رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مع مضي الوقت ومرور الأيام والسنين يجد الإنسان نفسه قد اعتاد على أمور كانت في يوم من الأيام تزعجه أشد الإزعاج أو تحزنه أشدّ الحزن أو تؤلمه أشدّ الألم، فقد يفقد الإنسان عزيزاً لديه أو قريباً له، فيظن أن حياته قد انتهت بموت ذلك الحبيب أو القريب من فرط حزنه وألمه واعتصار قلبه بفراق من يملك حيزاً كبيراً من حبّه واهتمامه، كأمّه أو أبيه أو زوجته أو إخوانه وأخواته أو أبنائه أو أقرب أصدقائه، ولكن ذلك الحزن سرعان ما يخفّ بمرور الزمن ومضي الوقت مع أحداث وشخصيات أخرى تطرأ على حياة الإنسان، فتشغله عن التفكير في فقدِ أولئك الذين كان لا يتصوّر العيش بدونهم! فإذا به يعيش العمر بدونهم ويقضي بقية سنينه في التفكير بأمور حياته، فلا يمرّون على ذاكرته إلا عند تذكّره لهم، فيستعيد في تلك الذكرى أوجاعه وأحزانه.. وقد يشعر بغصّة في حلقه أو برغبة في أن يجهش بالبكاء كالأطفال لفراقهم.. لكنّه ما يلبث أن يعود إلى واقعه فينسى.. أو يقسى قلبه.. أو يبكي على فراشه قبل خلوده إلى النوم أحياناً.. حيث يلتقي بهم ربّما في أحلامه.
هكذا الإنسان سُمّي كذلك وخلقه الله تعالى كذلك لكي يعيش واقعه وحاضره أكثر من ماضيه وأن يتأثّر ويؤثّر ويمضي في الحياة قدماً يستلهم من ذكريات ماضيه هموماً وأحزاناً مخلوطة بشيء من الفرح والسعادة، لا أن يعيش أسير الأحزان والذكريات، فلا يمضي للأمام ولا يعمل ولا يتعلّم، فيصبح كتلة من المشاعر والعواطف السلبية التي تتراكم على النفس والروح، فتجعلها خبيثة يائسة محطّمة بدلاً من أن يصبح كتلة من المشاعر والعواطف الإيجابية التي تحرّك النفس والروح للإنجاز والعمل.. وتحقيق الغاية من الخلق.. "العبادة".
وما يحدث للأحزان والآلام والذكريات يحدث كذلك للمعاصي والمنكرات.. فمتى ما اعتاد الإنسان على رؤية المحرّمات واعتاد على وجودها فإنها تصبح في عقله الباطن أو اللاواعي من الأمور التي تمضي دون إعادة النظر في مشروعيتها ولا في موافقتها لدينه ومعتقداته ومبادئه وفطرته السليمة! فقد يفعل الإنسان المحرّمات أو كبائر الذنوب دون أن يقف عندها لحظة للتفكير ومحاسبة النفس.. بينما تجده يقف كثيراً عند بعض المباحات أو صغائر الذنوب، فيلوم نفسه كثيراً على ارتكابها ويحاسب نفسه عليها بشكل مبالغ فيه! ذلك لأن ميزان الأهمية قد اختلّ عنده وفقه الأولويات قد تعطّل لديه ومقياس المشاعر والعواطف قد تبلّد لديه.
ولهذا نجد أن مجتمعاتنا قد اعتادت الكثير من المحرّمات نظراً لاعتياد وجودها والنظر إليها، ولهذا فإن أي جيل جديد قد ينشأ خالياً من محتوى الإسلام ومن تعاليمه وغاياته الكبرى بعد مرور الزمن، حيث يعتاد هذا الجيل على رؤية غير المحجّبات من النساء مثلاً وأن يعتاد رؤيتهن بل والنظر إليهن دون أن يشعر أو يدرك أن في رؤيته لهن تنهمر عليه السيئات تباعاً ويزداد سواد القلب وتزداد ظلمته بالمعاصي، بل ويتبلّد الإحساس لديه بالتغيير أو "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فيصبح لدينا أجيال ومجتمع يخلو من الإسلام إلا من شكله واسمه وهيئته!
