رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
عند التطرق في مدلول الديمقراطية في الدستور القطري يجب أن نأخذ بالآتي: أولاً: الأخذ بمبدأ أن السيادة للشعب: وهذا ما نصت عليه المادة (59) من الدستور، عندما تكون السيادة في الدولة (لفرد) نستطيع هنا أن نقول أن الحكومة مطلقة.
وعندما تكون السيادة في الدولة (للجماعة) تسمى حكومة الأقلية.
أما اذا كانت السيادة في الدولة للشعب وهو مصدر السلطات عندئذ تكون الحكومة ديمقراطية، أي أن ارادة الشعب هي العليا، فلا تعلو عليها إرادة أخرى داخل الدولة.
لذا.. نرى أن الدستور القطري أخذ بالنظام الديمقراطي والذي يخضع لسيادة القانون، وهذا ما أكدته المادة الأولى من الدستور أن: "نظام الحكم في دولة قطر ديمقراطي، السيادة فيه للشعب هو مصدر السلطات جميعاً، وتمارس هذه السيادة على الوجه المبيّن في الدستور".
وهذا ما بينته المذكرة التفسيرية أن: "النظام الأميري الديمقراطي أساس الحكم بكل ما يترتب على مشاركة الشعب في اتخاذ القرار في الحياة العامة عن طريق ممثليه في مجلس الشورى".
ثانياً: مبدأ المساواة: سواء كان نظام الحكم في أي دولة اشتراكياً أو رأسمالياً، فلا وجود للديمقراطية إلا على أساس المساواة بين جميع أفراد الشعب، وهذا المبدأ الذي أقره ديننا الإسلامي الحنيف، وأيضاً الكتب السماوية الأخرى والتي حرفت فيما بعد بالطبع، وفي نظريات العقد الاجتماعي والقانون الطبيعي.
قال تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ".
وهذا ما نصت عليه المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان "بإن الناس ولدوا ويظلون أحراراً متساوين في الحقوق".
وحيث إن الإعلان العالمي الصادر عن الأمم المتحدة قرر بأن"يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق " وتترتب على هذه المساواة المدنية الآتي: ١) المساواة أمام القانون: وهو مانصت عليه المادة (35) من الدستور حيث تساوي بين الناس جميعاً.
وكما جاء بالمذكرة التفسيرية "بأن الناس سواسية كأسنان المشط لذلك حظر الدستور القطري التمييز بين الناس بسبب أصولهم أو جنسهم، فساوت بين الناس في: الحرية الشخصية -الكرامة الانسانية- وعدم جواز القبض على الناس، أو حبسهم أو تفتيشهم أو أي تقييد لحريتهم إلا وفق القانون.
كما أن المادة (18) والمادة (19) من الدستور جعلت المساواة دعامة من دعامات العدل والإحسان والحرية والمساواة والأمن والاستقرار.
2) المساواة أمام المصالح والمرافق العامة: وهذا ما نصت عليه المادة (19) من الدستور "بإقرار تكافؤ الفرص بين المواطنين".
وأيضاً ماجاء بالمادة (28) من الدستور "بكفالة الدولة حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية وتحقيق الرخاء للمواطنين ورفع مستوى معيشتهم وتوفير فرص العمل لهم".
وأكمل الدستور مساواته أمام الوظائف العامة بنص القانون.
وقد يدعو ذلك للتحدث عن نقطة غاية في الأهمية وهي: - إيديولوجية النظام القطري: عندما قام المشرع بوضع الدستور القطري وتحديد مكان المجتمع القطري وما يرونه متفقاً مع ظروف دولة قطر الاقتصادية والاجتماعية، فإن تحديد الفلسفة الاقتصادية التي وجهها واضعو الدستور القطري عند تقرير الأحكام الأساسية بتحديد مكان المجتمع القطري من الاقتصاديات العالمية المختلفة، فلا بد أن نعرف بدايةً موقف الدستور القطري من هذه التيارات والأمواج المتلاطمة.
