخلوع، فكان الأمل أن يكون للعرب كلمة واحدة، وصف واحد لإنقاذ اليمن من الهاوية، والحفاظ على الأمن القومي العربي، لكن من العرب من يقف على الضفة الاخرى، وكأن الخطر بعيد عنهم، ولا يقدرون أن العِقد إذا انفرط فإن الجميع مهدد بالتبعثر.
العراق.. الطائفية المقيتة فوق الوطنية، دعم العرب العبادي؛ فماذا كانت النتيجة، لم يختلف الوضع كثيراً عن سابقه، ظلت الميليشيات الطائفية هي الآمرة الناهية؛ ترتكب كل الجرائم تحت مرأى ومسمع ما يسمى بـ "الجيش" العراقي، الذي حل محله ما يسمى بـ "الحشد الشعبي"، وهو حشد طائفي بامتياز، مارس القتل لأهل السنة على الهوية، وعمل على تهجير وتغيير التركيبة السكانية للمناطق والمدن؛ قتل من قتل، وهجّر من هجّر.. هذه هي الحقيقة، التي طالما حاول البعض نفيها، لكنها واقع معيش في عراق اليوم، الذي يسام فيه أهل السنة الخسف والنسف، بدعوى محاربة الإرهاب، فأصبح أهل السنة بين المطرقة والسندان، مطرقة "داعش" وسندان "الحشد"، وما حصل في الفلوجة خير شاهد، ولن يكون الوضع مغايراً في الموصل في قادم الأيام.
الصومال.. ماذا فعل العرب من أجل هذا البلد الذي يعيش الجوع والفقر والضياع، بعدما كانت تلك الديار في سالف الأيام تمدنا بالدعم والمساندة، فتركناها اليوم تهيم في الأرض، بلداً ممزقاً، وشعباً مشتتاً، تزعزعه حرب بين فرقائه، لم يجد من يتصدى لها بالإصلاح..
الجزر الإماراتية المحتلة.. مقررة في أجندة كل القمم، فماذا صنعت هذه القمم، وماذا قدمت للأشقاء في الإمارات لاسترجاع جزرهم الثلاث..؟
وكان من بين جدول أعمال القمة العربية الماضية أيضاً، الأمن القومي العربي ومكافحة الإرهاب.. فماذا تم بشأنهما؟
مشروع الأمن العربي أصبح أكثر انكشافاً، أما مشاريع الأمم الأخرى فقد أخذت تتمدد في الوطن العربي!! كانت تلك الأمم ـ ولا تزال ـ تتصارع من أجل اقتسام الجغرافيا، والحصول على المكاسب، والمنافع، وخيرات أوطاننا، ونحن في "عالم" آخر، نتفرج، ونرصد التحركات، من وراء الشاشات، وكأن الأمر لا يعنينا.
أما الإرهاب ومكافحته، فلم نعمل معاً من أجل اجتثاثه من جذوره، فالإرهاب مرفوض، ولا يمت لنا، ولتاريخنا، وديننا بشيء، ولكن هل طرحت الدول العربية معالجات حقيقية لهذه القضية، أم إن ما يطرح مجرد "مسكنات"، والقفز في الهتاف ضد الإرهاب إلى الأمام.. أمام الجميع.. بعيداً عن العلاج الحقيقي لهذه القضية، من جذورها، وليس فقط تقليم أظفارها؟.
نحن بحاجة ـ والعالم أجمع ـ إلى الوقوف على مسببات الإرهاب، إن كنا نريد علاجه من جذوره، ولكن للأسف هناك أطراف إقليمية ودولية تغذي الإرهاب، وتستفيد من وجوده وبقائه..
قضية أخرى كانت مطروحة على جدول أعمال قمة شرم الشيخ، ألا وهي تطوير جامعة الدول العربية.. فماذا فعلوا من أجل تطويرها؟!!.. إنهم أتوا بوزير خارجية مصر الأسبق أحمد أبو الغيط، تاريخ حافل، ومسيرة ثرية، من أجل تطوير هذا الصرح "العريق"، يكفي من أعمال هذا الرجل أنه شارك "زميلته" وزيرة خارجية العدو الإسرائيلي مؤتمراً صحفياً في القاهرة في ديسمبر 2008، أعلنت من خلاله الحرب على غزة، فكان داعماً لها، بل تلقفها مسانداً قبل أن تقع من على السلم، وهي تنزل من منصة المؤتمر الصحفي المشترك الشهير!!
قمة نواكشوط العربية.. ماذا يمكنها أن تفعل، وماذا يمكنها أن تعالج؟
المشكلة الحقيقية أن الجامعة العربية، والأنظمة العربية ـ إلا من رحم ربي ـ في جهة، وقضايا الشعوب في جهة أخرى، وما بقي الوضع على هذه الشاكلة، فإن الواقع العربي لن يتغير للأحسن، بل على العكس؛ نحن نتجه نحو مزيد من التشتت، ومزيد من التفرق، ومزيد من الآلام للشعوب العربية، التي لم تعد الغالبية منها تثق بجامعتها الفاضلة، لأنها تعتقد أن هذه جامعة أنظمة، لا تنحاز إلى قضاياها، وما الشعوب العربية التي انتفضت باحثة عن كرامتها، مبتغية إصلاح شؤونها، إلا خير دليل، عندما تخلت الجامعة عن دعم تطلعات هذه الشعوب، وتركتها تقاسي الآلام، دون أن تقف مساندة لها، لتحقيق آمالها، وفق تطلعاتها وإراداتها.
