رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مع اقتراب الذكرى الثالثة لاندلاع الثورة التونسية التي فجرت ما بات يعرف بـ"الربيع العربي "، الذي تحول إلى شتاء مظلم، في ظل انعدام تحقيق التحولات الديمقراطية الحقيقية في البلدان العربية التي شهدت سقوط رؤوس الأنظمة العربية مع بقاء البنية التحتية القمعية السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، لتلك الأنظمة، عادت "الثورة المضادة" إلى تونس، وهذه المرة تقودها حركة النهضة الإسلامية التي تولت قيادة حكومة الترويكا المؤقتة بعد انتخابات 23 أكتوبر 2011، ولاسيَّما كتلتها في المجلس الوطني التأسيسي الذي انتخب لمدة سنة واحدة من أجل كتابة الدستور الديمقراطي للجمهورية الثانية في غضون سنة، وفيما بعد يعود النواب إلى بيوتهم، فيما يستمرّ عمل الحكومة المؤقّتة والرئاسة المؤقّتة إلى حين إجراء انتخابات سلطة دائمة رئاسية وبرلمانية.
ولا يكفي أن حركة النهضة لجأت خلال الأشهر الثلاثة الماضية إلى انتهاج إستراتيجية التعطيل للحوار الوطني، بهدف الحيلولة دون تشكيل حكومة كفاءات وطنية تحل محل حكومة الترويكا المؤقتة، التي أثبتت فشلا ذريعاً في إدارة شؤون الدولة التونسية، لاسيَّما في محاربة العنف والإرهاب والاغتيال السياسيّ، ومقاومة الانحدار التاريخي للعجز الاقتصاديّ والتقسيم المجتمعيّ وارتفاع نسبة الكآبة في المجتمع التونسي، وعدم تثوير البحث العلميّ في الجامعات وتالياً تثوير البنى الاقتصاديّة، وتثوير الثقافة، بل إن نواب النهضة أعدوا مؤخرا قانوناً جديداً للأحباس والأوقاف لطرحه على المجلس الوطني التأسيسي، بعد أن اتخذت الدولة التونسية الحديثة في الفترة الفاصلة ما بين 1956 و1958، قرارات غاية في الجذرية الديمقراطية في المجالات المؤسسية والقضائية والثقافية مثل الإلغاء النهائي لمؤسسة الأوقاف والأحباس، وهي من أقوى الهياكل الاقتصادية والمالية التي تعتمد عليها المؤسسة الدينية التونسية ممثلة بالجامعة الزيتونية، وإعلان مجلة الأحوال الشخصية التي تنظم مسائل الزواج والطلاق والتبني والوراثة، وإنهاء دور المجالس الشرعية والمحاكم الدينية المنتشرة في المدينة العربية العتيقة، ومؤسسة الزيتونة التي تحولت بفضل قوانين 1958 إلى مجرد جامع أو مزار سياحي...
فها هي حركة النهضة التي تدعي في خطابها المعلن للغرب أنها مع بناء الدولة المدنية، تكشف بكل وضوح خفايا إستراتيجيتها الباطنية المتمثلة في بناء الدولة الدينية بالتدرج، واستعادة المؤسسة الدينية التقليدية ورموزها الثقافية التقليدية دورها في المجتمع التونسي، عكس ما تعهدت وجاهرت به طيلة المرحلة الماضية، من خلال العودة إلى عملية إحياء مؤسسة الأوقاف والأحباس بعد أكثر من نصف قرن من إلغائها. ذلك أن إعادة سنّ قانون "الأحباس" أو ما يعرف كذلك بنظام الأوقاف يؤكد توجه الحكومة التي تقودها حركة النهضة نحو تكريس "الدولة الدينية" في ظل سيطرة مؤسسات دينية على أملاك كبيرة للغاية، وقد يؤدي ذلك إلى "تقنين" تمويلات للإرهاب!! كما سيؤدي سن قانون الأوقاف والأحباس إلى تغيير نموذج المجتمع التونسي المنفتح على الغرب، والعلماني، وفرض نموذج مجتمعي جديد تسيطر فيه الشريعة الإسلامية، لكي تعبد الطريق لعودة سلطة القرار إلى الجوامع و"فروعها" من مدارس ورياض قرآنية.