ولقد انتبه أعداء الإسلام إلى ذلك مبكرا جداً وأدركوا حقيقة النفس البشرية التي ترضى وتقبل بالتغيير للأسوأ حتى وإن كان ذلك التغيير يتعارض مع دينها وعقيدتها ومبادئها وأخلاقها بعد أن يبدأ عامل الزمن في توجيه العقل إلى منطقة يغيب فيها التفكير ويتعطّل، فيبدأ الإنسان في تقبل كل شيء في عملية أشبه بالتنويم المغناطيسي ولكنه في كامل قواه ووعيه، ولهذا لا نعجب إذا وجدنا من النساء المسلمات من تتحجّب حجاباً شرعياً لا تكاد ترى منها شعرة واحدة بينما تلبس البنطلون أو الجينز الضيق والملابس العارية لبعض أجزاء جسدها! لأنها اعتادت أن تختزل الحكم الشرعي في ستر المرأة لشعرها فحسب! ولا نعجب كذلك أن نرى من يصافح النساء بعد عملية ترويج "الاختلاط" كمفهوم للمساواة "المزعومة" ولا يجد في بشاعة العقوبة والجزاء رادعاً له عن فعل ذلك الأمر الخطير الذي يراه هيّناً وهو عند الله كبير، (قال صلى الله عليه وسلم: لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له)، وهكذا فإنك قد تجد من يأكل الربا ثم تجده يحرص على صلاة الضحى واستعمال السواك! أو قد تجده ملتزماً بالدين ويدعو إليه، بينما تجده لا يتورّع عن الغيبة والنميمة والفتنة والطعن في العلماء، لأنه يجدها عادة اعتاد عليها منذ نشأته وهو "يلوك" أعراض الناس كما يتعامل مع العلكة في فمه!
وفي أمر اعتياد المنكر.. أذكر أن الناس قد غضبوا كثيراً وتناولوا موضوع دخول بطولة التنس الأرضي للسيدات بالكثير من الغضب والاستهجان والاستنكار، بل إن بعضهم توعّد بالإنكار بمراحله الثلاثة المعروفة "اليد ثم اللسان ثم القلب"، ولكن ما لبث أن اعتاد الناس على تلك البطولات، بل وعلى رؤية أفخاذ النساء عاريات في الكثير من الأماكن لا في تلك البطولة السنوية فقط! فالغضب الجامح هدأ كثيراً مع مرور الوقت، والانفعال والحرقة على الدين ذهبت أدراج الرياح، بل وذهبت معها كل وسائل الإنكار التي لم تعرف الإنكار بالقلب "أضعف الإيمان"! لأن عامل الزمن وخبث المخطط ودهاء المؤامرة قد نجح في عملية التدرّج في المنكرات والمعاصي حتى يقبلها المجتمع وتعتادها العين وتألفها النفوس، والحال نفسه ينطبق على دخول الخمر في خطوط الطيران والفنادق وغيرها من الكبائر والمنكرات الكبرى! وأخشى ما أخشاه أن يتم صرف الناس عن دينهم من خلال عملية "استنساخ" يرضى فيها المسلم بالخمر والربا والزنا وسائر الكبائر والمنكرات ويرضى فيها بالحكم بغير الإسلام أو يرضى فيها بتنحية الإسلام عن الحكم!! ويتعلّق فيها بالقشور وبالمظاهر من الدين والتديّن.. حينها سنصل إلى تلك المرحلة التي يرى الرجل من يزني بامرأة على قارعة الطريق.. فيقول له: "هلّا تنحّيت عن الطريق جانباً"، ثم يكمل طريقه!! حينها.. فلننتظر الساعة إذاً.. ولننتظر قبلها كذلك غضب الله تعالى!
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4602
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3402
| 29 سبتمبر 2025
تجاذبت أطراف الحديث مؤخرًا مع أحد المستثمرين في قطر، وهو رجل أعمال من المقيمين في قطر كان قد جدد لتوّه إقامته، ولكنه لم يحصل إلا على تأشيرة سارية لمدة عام واحد فقط، بحجة أنه تجاوز الستين من عمره. وبالنظر إلى أنه قد يعيش عقدين آخرين أو أكثر، وإلى أن حجم استثماره ضخم، فضلاً عن أن الاستثمار في الكفاءات الوافدة واستقطابها يُعدّان من الأولويات للدولة، فإن تمديد الإقامة لمدة عام واحد يبدو قصيرًا للغاية. وتُسلط هذه الحادثة الضوء على مسألة حساسة تتمثل في كيفية تشجيع الإقامات الطويلة بدولة قطر، في إطار الالتزام الإستراتيجي بزيادة عدد السكان، وهي قضية تواجهها جميع دول الخليج. ويُعد النمو السكاني أحد أكثر أسباب النمو الاقتصادي، إلا أن بعض أشكال النمو السكاني المعزز تعود بفوائد