لن أتحدث عن القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها الشعوب العربية، ولن أتحدث عن أرقام البطالة في الوطن العربي، التي تمثل قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة، بل هي أحد أسباب تخلف دولنا، التي لم تستطع استيعاب هذه الطاقات الشبابية والعلمية، في الإنتاج والإبداع، والعيش الكريم، فأحالتها للجلوس على الطرقات، أو التوجه للانخراط في المنظمات الإرهابية، أو الانزلاق إلى قوائم المدمنين على المخدرات.
الحديث عن الواقع العربي و"البهرجة" السنوية المسماة بالقمم العربية، حديث ذو شجون، فالواقع مرير، والأوضاع متردية، ولكن هذا لا يعني أن نستكين لهذا الواقع، بأنه لا علاج له، وبالتالي القبول به.. فإذا ما كانت هناك إرادة حقيقية، ونية صادقة، وأسند الأمر إلى أهله المخلصين، فحينئذ يمكن تحقيق نهضة شاملة، وحوادث التاريخ القديم والحديث ومجرياته، خير شاهد لمن أراد النهوض وبناء الأوطان، ومزاحمة الأمم على القيادة والريادة.
دعاء الأمير في قمة الكويت
في قمة الكويت 2014 كانت أول مشاركة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني كأمير لدولة قطر، فألقى خطاباً يمثل نبض الشعوب العربية، لامس خلاله آمال وتطلعات هذه الشعوب، ومازلنا نتذكر ما قاله سموه آنذاك، في خطابه التاريخي، عندما استحضر حديث رسولنا الكريم قائلاً:
"خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم"، وتحدث سموه عن مأساة الشعب السوري؛ مؤكداً أن الأسلحة الكيماوية، وفوهات البنادق، لا يمكنها أن تقضي على تطلعات الشعب للحرية، وأن معاناة أطفال سوريا أصبحت وصمة عار في جبين المجتمع الدولي..
وتحدث عن قضايا الأمة وشعوبها، مثمناً مواقف ودور الشباب في الوطن العربي، وداعياً إلى فك الحصار عن غزة وفتح المعابر، واختتم خطابه التاريخي بالدعاء قائلاً:
"اللهم اجعلنا من الذين تحبنا شعوبنا، ونبادلها حباً بحب..".
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
حين ننظر إلى المتقاعدين في قطر، لا نراهم خارج إطار العطاء، بل نراهم ذاكرة الوطن الحية، وامتداد مسيرة بنائه منذ عقود. هم الجيل الذي زرع، وأسّس، وساهم في تشكيل الملامح الأولى لمؤسسات الدولة الحديثة. ولأن قطر لم تكن يومًا دولة تنسى أبناءها، فقد كانت من أوائل الدول التي خصّت المتقاعدين برعاية استثنائية، وعلاوات تحفيزية، ومكافآت تليق بتاريخ عطائهم، في نهج إنساني رسخته القيادة الحكيمة منذ أعوام. لكن أبناء الوطن هؤلاء «المتقاعدون» لا يزالون ينظرون بعين الفخر والمحبة إلى كل خطوة تُتخذ اليوم، في ظل القيادة الرشيدة لحضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني – حفظه الله – فهم يرون في كل قرار جديد نبض الوطن يتجدد. ويقولون من قلوبهم: نحن أيضًا أبناؤك يا صاحب السمو، ما زلنا نعيش على عهدك، ننتظر لمستك الحانية التي تعودناها، ونثق أن كرمك لا يفرق بين من لا يزال في الميدان، ومن تقاعد بعد رحلة شرف وخدمة. وفي هذا الإطار، جاء اعتماد القانون الجديد للموارد البشرية ليؤكد من جديد أن التحفيز في قطر لا يقف عند حد، ولا يُوجّه لفئة دون أخرى. فالقانون ليس مجرد تحديث إداري أو تعديل في اللوائح، بل هو رؤية وطنية متكاملة تستهدف الإنسان قبل المنصب، والعطاء قبل العنوان الوظيفي. وقد حمل القانون في طياته علاوات متعددة، من بدل الزواج إلى بدل العمل الإضافي، وحوافز الأداء، وتشجيع التطوير المهني، في خطوة تُكرس العدالة، وتُعزز ثقافة التحفيز والاستقرار الأسري والمهني. هذا القانون يُعد امتدادًا طبيعيًا لنهج القيادة القطرية في تمكين الإنسان، سواء كان موظفًا أو متقاعدًا، فالجميع في عين الوطن سواء، وكل من خدم قطر سيبقى جزءًا من نسيجها وذاكرتها. إنه نهج يُترجم رؤية القيادة التي تؤمن بأن الوفاء ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل سياسة دولة تُكرم العطاء وتزرع في الأجيال حب الخدمة العامة. في النهاية، يثبت هذا القانون أن قطر ماضية في تعزيز العدالة الوظيفية والتحفيز الإنساني، وأن الاستثمار في الإنسان – في كل مراحله – هو الاستثمار الأجدر والأبقى. فالموظف في مكتبه، والمتقاعد في بيته، كلاهما يسهم في كتابة الحكاية نفسها: حكاية وطن لا ينسى أبناءه.
9036
| 09 أكتوبر 2025
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
6702
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
5889
| 14 أكتوبر 2025