رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. ياسر محجوب الحسين

  [email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

474

د. ياسر محجوب الحسين

الأمن الإستراتيجي.. لبن آخر مسكوب

23 ديسمبر 2023 , 02:00ص

ظل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين أكبر المهددات الهيكلية للأمن القومي العربي، ولم تقتصر جرائم الاحتلال على جغرافيا فلسطين المجروحة، بل بقيت يد التخريب والاختراق الأمني تمتد تغطي معظم جغرافيا الوطن العربي لا سيما المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية التي تشكل قواعد أساسيا للأمن القومي العربي. ولعل أخطر مهددات الأمن القومي العربي سلاح القوة الناعمة التي تستخدمه إسرائيل عبر التطبيع الذي حوّل دولا مطبعة إلى دول فاعلة في المجهود الحربي الإسرائيلي وكان هذا قمة النجاح الإسرائيلي في اختراق الأمن القومي العربي. اليوم إسرائيل موجودة بقوة في الحرب الدائرة في السودان الذي يمثل البوابة الجنوبية للوطن العربي عبر وكالائها ومنفذي أهدافها وسياساتها الخبيثة.

بالأمس القريب نصبت البُكائيات في مختلف أرجاء الوطن العربي (حُزنا) على انفصال جنوب السودان، أكبر الدول العربية مساحة وأغناها بالموارد الطبيعية، وبعيدا عن التفاعلات والأسباب الداخلية والتاريخية التي أدت إلى مآل الانفصال، نستطيع القول أن انفصال جنوب السودان كان نتيجة حتمية لخلل هيكلي في الأمن القومي العربي، هذا الأمن المختل أضاع العراق ومن قبله فلسطين ومازالت هناك العديد من المهددات التي تتربص بهذا الوطن الملتاع. يكفي المرء التأمل بحسرة في تفاعلات الأزمة السورية وسرعان ما يصل إلى حقيقة مأساة الوضع العربي، الذي لم يعد مأزوما بعجز القادة على أي فعل إيجابي فحسب، بل بغياب تام عن المسرح إقليميا قبل أن يكون دوليا. فالجامعة العربية أصبحت هيكلا بلا معنى أو مضمون ولا تُحِسّ منها فعلا أَو تكاد تسمع لها ركزًا. لم يفرز الغياب أو الهروب العربي من المسرح السوري تموضع الكبار موسكو وواشنطن فحسب، بل تموضع أيضا لاعبون صغار.

ويتسق ذلك الحال المحزن مع حالة الانشاء والتمنيات التي تسم كل القمم العربية دون أن يتبع ذلك أفعال على أرض الواقع. وجاء في احدى توصيات القمم ما نصه وهو نص يكاد يستنسخ في كل قمة: «التأكيد على مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة العربية جمعاء، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين». فلماذا مصطلح القدس الشرقية فالقدس هي القدس بشرقها وغربها؟!. وتكريسا لواقع الاحتلال الإسرائيلي يطلق مصطلح «القدس الشرقية» على ذلك الجزء من المدينة الذي لم تحتله إسرائيل عام 1948 واحتلته عام 1967، وكان يشكل وقتئذ ما نسبته 16% من مساحة مدينة القدس. أي أن القمة وكأنها تخلت بإرادتها عن 84% من مساحة المدينة والذي أطلق عليه لاحقا اسم القدس الغربية. وبنظرة سريعة لمجهودات الجامعة العربية بشأن قضايا الوطن العربي منذ تأسيسها في 22 مارس 1945، نجد مدى تواضع هذه المجهودات بل ان دورها في ضمور واضمحلال مستمرين. ففي هذا الإطار الزمني توسطت الجامعة في 12 من أصل 20 من الأزمات الإقليمية. كما تدخلت في 5 فقط من 22 حربا أهلية رئيسية. مع الإشارة بشكل خاص إلى أن الجامعة تقف اليوم عاجزة عن أي فعل ايجابي تجاه ما يحدث اليوم في العراق وسوريا واليمن وليبيا.

إن الأمن القومي بمفهومه الشامل يتضمن الجوانب الاقتصادية مثلما يتضمن الجوانب السياسية لكن لم تتحرك المنظومة العربية تجاه السودان بما يكفي بمنظور اقتصادي أمني، بيد أن الخُذلان العربي للسودان في جانبه الاقتصادي يتضاءل ويتواضع جدا أمام الخُذلان السياسي العسكري. من لا يعلم أن دولا عربية دعمت الحركة الشعبية التي قادت التمرد ضد الجيش السوداني والانفصال في نهاية المطاف، دعما عسكريا في فترة من أحلك فترات الصراع فقويت الحركة عسكريا وأستأسدت، فقط لأن تلك الدول لها خلافات سياسية مع نظام الحكم في السودان حينها. لقد أوشك السودان أن يقيم متحفا لانتهاكات شرف الأخوة العربية. هذا المتحف كان سيحتوي على دلائل دعم عدد من الدول العربية للحركة الشعبية، أسلحة ومعدات وأشياء أخرى. على المستوى السياسي كان زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق يجد المنابر السياسية والاعلامية في تلك الدول ليوجّه من خلالها منصاتها رسائله المعادية للعروبة والداعية للانفصال على أساس عنصري.

اليوم يتكرر ذات السيناريو بينما يكتفي الأفضل حالا من العرب بالصمت الآثم. ويقاتل الجيش السوداني مليشيا الدعم السريع التي تنشر الفوضى والتخريب في البلاد ولم يطل أمد الحرب إلا بفضل توالي الدعم الخارجي لها. ذات الجيش السوداني الذي روت دماء جنوده الثغور العربية في سيناء وفلسطين واليمن حيث لازال هناك، هو ذاته الجيش الذي يتفرج عليه جيرانه ويساوونه بمليشيا متمردة متعددة الجنسيات، وهو يخوض ليس معركة الأمن القومي السوداني فحسب، وإنما معركة الأمن القومي العربي. لاشك أن هناك خُلّص في الوطن العربي يسوءهم حال النظام العربي وفي حلوقهم غصة ومرارة، ويشاركون السودان أسفه وحزنه. في الدورة العامة الرابعة والخمسين لمؤتمر الأحزاب العربية الذي انعقد بالمغرب في 2011 وقد جاء شعار هذه الدورة ملائما ومتسقا مع حالة السودان حينها تحت عنوان «نحو مواجهة الفتن الداخلية وأعاصير التجزئة». وكان من ضمن أهم مقررات الاجتماع، اعتبار يوم إعلان انفصال جنوب السودان يوما سنويا باسم (اليوم العربي لمناهضة التجزئة).

إن أهمية السودان للأمن القومي العربي تشمل جميع مجالات ومظان الأمن؛ سياسيا وعسكريا واقتصاديا وحتى ثقافيا. فالسودان يمثل جسرا باتجاهين؛ ناقل للمؤثرات العربية الإسلامية للقارة الافريقية وفي ذات الوقت ناقل للثقافة الافريقية للمجال العربي. وظل أن السودان منذ القدم عبارة عن بوتقة، أو (افريقيا مصغرة). فهذه الخصائص جعلت السودان مؤثرا جدا في المجالين العربي والأفريقي، ويستطيع خدمة التكامل الأفريقي العربي في كافة المجالات وبالضرورة الأمن القومي العربي. فلا تنتظروا أن تبكوا على كوب لبن مسكوب آخر، أم لم تعد هناك مشاعر تحرك الدموع؟!.

مساحة إعلانية