رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
جاءت آخر الأخبار تقول إن الجيش الإسرائيلي أطلق الرصاص على وفد من الدبلوماسيين حل بمخيمات جنين للتحقيق في وضع اللاجئين الفلسطينيين وهو ما أدانته عديد الدول الغربية الى درجة سحب سفرائها من إسرائيل وإيقاف الشراكة الأوروبية الإسرائيلية ومن جهة ثانية تم قتل اثنين من موظفي سفارة إسرائيل بواشنطن بسلاح رجل غير عربي صرخ وهو يطلق النار: «الحرية للشعب الفلسطيني لا للمجازر» هذه بعض تفاصيل جديدة من الأزمات التي تواجهها الدبلوماسية القطرية بأخلاقها والتمسك بالشرعية الدولية وهو ما حلله معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في كلمته أثناء افتتاح المنتدى الاقتصادي العالمي الذي نظمته دولة قطر هذه الأيام لشرح ما أسميه فلسفة السياسة الخارجية القطرية التي يرعاها ويوجهها حضرة صاحب السمو أمير الدولة حفظه الله وكان سموه حاضرا يشرف المنتدى ويرعاه بحضوره. وحلل معالي رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية مواقف قطر من شتى الأزمات الإقليمية والدولية ومرتكزاتها الأخلاقية والمبدئية والشرعية الأممية التي تحركها وتعزز فاعليتها في حل مختلف القضايا المعقدة وقال معاليه:» نلتقي اليوم وعالمُنا يتخبطُ في التحديات والأزمات. فما كاد يَتعافى من جائحة كوفيد-19 حتى وجدنا أنفسَنا في مواجهة حروبٍ تُلقي بظلالها الثقيلة على تفاصيلِ حياتنا وتدور رحاها في مختلف أنحاء العالم... الحرب الروسية الأوكرانية في أوروبا والأزمة السودانية في إفريقيا... وأحدثُ فصولِها تجري الآن في قطاع غزة حيث تفاقمت الأزمة الإنسانية لتحصد الحرب أرواحَ آلاف الضحايا من الأطفالِ والنساءِ والشيوخ الأبرياء.
ومع أن دولة قطر كانت في مقدمةِ مَنْ حذروا مِن خطرِ تمددِ هذه الحرب نحو مناطق أخرى في الإقليم إلا أن العالم بأكملهِ فشلَ في منعِ ذلك وتمددت المواجهات حتى البحر الأحمر مما هدد الملاحة الدولية وزاد من مصاعب التجارة العالمية التي تعاني أصلاً.
وأضاف معاليه:» إن التحديات المتعددة الناجمة عن هذه الأزمات المتعاقبة تفرض على الدول العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية حيث إن ذلك يساهم في خلق واحات للاستقرار...وهذا ما تمّكنت دولة قطر من تحقيقه بقيادة وحكمة سيدي حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني- حفظه الله- التي تجسدت في «رؤية قطر الوطنية 2030”، وهو ما مكّن البلاد من اجتياز تحديات جمّة وصولاً إلى المرونة التي تُميز الاقتصاد القطري وتضعه في موقع تنافسي على المستوى العالمي وكفاءة الاستثمار في الثروات الطبيعية والطاقات البشرية.
وبفضل الله تعالى واصل الاقتصاد القطري تحقيق المؤشرات الدالة على ثباته وازدهاره، فقد حقق الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة لغاية الربع الثالث من 2023 نمواً بنحو 1.6%... وتزامن هذا النمو مع تحسن مؤشرات الاستقرار المالي مع تبني الحكومة خطةً مالية مرنة تجاه التقلبات في أسعار الطاقة. وشرح معاليه كيف تتصور قطر آخر مراحل «رؤية قطر الوطنية 2030»، قائلا:» سوف تواصل الحكومة العمل لاستكمال وتعزيز اقتصاد قطري متنوع مدفوعٍ بمبادرات القطاع الخاص المحلي والأجنبي ومدعومٍ بسلسلة من الإصلاحات التنظيمية والحوافز الاستثمارية ومؤهلٍ لتبوؤ مرتبة متقدمة بين أفضل 10 دول من حيث بيئة الأعمال.
كما أكد الشيخ محمد بن عبد الرحمن أن قطر تسير نحو تحولٍ رقمي شامل من خلال الاستثمار أكثر في مجالات التكنولوجيا والابتكار والذكاء الاصطناعي ولأجل ذلك خصصت الدولة حزمةَ حوافزٍ بقيمة 9 مليارات ريال قطري. وفي سبيل تحقيق ذلك تستضيف دولة قطر ولأول مرة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا مؤتمر قمة الويب وعلى هامش هذه القمة تم إطلاق مشروع «إبدأ في قطر»، حيث تم تسجيل أكثر من 250 شركة ناشئة.