أولاً: ما هو المذهب الفردي الحر: هذا المذهب يجعل من الفرد غاية التنظيم الاجتماعي ويعلو من قيمته، والفرد هو أساس المجتمع، والدولة ماهي إلا وسيلة لإسعاده وحماية حقوقه.
وقد تمت الإشاره لهذا المذهب من قبل ابن خلدون، وارم سميث، وأصحاب مدرسة مانشستر.
لذلك.. نرى أن من خصائص هذا المذهب: - إن الفرد هو أساس المجتمع - تقدس فيه الملكية الفردية - الاقتصاد في هذا المذهب هو تحقيق الربح الفردي والبحث عنه.
- يمنع هذا المذهب الدولة من التدخل في حرية الأشخاص أو تنظيم نشاطهم الاقتصادي.
- يقتصر دور الدولة على الوظائف العامة فقط وإحلال الأمن.
لذلك.. سوف نأخذ أهم المبادئ التي يرتكز عليها المذهب الفردي الحر: ١) الملكية الخاصة: وهو ما نصت عليه المادة الثانية من إعلان حقوق الإنسان.
وقد نصت المادة (26) من الدستور القطري على: "الملكية ورأس المال والعمل مقومات أساسية لكيان الدولة الاجتماعي وهي جميعها حقوق فردية".
ونصت المادة (27) "أن الملكية الخاصة مصونة، فلا يحرم أحد من ملكه إلا بسبب المنفعة العامة".
ونصت المادة (28) من الدستور "أن الدولة تكفل حرية النشاط الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية".
ونصت المادة (31) من الدستور "أن الدولة تشجع الاستثمار وتعمل على توفير الضمانات والتسهيلات".
- جميع هذه المواد في الدستور القطري أخذت بالمذهب الفردي الحر فيما يتعلق بالملكية الخاصة.
٢) حرية إقامة المشروع: وهي حرية إنشاء المؤسسات والمشاريع الاقتصادية، وحرية إدارتها من قبل الأفراد، وأيضاً تحديد الأجور دون أي تدخل من قبل الدولة.
٣) حرية التداول: كنتيجة حتميه لحرية التملك، وحرية المشروع، فلا شك أن تأتي بعدها حرية التداول التجاري والمنافسة التجارية بعيداً عن تدخل الدولة في ميدان النشاط والعمل، أو التخطيط أو الجودة، وتترك الأمور للقوانين وللعرض والطلب، فالمؤسسات التجارية حرة في التصرف، والمستهلك هو صاحب القرار والاختيار، وتكون هنا وظيفة الدولة مراقبة الأسعار والمقاييس والسلامة والأمن ومصلحة المجتمع والصالح العام.
ثانياً: المذهب الاشتراكي: هناك من الدول من يتبنى هذا المذهب، وإذا سلمنا أن الشيوعية الماركسية أو الاشتراكية هي نتيجة أفكار ماركس وإينجلز، وطورها كل من لينين وستالين، إلا أن المذهب معقد فلسفياً بمفهومها العلمي وجوانب المجتمع والإنسان فيها.
وبعيداً عن التعمق في هذا المذهب، فالذي يهمنا من الأمر الآتي: ١) الجانب الاقتصادي للمذهب الاشتراكي: اهتم ماركس بتحليل الأسباب الاقتصادية للصراع بين الطبقات، حيث يرى أن كل عقيدة سياسية هي وسيلة لمكافحة الاضطهاد والظلم.
وتسهيلاً على القارئ.. فإنه إذا كان نظر الليبرالية أن الظلم هو ظلم سياسي ناتج عن التركيبة الملكية والارستوقراطية للدولة، فإن الظلم في نظر الماركسية هو ظلم اقتصادي متمثل في الإنتاج والملكية الخاصة.
- لذا.. لا يرى هذا المذهب غير القيمة الجماعية، والمصلحة الجماعية عنده فوق كل اعتبار.