اقتصادية أكبر من غيرها، حيث إن المهنيين ورواد الأعمال الشباب هم الأكثر طلبًا في الدول التي تسعى لاستقطاب الوافدين. ولا تمنح دول الخليج في العادة الجنسية الكاملة للمقيمين الأجانب. ويُعد الحصول على تأشيرة إقامة طويلة الأمد السبيل الرئيسي للبقاء في البلاد لفترات طويلة. ولا يقل الاحتفاظ بالمتخصصين والمستثمرين الأجانب ذوي الكفاءة العالية أهميةً عن استقطابهم، بل قد يكون أكثر أهمية. فكلما طالت فترة إقامتهم في البلاد، ازدادت المنافع، حيث يكون المقيمون لفترات طويلة أكثر ميلاً للاستثمار في الاقتصاد المحلي، وتقل احتمالات تحويل مدخراتهم إلى الخارج. ويمكن تحسين سياسة قطر لتصبح أكثر جاذبية ووضوحًا، عبر توفير شروط وإجراءات الإقامة الدائمة بوضوح وسهولة عبر منصات إلكترونية، بما في ذلك إمكانية العمل في مختلف القطاعات وإنشاء المشاريع التجارية بدون نقل الكفالة. وفي الوقت الحالي، تتوفر المعلومات من مصادر متعددة، ولكنها ليست دقيقة أو متسقة في جميع الأحيان، ولا يوجد وضوح بخصوص إمكانية العمل أو الوقت المطلوب لإنهاء إجراءات الإقامة الدائمة. وقد أصبحت شروط إصدار «تأشيرات الإقامة الذهبية»، التي تمنحها العديد من الدول، أكثر تطورًا وسهولة. فهناك توجه للابتعاد عن ربطها بالثروة الصافية أو تملك العقارات فقط، وتقديمها لأصحاب المهارات والتخصصات المطلوبة في الدولة. وفي سلطنة عمان، يُمثل برنامج الإقامة الذهبية الجديد الذي يمتد لعشر سنوات توسعًا في البرامج القائمة. ويشمل هذا النظام الجديد شريحة أوسع من المتقدمين، ويُسهّل إجراءات التقديم إلكترونيًا، كما يتيح إمكانية ضم أفراد الأسرة من الدرجة الأولى. وتتوفر المعلومات اللازمة حول الشروط وإجراءات التقديم بسهولة. أما في دولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك أيضًا مجموعة واضحة من المتطلبات لبرنامج التأشيرة الذهبية، حيث تمنح الإقامة لمدة تتراوح بين خمس و10 سنوات، وتُمنح للمستثمرين ورواد الأعمال وفئات متنوعة من المهنيين، مع إمكانية ضم أفراد الأسرة. ويتم منح الإقامة الذهبية خلال 48 ساعة فقط. وقد شهدت قطر نموًا سكانيًا سريعًا خلال أول عقدين من القرن الحالي، ثم تباطأ هذا النمو لاحقًا. فقد ارتفع عدد السكان من 1.7 مليون نسمة وفقًا لتعداد عام 2010 إلى 2.4 مليون نسمة في عام 2015، أي بزيادة قدرها 41.5 %. وبلغ العدد 2.8 مليون نسمة في تعداد عام 2020، ويُقدَّر حاليًا بحوالي 3.1 مليون نسمة. ومن المشاكل التي تواجه القطاع العقاري عدم تناسب وتيرة النمو السكاني مع توسع هذا القطاع. فخلال فترة انخفاض أسعار الفائدة والاستعداد لاستضافة بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، شهد قطاع البناء انتعاشًا كبيرًا. ومع ذلك، لا يُشكل هذا الفائض من العقارات المعروضة مشكلة كبيرة، بل يمكن تحويله إلى ميزة. فمثلاً، يُمكن للمقيمين الأجانب ذوي الدخل المرتفع الاستفادة وشراء المساكن الحديثة بأسعار معقولة. إن تطوير سياسات الإقامة في قطر ليكون التقديم عليها سهلًا وواضحًا عبر المنصات الإلكترونية سيجعلها أكثر جاذبية للكفاءات التي تبحث عن بيئة مستقرة وواضحة المعالم. فكلما كانت الإجراءات أسرع والمتطلبات أقل تعقيدًا، كلما شعر المستثمر والمهني أن وقته مُقدَّر وأن استقراره مضمون. كما أن السماح للمقيمين بالعمل مباشرة تحت مظلة الإقامة الدائمة، من دون الحاجة لنقل الكفالة أو الارتباط بصاحب عمل محدد، سيعزز حرية الحركة الاقتصادية ويفتح المجال لابتكار المشاريع وتأسيس الأعمال الجديدة. وهذا بدوره ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني عبر زيادة الإنفاق والاستثمار المحلي، وتقليل تحويلات الأموال إلى الخارج، وتحقيق استقرار سكاني طويل الأمد.
1446
| 05 أكتوبر 2025