رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

أ.د. نظام عبدالكريم الشافعي

أستاذ الجغرافيا غير المتفرغ
جامعة قطر

مساحة إعلانية

مقالات

888

أ.د. نظام عبدالكريم الشافعي

غزة الأبية الصامدة: بشارات النصر

23 يناير 2025 , 02:00ص

غزة الأبية ذات الجغرافيا الصغيرة في كل مظاهرها، من ارض لا تزيد مساحتها على 130 ميلا مربعا وبأرض سهلية خالية من الهضاب والجبال العاتيات، والمحاصرة منذ عقود من البر والبحر والسماء، وبتكدس بشري كثيف بعدد يفوق 2.5 مليونا، ثلثهم من لاجئي النكسة عام 1948 وهم يعيشون أحلك الظروف المعيشية. ولكنهم لم ييأسوا جيلا بعد جيل، حيث يحتفظ معظمهم بمفاتيح بيوتهم يوم ان اغتصبها المحتلون، وصادروها وأرهبوهم وهجروهم. ولكن تكمن قوتهم بأنهم مؤمنون ومتيقنون بنصر سيأتي من حيث لا يدركه الغزاة المستعمرون، صامدون على الرغم من المآسي، وهم أهل غزة من أجبر العدو المتغطرس مرارا على الانسحاب والاعتراف بقوتهم وهيبتهم في أعوام عديدة سابقة.

وفي فجر السابع من أكتوبر 2023، وكما وعد الفلسطينيون الاحرار، بأن العدو لن يهنأ في أرضنا، لأن الأرض أرضنا والمقدسات مقدساتنا، وقد جبلنا من عهد قديم وحتى في أحلامنا، أن نحميها وننشر فيها السلام كعادة المسلمين في كل ديار العرب بعد سقوط الأندلس، في تعاملهم مع السلميين من كافة الطوائف بما فيهم اليهود، حتى أولئك العشرة في المائة من سكان الأرض في بداية القرن العشرين. ولكن الغدر ونكران الجميل له من النتائج المؤلمات على من بدأنا به، فلا ينفع البكاء حينها.

وهذه نماذج من الصور من ارض الميدان الأبية، شاهدها العالم أو سمعها، كانت بشارات بالنصر، ولكن العدو بجبروته أطال أمد الحرب على الرغم من تحليلات مؤازريه من الخبراء العسكريين، ولكن الله أعمى بصيرتهم وأصم آذانهم وكأنما فيها وقر، فكانت خسائرهم أكبر.

فالبشارة الأولى نطق بها ذلك الجندي الإسرائيلي يستصرخ قائده بأن يخرجه من المأزق «انا لا اريد ان اموت، هؤلاء وحوش لقد رأيت صديقي يقتل امام عيني لا اريد. لا نستطيع هزيمتهم وانا اريد مغادرة البلاد فورا، لا أستطيع رؤيتهم، هؤلاء وحوش، لا أستطيع رؤيتهم اخرجني. إنك لا ترى يا سيدي ما اراه، نقاتل اشباحا نحن لا نستطيع حتى نتقدم بالدبابات». وآخرون كثر من الذين هزموا من قبل أن يخوضوها، وزرع في قلوبهم الرعب فريقا تأسرون وتقتلون فريقا.

والثانية ذلك الهروب الجماعي خارج الدولة بمئات الآلاف كما ذكرت وأكدت وسائل الاخبار المرئية، هاربين إلى دولهم التي جاؤوا منها وما زالوا يحملون جنسياتها، وعلامات الهلع واليأس بأن الأرض الموعودة لم تعد آمنة كما وعدوا بها، وذلك على الرغم من الحالة غير الآمنة والمتردية التي بدأ يعيشها مطار بن جوريون. وأجزم بأن أكثر المتفائلين لا يظنون بأنهم سيعودون حيث أنهوا انشطتهم الاقتصادية وأغلقوها دون عودة. وكذلك هروب الرأس الأكبر وشيطانهم، وقد كان قاب قوسين او أدنى من ان يرمى ويفنى، مهرولا إلى الغار، وكان قد تبجع بأنه سيقضي على حماس دون رجعة، ففشل أيما فشل وبدأت سهام المجرمين من أتباعه تترصده وتكيل إليه الاتهامات، وعما قريب سيقضون عليه وقد خاب.