- يناهض الملكية الخاصة العداء ويدعو إلى إحلال الملكية الجماعية محلها.
- الهدف من هذا المذهب إشباع الحاجات الجماعية.
- ينادي بضرورة تدخل الدولة لتنظيم جهود الأفراد وتوجيه الاقتصاد.
- يمتلك هذا المذهب الوظائف والمصانع والشركات والمحلات، فالملكية الخاصة لديه معدومه.
وعندما أخذ الدستور القطري بالمادة ( 29 ) والتي فيها جانب من الفكر الاشتراكي حاله في ذلك حال معظم الدول العربية، حيث نصت المادة على أن: "الثروات الطبيعية ومواردها ملك للدولة تقوم على حفظها وحسن استغلالها".
وقد كيفتها المذكرة التفسيرية "أن الثروات الطبيعية التي حبا الله بها الدولة هي العصب الأساسي للتنمية والرخاء، وأن الدولة مسؤولة عن المحافظة عليها من أجل الحاضر والمستقبل، وأنها بمثابة المال العام وتتمتع بالحماية الجنائية.
- ترى الماركسية أنه ما دامت وسائل الإنتاج ملكية خاصة لفئة من الناس، فإن الصراع بين الطبقات سوف يدوم، وما دامت الحريات العامة حريات شكلية لا يستطيع ممارستها إلا من يملك المال الذي تمكنه من هذه الممارسه (أي الطبقة الرأسمالية) التي تمتلك رأس المال وفائض القيمة، فإن حسب وصف الماركسية الملكية الجماعية هي الطريقة الوحيدة لتحرير الإنسان من الظلم والاستغلال، ووضع حد للكراهية والصراع بين الطبقات.
موقف الدستور القطري من تلك المذاهب: - جعل الدستور مقومات المجتمع الأساسية في الملكية، أي حق الأفراد في أن يتملكوا برخصة قانونية لكل الناس والطبقات أياً كان حجم التملك أو نوعه أو مصدره.
- الاستثمار في رأس المال للمجتمع القطري ولكي لا يكون لفظ رأس المال معيباً أو متطرفاً أو منجرفاً نحو الاشتراكية أو فيه نوع من الاستغلال جعل المشرع العمل ركناً ثالثاً مهماً في المجتمع يحد من تسلط رأس المال على الرغم من كونها حقوق فردية فقد جعل لها الدستور وظيفة اجتماعية ينظمها القانون.
- الحريات الفردية التي كفلها الدستور القطري: الحريات الفكرية -والحق في الأمان -وحرية التنقل -واختيار مكان الإقامة -وحرية السكن -وحرية الرأي - وحرية البحث العلمي -وحرية التعليم -وحرية الصحافة -وحرية التملك -وحرية العمل -وحرية المراسلات -وحرية السفر والعودة -وحرية الانتخاب.
جميع هذه الحريات رعاها الدستور وحماها بنص القانون.