من الناحية القانونية، يعني مصطلح "الحُبُس" أن يضع مالك أرض أو ضيعة أو عقار كل "غلّة" أو "منافع" ملكه على ذمة مؤسسة دينية عادة ما تكون جامعا، وهي التي تتصرف في منافع ذلك الملك.. إذ يمكّن قانون الأحباس المزمع سنّه من سيطرة تصاعدية للمؤسسات الدينية على دواليب وشرايين الاقتصاد الوطني ومن ثمّ تتملك رويداً رويدا ًسلطة القرار السياسي؟! وحسب مصادر قانونية أدلت بها لـصحيفة «الشروق التونسية تاريخ 16 نوفمبر 2013 » فإن هناك فرضية أخرى خطيرة للغاية ولا يمكن لأحد "التنبؤ" بعدم تجسيدها وهي أن الأمر سيؤدي إلى "تقنين" تمويل الإرهاب، إذ سيتمتع هذا التمويل بـ"غطاء شرعي" ولا يمكن لأحد مراقبته أو إيقاف نزيفه.
بعد إنجاز الثورة التونسية، وبعد مصادرة محتوى هذه الثورة من قبل الإسلاميين، تستعيد حركة النهضة من جديد الصراع بين المشروعين العلماني والديني، وهو الصراع الذي كان قائماً منذ فجر الاستقلال. وإذا أردنا أن نتعمق أكثر، فالصراع بين السياسي والديني في تونس يعود في الواقع، إلى ثنائية ازدادت متطلباتها ثقلاً بين الدستوريين والزيتونيين، منذ مرحلة الاستعمار، وهو يعكس صراعاً أيديولوجياً وسياسياً بين الحزب الدستوري الجديد بقيادة الحبيب بورقيبة الذي اضطلع بدور قيادي للحركة الوطنية التونسية في مقاومة الاستعمار الغربي، وانتزع الاستقلال، وقام ببناء دولة عصرية، وكان له خطاب سياسي ينسجم أكثر فأكثر مع متطلبات التطور، لمختلف قطاعات المجتمع التونسي، وبين الحزب الدستوري القديم بقيادة عبد العزيز الثعالبي الذي كانت تسانده المؤسسة الدينية التقليدية، المتحالفة تاريخياً مع البرجوازية التجارية التقليدية، بحكم التجانس في الانتماء إلى الفضاء الأيديولوجي التقليدي. ومن المعلوم تاريخياً أن الحركة السياسية التونسية، لم تكن حركة تحرر سياسي فقط، بل كانت تمتلك برنامجاً خاصاً للعمل في المجالين الثقافي والاجتماعي مستندة في ذلك إلى تراث الحركة الإصلاحية التحديثية في تونس منذ عهد خير الدين التونسي، ورائد تحرير المرأة العربية التونسية الطاهر الحداد/ الذي جوبه بعداء شديد من جانب المؤسسة الزيتونية التقليدية، والفئات الاجتماعية المحافظة، والقيم والمبادئ المتخلفة في المجتمع التقليدي.
