رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
باعتراف السيد حسن نصر الله - قبل إقرار جميع المراقبين - تعرض حزب الله على خلفية تفجيرات أجهزة «البيجر» اللاسلكية لأكبر عملية اختراق أمنى في تاريخه. وهي ضربة موجعة للحزب بحسب كلام نصر الله بسبب أيضا استهدافها لأكثر من خمسة آلاف من كوادر الحزب ما بين قتيل ومصاب في يوم واحد.
وبعد مرور ساعات قليلة على تفجيرات البيجر، تعرضت ما تسمى «وحدة الرضوان» التابعة للحزب لضربة إسرائيلية أودت بحياة عدد من عناصر الوحدة، ومقتل القيادي البارز «إبراهيم عقيل».
يواجه حزب الله بلا أدنى شك مأزقا غير مسبوق في تاريخه؛ حيث أصبح الرد على إسرائيل أمرا حتميا وجوبيا للثأر لشهدائه، واستعادة مكانته التي اهتزت كثيراً ليس بعد البيجر بل منذ سلسلة الاغتيالات الإسرائيلية لقادة الحزب العسكريين من الصف الثاني والتي توجتها إسرائيل باغتيال فؤاد شكر، وتقويض مستهدف إسرائيل من الحزب التي تسعى بحسب آخر تصريحات مسؤوليها إلى تجريد قدرات حزب الله.
وعلى الرغم من امتلاك حزب الله لقدرات عسكرية كبيرة ومتطورة، خاصة صاروخية قادرة على هز أعماق إسرائيل بعنف وحسم، وتماسك قدراته خاصة البشرية حيث يمتلك أكثر من مائة ألف مقاتل مدربين على خوض المعارك. بيد أن خيارات رد حزب الله أمست شديدة الصعوبة.
في ظل الظرف الحساس الذي يمر به حزب الله، فمن الطبيعي أن يكون أمامه ثلاثة خيارات للرد وهما: عدم الرد بالأساس، أو الاستمرار في خيار الاشتباك العادي، أو الرد الحاسم العنيف.
ونضيف أيضا بصعوبة التكهن بأي خيار من الثلاثة. وعلى كل، فخيار الرد الحاسم سيفضي بلا أدنى مواربة إلى عواقب وخيمة على الأقل على لبنان، وليس بالضرورة إلى حرب شاملة التي توسع الكلام عنها بلا داعٍ. إذ بمجرد بدء الحزب بالرد الحاسم الانتقامي ضد إسرائيل، ستصبح لبنان برمتها في مرمى آلة العنف والتدمير الإسرائيلية الرهيبة كما حدث في 2006.
ولعل المعضلة العويصة التي تواجه الحزب بشأن هذا الخيار هو تأهب إسرائيل لهذه اللحظة ومعها ضوء أخضر أمريكي ظهر جليا بعد تفجيرات البيجر، بل إن كل ما تقوم به إسرائيل ضد حزب الله هو بغرض جره إلى الحرب الواسعة. ويتوقع الحزب شن إسرائيل لحرب على لبنان وجنوبه تحديداً تفوق في شراستها أضعاف حرب 2006 لاسيما في ضوء التغير التام في أسباب الحرب واستعداد إسرائيل لها مقارنة بعام 2006.
على الرغم من طرح الكثير من المحللين لخيار عدم الرد من جانب الحزب وذلك انطلاقاً من حالة الانكشاف والضعف التي تمر على الحزب خلال تلك الفترة، أو استجابة لطلب من إيران في سياق سياسة الهدوء والحذر والصبر التي تتبعها خاصة أمام العواصف العاتية، أو لرغبة حكيمة لتجنيب لبنان أتون نار سيجهز عليه تماما في ضوء الضعف الشديد الذي يعانى منه.
وبغض النظر عن المنطلقات أو أيا ما كانت، فخيار عدم الرد له عواقب شديدة الوطأة على الحزب. فعدم الرد يعني صراحة إقرار الحزب بالهزيمة. وثمة الكثير والكثير من التداعيات الخطيرة جراء ذلك، فمن ناحية سيشجع إسرائيل على الاستمرار في استنزاف وتجريد قدرات الحزب. ومن ناحية أخرى، سيؤدي ذلك إلى إضعاف الروح المعنوية داخل الحزب، ومن ناحية ثالثة ستصبح شعبية ومكانة الحزب على المحك.