خبـير قانـوني
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
 
نعم، أصبحنا نعيش زمنًا يُتاجر فيه بالفكر كما يُتاجر بالبضائع، تُباع فيه الشهادات كما تُباع السلع، وتُؤجّر فيه المنصات التدريبية كما تُؤجّر القاعات لحفلات المناسبات. هو زمنٌ تحوّلت فيه «المعرفة إلى سلعة» تُسعَّر، لا رسالة تُؤدَّى. تتجلّى مظاهر «الاتّجار المعرفي» اليوم في صور عديدة، لعلّ أبرزها «المؤتمرات والملتقيات التدريبية والأكاديمية» التي تُقام بأسماء لامعة وشعارات براقة، يدفع فيها الحضور مبالغ طائلة تحت وعودٍ بالمحتوى النوعي والتبادل العلمي، ثم لا يخرج منها المشاركون إلا بأوراق تذكارية وصورٍ للمنصات! وهنا «العجيب من ذلك، والأغرب من ذلك»، أنك حين تتأمل هذه الملتقيات، تجدها تحمل أربعة أو خمسة شعارات لمؤسساتٍ وجهاتٍ مختلفة، لكنها في الحقيقة «تعود إلى نفس المالك أو الجهة التجارية ذاتها»، تُدار بأسماء متعدّدة لتُعطي انطباعًا بالتنوّع والمصداقية، بينما الهدف الحقيقي هو «تكرار الاستفادة المادية من الجمهور نفسه». هذه الفعاليات كثير منها أصبح سوقًا مفتوحًا للربح السريع، لا للعلم الراسخ؛ تُوزَّع فيها الجوائز بلا معايير، وتُمنح فيها الألقاب بلا استحقاق، وتُقدَّم فيها أوراق بحثية أو عروض تدريبية «مكرّرة، منسوخة، أو بلا أثرٍ معرفي حقيقي». وهذا الشكل من الاتّجار لا يقل خطورة عن سرقة البيانات أو بيع الحقائب التدريبية، لأنه يُفرغ الفضاء الأكاديمي من جوهره، ويُحوّل «الجهد العلمي إلى طقسٍ استعراضي» لا يصنع معرفة ولا يضيف قيمة. فالمعرفة الحقيقية لا تُشترى بتذكرة حضور، ولا تُختزل في شعار مؤتمر، ولا تُقاس بعدد الصور المنشورة في مواقع التواصل. من جهةٍ أخرى، يتخذ الاتّجار بالمعرفة اليوم وجهًا «رقميًا سيبرانيًا أكثر تعقيدًا»؛ إذ تُباع البيانات البحثية والمقررات الإلكترونية في «الأسواق السوداء للمعلومات»، وتُسرق الأفكار عبر المنصات المفتوحة، ويُعاد تسويقها تحت أسماء جديدة دون وعيٍ أو مساءلة. لقد دخلنا مرحلة جديدة من الاتّجار لا تقوم على الجسد، بل على «استغلال العقول»، حيث يُسرق الفكر ويُباع الإبداع تحت غطاء “التعاون الأكاديمي” أو “الفرص البحثية”. ولذلك، فإن الحديث عن «أمن المعرفة» و»السلامة السيبرانية في التعليم والتدريب» لم يعد ترفًا، بل ضرورة وجودية لحماية رأس المال الفكري للأمم. على الجامعات ومراكز التدريب أن تنتقل من مرحلة التباهي بعدد المؤتمرات إلى مرحلة «قياس الأثر المعرفي الحقيقي»، وأن تُحاكم جودة المحتوى لا عدد المشاركين. الاتّجار بالمعرفة جريمة صامتة، لكنها أخطر من كل أشكال الاتّجار الأخرى، لأنها «تسرق الإنسان من داخله»، وتقتل ضميره المهني قبل أن تمس جيبه. وحين تتحوّل الفكرة إلى تجارة، والمعرفة إلى وسيلة للشهرة، يفقد العلم قدسيته، ويصبح المتعلم مستهلكًا للوهم لا حاملًا للنور.