إن الصراع بين النخبة السياسية الإدارية الحاكمة الحاملة لواء التحديث والعلمنة، والنخبة الزيتونية التقليدية هو صراع مجتمعي، وهو صراع بين مشروع مجتمعي تحديثي علماني يجد مرجعيته السياسية والأيديولوجية في الفكر السياسي البورقيبي المتشبع بالأيديولوجية الثقافية الفرنسية، وبالنزعة التحديثية لكمال أتاتورك، والذي يشكل استمراراً تاريخياً لفكر ونهج خير الدين التونسي السياسي الإصلاحي والتحديثي، حيث إن الإستراتيجية التي تبناها الرجلان السياسيان، سعى كل منهما إلى تحييد معارضة المنشأة الدينية في تونس العاصمة بتضمين وتوريط ممثليها في عملية الإصلاحات المؤسساتية، وتقدم هذه الإصلاحات الأوروبية الإلهام بوصفها أفضل منظومة دفاع للأمة الإسلامية"، وبين مشروع النخبة التقليدية المعارض لمشروع التحديث، والذي تتحكم فيه الرؤية السلفية الماضوية التي تركز على ضرورة العودة إلى قيم السلف الصالح. وهذا الصراع بين المشروعين هو في جوهره يعكس الصراع التاريخي والتقليدي على الصعيد العربي بين الأصالة والتحديث، والحال هذه، وضعية الصراع ليست وضعية خصوصية في تونس، ذلك أن القرن التاسع عشر شهد ظهور الحضارة الأوروبية بثورتها الصناعية وبرجوازيتها القومية، كنمط تأثير على حضارات قديمة: اليابان، الصين، تركيا، مصر، التي كانت تعيش حالات من تراكم التخلف وتبحث عن بدائل ملموسة لمجابهة الانحطاط. كما أن هذا الصراع المجتمعي يعكس صراعاً ثقافياً واضحاً يتمحور حول المؤسسات الثقافية والاجتماعية التي تقود المجتمع المدني والسلطة المرجعية لهذا المجتمع المدني الوليد، الأيديولوجيا العلمانية القومية الكلية للنخبة السياسية الإدارية الحاكمة أم المؤسسة الدينية التقليدية كجامع الزيتونة، ومنابر المساجد والمؤسسات الثقافية.. إلخ.
إن الصراع بين الدولة التونسية الجديدة والمؤسسة الدينية التقليدية يعكس في بعده الثالث صراعاً طبقياً مكشوفاً بين فئات الطبقة الوسطى وتعدد مكوناتها الاجتماعية وشرائحها، الأمر الذي أعطى ميزة جيدة لخطابها السياسي القائم على التعددية والتغاير، وبين البرجوازية التقليدية التجارية المتضررة من الغزو الرأسمالي الغربي والتي حاولت أن تكون أكثر وطنية من الفئات الوسطى، حيث كانت المعارضة اليوسفية هي الممثلة السياسية لهذه البرجوازية التقليدية المهيمنة على المؤسسات الثقافية والسياسية، والتي تتكون من شرائح التجار والحرفيين ومؤسسة العلماء من أئمة ووعاظ وأساتذة. ثم إن الصراع بين المشروع التحديثي ومؤسسة العلماء، يعود في أحد أسبابه إلى التحالف القوي الذي كان قائماً بين المؤسسة الدينية التقليدية والبرجوازية التجارية التقليدية لدعم المعارضة اليوسفية. وقد كان الرئيس بورقيبة مدركاً أن العلماء هم الجهاز الأيديولوجي والدعائي للحركة اليوسفية المتصلة في جوهرها بالهياكل الدينية التقليدية، وهكذا يتضح أن الصراع بين بورقيبة وبن يوسف ليس مجرد صراع سياسي كما تتصوره بعض الأطروحات، إنما هو صراع ثقافي بالدرجة الأولى طالما أنه يطرح إشكالية الأصالة ومكانة الإسلام في المجتمعات المعاصرة التي مسها التحول الرأسمالي.
تعددت نماذج القيادة عبر الأزمان ولكن لسنا بحاجة للرجوع إلى النماذج الغربية للقيادة، فلدينا أعظم مرجع للقيادة يحتذى... اقرأ المزيد
174
| 03 أكتوبر 2025
ليس واحدا أو اثنين أو ثلاثة، بل أربعة دفعة واحدة استشهدوا مع أبناء عمومتهم والجيران، قُصف المنزل على... اقرأ المزيد
117
| 03 أكتوبر 2025
في مشهد تربوي يؤكد حضور اللغة العربية كهوية وانتماء، دشّنت مدرسة الوكرة الإعدادية للبنات يوم الخميس 25 سبتمبر... اقرأ المزيد
198
| 03 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4536
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3387
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1350
| 28 سبتمبر 2025