في خطاب السيد حسن نصر الله عقب تفجيرات البيجر، قد أقر بلا مكابرة بالضربة المدوية التي تلقها الحزب. لكنه في ثنايا الخطاب قد أكد جازما بالرد وعدم التخلي عن التصعيد في الجبهة الجنوبية وعدم التخلي عن أهل غزة وعدم السماح لإسرائيل باختراق جنوب لبنان بريا.
ويشي ذلك من حيث المبدأ أن خيار عدم الرد مستبعد إلى حد كبير. وفي ضوء العواقب المدمرة للرد الحاسم فهذا الخيار مستبعد بدرجة كبيرة أيضا. إذن ما تبقى هو خيار الاستمرار في قواعد الاشتباك التقليدية التي بدأت منذ طوفان الأقصى.
بيد أن هذا الخيار-رغم تفضيله مرحليا من جانب الحزب-قد بات بلا جدوى، بل يعد رسالة لإسرائيل لاستكمال مخطط التجريد والتصعيد.
في النهاية، يمر حزب الله بفترة عصيبة غير مسبوقة في تاريخه، إذ يواجه خصما يسعى بشتى الطرق إلى جره في حرب مفتوحة ستكون تكلفتها تدمير لبنان برمتها-على الأقل- ومن ثم، فجميع الخيارات المتاحة أمام الحزب لردع إسرائيل بات أصعب من بعض، ويصعب التكهن بواحدة منها.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
يطلّ عليك فجأة، لا يستأذن ولا يعلن عن نفسه بوضوح. تمرّ في زقاق العمر فتجده واقفًا، يحمل على كتفه صندوقًا ثقيلًا ويعرض بضاعة لا تشبه أي سوق عرفته من قبل. لا يصرخ مثل الباعة العاديين ولا يمد يده نحوك، لكنه يعرف أنك لن تستطيع مقاومته. في طفولتك كان يأتيك خفيفًا، كأنه يوزّع الهدايا مجانًا. يمد يده فتتساقط منها ضحكات بريئة وخطوات صغيرة ودهشة أول مرة ترى المطر. لم تكن تسأله عن السعر، لأنك لم تكن تفهم معنى الثمن. وحين كبُرت، صار أكثر استعجالًا. يقف للحظة عابرة ويفتح صندوقه فتلمع أمامك بضاعة براقة: أحلام متوهجة وصداقات جديدة وطرق كثيرة لا تنتهي. يغمرك بالخيارات حتى تنشغل بجمعها، ولا تنتبه أنه اختفى قبل أن تسأله: كم ستدوم؟ بعد ذلك، يعود إليك بهدوء، كأنه شيخ حكيم يعرف سرّك. يعرض ما لم يخطر لك أن يُباع: خسارات ودروس وحنين. يضع أمامك مرآة صغيرة، تكتشف فيها وجهًا أنهكته الأيام. عندها تدرك أن كل ما أخذته منه في السابق لم يكن بلا مقابل، وأنك دفعت ثمنه من روحك دون أن تدري. والأدهى من ذلك، أنه لا يقبل الاسترجاع. لا تستطيع أن تعيد له طفولتك ولا أن تسترد شغفك الأول. كل ما تملكه منه يصبح ملكك إلى الأبد، حتى الندم. الغريب أنه لا يظلم أحدًا. يقف عند أبواب الجميع ويعرض بضاعته نفسها على كل العابرين. لكننا نحن من نتفاوت: واحد يشتري بتهور وآخر يضيّع اللحظة في التفكير وثالث يتجاهله فيفاجأ أن السوق قد انفض. وفي النهاية، يطوي بضاعته ويمضي كما جاء، بلا وداع وبلا عودة. يتركك تتفقد ما اشتريته منه طوال الطريق، ضحكة عبرت سريعًا وحبًا ترك ندبة وحنينًا يثقل صدرك وحكاية لم تكتمل. تمشي في أثره، تفتش بين الزوايا عن أثر قدميه، لكنك لا تجد سوى تقاويم تتساقط كالأوراق اليابسة، وساعات صامتة تذكرك بأن البائع الذي غادرك لا يعود أبدًا، تمسح العرق عن جبينك وتدرك متأخرًا أنك لم تكن تتعامل مع بائع عادي، بل مع الزمن نفسه وهو يتجول في حياتك ويبيعك أيامك قطعةً قطعة حتى لا يتبقى في صندوقه سوى النهاية.
6102
| 26 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4479
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3336
| 29 سبتمبر 2025