6639
| 27 أكتوبر 2025
المسيرات اليوم تملأ السماء، تحلّق بأجنحةٍ معدنيةٍ تلمع تحت وهج الشمس، تُقاد من بعيدٍ بإشاراتٍ باردةٍ لا تعرف الرحمة. تطير ولا تفكر، تضرب ولا تتردد، تعود أحيانًا أو ربما تنتحر. لا فرحَ بالنصر، ولا ندمَ على الدم. طائراتٌ بلا طيارٍ، ولكنها تذكّرنا بالبشر الذين يسيرون على الأرض بلا وعيٍ ولا بوصلة. لقد صار في الأرض مسيَّراتٌ أخرى، لكنها من لحمٍ ودم، تُدار من وراء الشاشات، وعبر المنصات، حيث تُضغط أزرار العقول وتُعاد برمجتها بصمتٍ وخُبث. كلاهما – الآلة والإنسان – مُسيَّر، غير أن الثانية أخطر، لأنها تغتال العقل قبل الجسد، وتُطفئ الوعي قبل الحياة، وتستهدف الصغير قبل الكبير، لأنه الهدف الأغلى عندها. تحوّل الإنسان المعاصر شيئًا فشيئًا إلى طائرةٍ بشريةٍ بلا طيار، يُقاد من برجٍ افتراضي لا يُرى، اسمه “الخوارزميات”، تُرسل إليه الأوامر في هيئة إشعاراتٍ على هاتفه أو جهازه الذي يعمل عليه، فيغيّر مساره كما تُغيّر الطائرة اتجاهها عند تلقّي الإشارة. يغضب حين يُؤمر، ويُصفّق حين يُطلب منه التصفيق، ويتحدث بلسان غيره وهو يظن أنه صوته. صار نصفه آليًّا ونصفه الآخر بشريًّا، مزيجًا من لحمٍ وإشارة، من شعورٍ مُبرمجٍ وسلوكٍ مُوجَّه. المسيرة حين تُطلِق قذيفتها أو تصطدم تُحدث دمارًا يُرى بالعين، أمّا المسيرة البشرية فحين تُطلِق كلمتها تُحدث دمارًا لا يُرى، ينفجر في القيم والمبادئ، ويترك رمادًا في النفوس، وشظايا في العقول، وركامًا من الفوضى الأخلاقية. إنها تخترق جدران البيوت وتهدم أنفاق الخصوصية، وتصنع من النشء جنودًا افتراضيين بلا أجر، يحملون رايات التدمير وهم يظنون أنهم يصنعون المجد. المسيرة المعدنية تحتاج إلى طاقةٍ لتطير، أمّا المسيرة البشرية فتحتاج فقط إلى “جهلٍ ناعمٍ” يجعل أفئدتها هواءً. ويُخيَّل للمرء أن العالم بأسره قد صار غرفةَ تحكّمٍ واحدة، تُدار بمنهجٍ وفكرٍ وخطة، وأننا جميعًا طائراتٌ صغيرة تدور في مساراتٍ مرسومة، لا تملك حرية رفرفة جناحٍ واحدةٍ خارج هذه الحدود. من يملك الإعلام يملك السماء، ومن يملك البيانات يملك العقول، ومن يملك كليهما، هنا يكمن الخطرُ كلُّه. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: كيف نحمي أبناءنا ومجتمعاتنا من أن يصبحوا مسيَّراتٍ بشريةً أخرى؟ كيف نُعيد إليهم جهاز الملاحة الداخلي الذي خُطِف من أيديهم؟ الجواب يبدأ من التربية الواعية التي تُعلّم الطفل أن يسأل قبل أن يُصدّق، وأن يتحقّق قبل أن ينقل، وأن يفكّر قبل أن يحكم. نحتاج إلى مؤسساتٍ وهيئاتٍ تُنمّي مهارة التفكير النقدي، وإعلامٍ يُحرّر لا يُبرمج، وأُسَرٍ تُعلّم أبناءها التمييز بين الصوت الحقيقي وضجيج التقليد، وبين المنابر الحرة والخُطب المصنوعة. فالوعي لا يُوهَب، بل يُصنَع بالتجربة والتأمل والسؤال. ثم تأتي القدوة الحيّة، فالمجتمع لا يتغيّر بالمواعظ فقط، بل بالنماذج. حين يرى الجيل من يفكّر بحرية، ويتحدث بمسؤولية، ويرفض الانقياد الأعمى، سيتعلم أن الحرية ليست في كسر القيود، بل في معرفة من صنعها ولماذا. وأخيرًا، علينا أن نُعلّم أبناءنا أن التحكم في النفس أعظم من التحكم في آلة. فشخصٌ واحد قد يصنع مئات الآلات، ولكن آلاف الآلات لا تصنع إنسانًا واحدًا. ليست كل حربٍ تُخاض بالسلاح، فبعضها تُخاض بالعقول. والمنتصر الحقيقي هو من يبقى ممسكًا بجهاز تحكمه الداخلي، مستقلًّا لا يتأثر بالموجِّهات والمُشوِّشات. إن إنقاذ الجيل لا يكون بإغلاق السماء، بل بتنوير العقول. فحين يتعلم الإنسان كيف يطير بوعيه، لن يستطيع أحد أن يُسيّره بعد اليوم أو يُسقطه.