وبشارة ثالثة تكمن في تهشم وتحطم وتفلت محاولات بناء الميناء الأمريكي ورصيفه العائم بغرض التهجير القسري الذي وصفوه بأنه عمل انساني، ولم تقو الدولة العظمى بعدتها وعتادها لبناء هذا الجسر البحري لتحقيق فكرة مشروع القرن بتهجير أهل غزة، فقد تدخلت الأمواج وهي من جند الله فحطمت أحلامهم قبل أن تبدأ وأبكتهم وكسرتهم وأزاحت ما بنوه بسوء نية مكراً منهم، ولكن من علوهم مكر الرب بهم وهو خير الماكرين، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى. ففشل مشروع القرن، فقد تغدى المقاومون المطلعون على أجندات العدو ومن والاهم من خلال تتبع مشاريعهم بإخلاء أرض غزة من أهلها كما حدث في اربعينيات القرن العشرين، ومن أحسن الظن بالله رأى العجب العجاب.

أما البشارة الأخرى التي تم رصدها فهي قتال التواقين الأشداء إلى النزال دون رهبة من بين أنقاض المنازل والمستشفيات المدمرة والمدارس على ساكنيها ومرضاها وأطبائها، ومن نقطة الصفر وإخراجهم لجنود العدو من دباباتهم، والتمكن منهم ومن معداتهم المتروكة كغنائم وذخائر. فنفس الشريف هكذا، لا تهاب وقد باع الجميع أنفسهم في معركة مقدسة، فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدى.

** وختاما، وثقة بالله، أظنها الحرب قبل الأخيرة قبل أن يندثر الكيان قريبا، وكما توقعها شيخ الشهداء أحمد ياسين، وخاصة إن ظهر من بين الأعداء المعارضين لاتفاقية الهدنة من يلبس رداء الحرب ولم يع الدرس، ملمحا التهديد والوعيد، بأن المعركة لم تؤت ثمارها، وإننا سنعود، ظانين بأن المجاهدين قد ضعفوا واستكانوا بل سيكونون لهم بالمرصاد.

ومبرراتي كجغرافي في تحليل عوامل ضعف وقوة الأمم، هي أن الجيل الحالي من المقاومين الفلسطينيين التواقين لقيادة الصفوف يختلفون عن الاولين، فلم ينخدعوا بالدغدغة الإمبريالية والوعود الكاذبة وحب الدنيا، وثانيه أن الوضع الجيوسياسي العالمي قد تغير منذ الحرب العالمية الثانية وظهرت قوى بدأت تستشعر خطورة الوضع غير الطبيعي في المنطقة المؤثرة في السلم العالمي، وثالثها الوعي الشعبي العالمي بسبب الإعلام الجديد وسرعة نشر الخبر عبر وسائل محايدة، وآخرها وهو الأهم بنتائج طوفان الأقصى التي زعزعت الكيان من الداخل سياسيا واجتماعيا وماليا واقتصاديا وفكرا ومنهجا وادراكا، فالانكسار الحاد الكلي لمكونات الدولة يحتاج زمنا لكي يلتئم.

وفي المقابل امتداد الجيل المؤمن بقضيته والظلم الذي وقع عليه والمؤمن بخالقه الذي وعدهم بالنصر ولو بعد حين مع الأخذ بالأسباب، فلم ييأسوا ويتركوا أرضهم وهم مؤمنون بإله الكون الواحد بكل صفاته كما تبين لنا، من الميدان محاربون والجمع الغزاوي المبارك، ولا نزكي على الله أحدا. وهم على عكس أعدائهم الذين آمنوا بالله ولكنهم ألبسوه بظلم في صفاته، فأنى لهم التمكين مهما علت تلاواتهم. فطوفان الأقصى سيصبح فصلاً في كتب تاريخنا وجغرافيتنا يدرس مهما حاولوا محو الجميل من حياتنا، فأبناؤنا في شوق لمثل هذه المفرحات المبهجات.

مساحة إعلانية