وفي نفس السياق أعلن معاليه عن مشروع إطلاق الذكاء الاصطناعي العربي «الفنار» والذي سيعتمد بشكل أساسي على جمع بيانات إعادة الجودة باللغة العربية والذي سيسهم بدوره على اثراء النماذج اللغوية الكبيرة والحفاظ على الهوية العربية. مشددا على أن الحكومة تواصل استثمارها في مجال الطاقة وبحلول عام 2030، وبفضل مشروع توسعة حقل الشمال ستكون قطر قد أكملت توسعتها في إنتاج الغاز الطبيعي المسال مما سيرفع إجمالي الإنتاج إلى 142 مليون طن سنوياً...
وأضاف قائلا:» كلنا فخر بأن دولة قطر أصبحت منارة للفرص الاقتصادية للكثيرين ويسعى إليها المستثمرون من أنحاء العالم... وتوفر الأساس الاقتصادي للنجاح الذي يمكن أن ينهض بالمنطقة حتى يتمكن الجميع من التمتع بهذا الرخاء مختتما كلمته بالتعبير عن الأمل بقدرةِ شعوبِنا على تخطي التحديات التي تواجهنا وفي قطر كلنا عزمٌ على إحداثِ التغييرِ لتأسيس مستقبلٍ أفضلَ لنا جميعاً...
نتطلع إلى رؤية الفرص الاستثمارية الجديدة من خلال منصة هذا المنتدى. هذه بعض التفاصيل التي شرح بها معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن ريادة قطر للتحول العالمي الرقمي بواسطة فتح افاق الاستثمار في الرقمنة وجعلها المحرك الجديد للاقتصاد والتعاون الاستثماري والتجاري بين الدول في عالم لم يعد ينعم كما كان باستقرار أمني واستراتيجي تقليدي ألفناه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 الى اليوم حيث كنا نؤمن جميعا أم ما يسمى «النظام العالمي» والذي تقوده القوى الغربية المنتصرة على النازية الهتلرية والفاشية الموسولينية الإيطالية والهيمنة الإمبراطورية اليابانية.
نعم كنا نحسب أن ذلك النظام دائم مستمر لن يتزحزح عن خدمة رواده أي الولايات المتحدة وأوروبا بينما يقبع جميع سكان القارات الإفريقية والأسيوية وأمريكا الجنوبية في المقاعد الخلفية لمسار التنمية.
لكن العالم فوجئ بتغيير جذري في التحالفات والشراكات المعروفة قديما مما يضطرنا جميعا الى التفاعل الإيجابي مع الوضع الجديد وكما سمعنا مقدمة معالي الشيخ محمد بن عبد الرحمن فإن دولة قطر لا تفقد لا مبادئها ولا التزاماتها بالقانون الدولي الذي أقرته منظمة الأمم المتحدة وهو الأعدل والأرقى مهما تغيرت النظم التقليدية. ولنلق نظرة على توسع حركات رفض مجازر الكيان المحتل لفلسطين الى أوروبا نفسها حيث أعلن مجلس الاتحاد الأوروبي قراره بإيقاف العمل باتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية ومطالبته بوقف حرب الإبادة حالا والاعتراف بدولة فلسطين.
ثم تأمل يا قارئي العزيز في تصريحات (أولمرت) رئيس الحكومة الأسبق حين قال «إن ممارسات جيشنا تقترب من جريمة حرب» وكذلك تصريح رئيس الحزب الديمقراطي الإسرائيلي (يائير غولان) الذي قال في الكنيست الثلاثاء الماضي «إن ما يقوم به ناتنياهو يوصم دولتنا بالعار ويندى له جبين الإنسانية بل إني أعتبر ناتنياهو إرهابيا وبلادنا ستكون منبوذة مثلما كانت جنوب افريقيا من قبل» نعم تغير الرأي العام العالمي من تأييد مطلق الى نبذ كيان لا يقيم وزنا لا للأخلاق ولا لأرواح الأبرياء ولا ننسى أن فضائية الجزيرة بقنواتها العديدة هي الرائدة في إنجاز هذا التغيير.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4557
| 29 سبتمبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
3387
| 29 سبتمبر 2025
بعض الجراح تُنسي غيرها، ليس بالضرورة أن تكون أعمق، لكن الوجدان لا يتحمل كل هذه الأوجاع. في الوقت الذي نقف في قلب الحسرة ونحن نطالع ذلك الجرح النازف في غزة دون أن نستطيع إيقاف نزفه، يتملكنا الشعور أحيانًا بأنها المأساة الوحيدة في أمتنا وذلك من فرط هولها وشدتها، ويسقط منا سهوًا الالتفات إلى مصائبها الأخرى، تأتي أزمة السودان في صدارة هذه المآسي. أوجاع السودان كثيرة ومتعددة، كلها بحاجة لأن تكون حاضرة دائما في الوجدان العربي الإسلامي، لكن أولاها في الوقت الراهن مأساة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، التي تخضع منذ العاشر من يونيو/حزيران 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع للضغط على الجيش الوطني السوداني. سكان مدينة الفاشر يفتك بهم الجوع والقصف المدفعي اليومي الذي يحول دون دخول المساعدات الإنسانية، في ظل ضعف التعاطي العربي مع القضية وتجاهل دولي تام لهذه المأساة، على الرغم من أنها تقترب من الإدراج في صفحات الإبادة الجماعية. قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) التي تحاصر الفاشر، تسيطر على أربع ولايات من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور، لذا تقصف بوحشية مدينة الفاشر عاصمة الولاية الخامسة (شمال دارفور)، التي تمثل أكثر من نصف مساحة الإقليم وتعادل حوالي 12 بالمائة من مساحة السودان، وذلك بهدف إتمام السيطرة على الإقليم بأسره. إضافة إلى الوضع الكارثي للمدنيين في الفاشر بسبب الحصار والقصف الهمجي، ينذر سقوط الفاشر ووقوعها بقبضة ميلشيات الدعم السريع، بكارثة عظمى للسودان بشكل عام. الفاشر ليست مدينة عادية في أهميتها، فهي مفتاح السيطرة على مساحات إستراتيجية واسعة تصل إلى حدود تشاد وليبيا، وهي كذلك تقع على الطرق المؤدية بين شرق وغرب السودان، بما يعني أن سيطرة قوات الدعم عليها سيحول دون قيام دولة مركزية، وفرض واقع عسكري يتحكم في جغرافيا المنطقة، إضافة إلى أن السيطرة عليها ستؤمن لقوات الدعم ممرات تهريب الأسلحة. سيطرة قوات حميدتي على الفاشر يؤمن لها كذلك خطوط الإمداد ويقوي شوكتها ويجعل الولاية مركزا لمهاجمة الولايات الأخرى والسيطرة على المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوداني. لذا نستطيع الجزم، بأن الفاشر هي آخر الخطوط الفاصلة بين سودان موحد وسودان مجزأ، ولن يكون مجرد سقوط مدينة، بل انهيار وحدة الدولة السودانية، والذي سيتحول إلى شمال مركزي تحت سيطرة الجيش، وغرب تحت سلطة الميلشيات، وشرق تتجاذبه الانقسامات والنزعات القبلية، وجنوب منهك مهمش. إذا سقطت الفاشر، فإن الخطورة ستتجاوز حينئذ القتال بين الجيش وميليشيات الدعم، فمن أخطر تداعيات سقوط الفاشر – لا قدر الله - انفجار الصراع الإثني في السودان الذي يكتظ بالتنوع الإثني والقبائل المسلحة مختلفة الولاءات، لأن هذا البلد يرقد على بركان تسليح الهوية، وفي هذه الحال سيمتد الصراع الإثني بلا شك إلى الدول المجاورة. الدول العربية، والدول المحيطة بالسودان وعلى رأسها مصر، منوطة بالعمل الفوري الجاد على منع سقوط الفاشر والذي يعني تفتيت وحدة السودان وما له من تداعيات على الجوار، وذلك عبر مسارين، الأول هو كسر هذا الحصار على المدينة وإدخال المساعدات، والثاني تقدم الدعم العسكري واللوجستي للجيش السوداني المنهك لفرض سيطرته التامة على ولاية شمال دارفور ومنع سقوطها في أيدي حميدتي، والضغط كذلك على الدول والجهات التي تدعم ميلشيات الدعم السريع المتمردة. وعلى المستوى الشعبي، يتعين على نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي وضع مأساة الفاشر والملف السوداني بشكل عام في بؤرة الاهتمام، وتسليط الضوء على الأحوال الكارثية التي يعانيها أهل المدينة، وأهميتها الإستراتيجية وخطورة سقوطها في أيدي قوات الدعم على وحدة السودان، لتكوين رأي عام عربي ضاغط على الأنظمة والحكومات العربية لسرعة التدخل، إضافة إلى لفت أنظار الشعوب الغربية إلى هذه المأساة لإحراج حكوماتها والعمل على التدخل الفوري لإدخال المساعدات الإنسانية.
1350
| 28 سبتمبر 2025