2703
| 28 أكتوبر 2025
كان المدرج في زمنٍ مضى يشبه قلبًا يخفق بالحياة، تملؤه الأصوات وتشتعل فيه الأرواح حماسةً وانتماء. اليوم، صار صامتًا كمدينةٍ هجرتها أحلامها، لا صدى لهتاف، ولا ظلّ لفرح. المقاعد الباردة تروي بصمتها حكاية شغفٍ انطفأ، والهواء يحمل سؤالًا موجعًا: كيف يُمكن لمكانٍ كان يفيض بالحب أن يتحول إلى ذاكرةٍ تنتظر من يوقظها من سباتها؟ صحيح أن تراجع المستوى الفني لفرق الأندية الجماهيرية، هو السبب الرئيسي في تلك الظاهرة، إلا أن المسؤول الأول هو السياسات القاصرة للأندية في تحفيز الجماهير واستقطاب الناشئة والشباب وإحياء الملاعب بحضورهم. ولنتحدث بوضوح عن روابط المشجعين في أنديتنا، فهي تقوم على أساس تجاري بدائي يعتمد مبدأ المُقايضة، حين يتم دفع مبلغ من المال لشخص أو مجموعة أشخاص يقومون بجمع أفراد من هنا وهناك، ويأتون بهم إلى الملعب ليصفقوا ويُغنّوا بلا روح ولا حماسة، انتظاراً لانتهاء المباراة والحصول على الأجرة التي حُدّدت لهم. على الأندية تحديث رؤاها الخاصة بروابط المشجعين، فلا يجوز أن يكون المسؤولون عنها أفراداً بلا ثقافة ولا قدرة على التعامل مع وسائل الإعلام، ولا كفاءة في إقناع الناشئة والشباب بهم. بل يجب أن يتم اختيارهم بعيداً عن التوفير المالي الذي تحرص عليه إدارات الأندية، والذي يدل على قصور في فهم الدور العظيم لتلك الروابط. إن اختيار أشخاص ذوي ثقافة وطلاقة في الحديث، تُناط بهم مسؤولية الروابط، سيكون المُقدمة للانطلاق إلى البيئة المحلية التي تتواجد فيها الأندية، ليتم التواصل مع المدارس والتنسيق مع إداراتها لعقد لقاءات مع الطلاب ومحاولة اجتذابهم إلى الملاعب من خلال أنشطة يتم خلالها تواجد اللاعبين المعروفين في النادي، وتقديم حوافز عينية. إننا نتحدث عن تكوين جيل من المشجعين يرتبط نفسياً بالأندية، هو جيل الناشئة والشباب الذي لم يزل غضاً، ويمتلك بحكم السن الحماسة والاندفاع اللازمين لعودة الروح إلى ملاعبنا. وأيضاً نلوم إعلامنا الرياضي، وهو إعلام متميز بإمكاناته البشرية والمادية، وبمستواه الاحترافي والمهني الرفيع. فقد لعب دوراً سلبياً في وجود الظاهرة، من خلال تركيزه على التحليل الفني المُجرّد، ومخاطبة المختصين أو الأجيال التي تخطت سن الشباب ولم يعد ممكناً جذبها إلى الملاعب بسهولة، وتناسى إعلامنا جيل الناشئة والشباب ولم يستطع، حتى يومنا، بلورة خطاب إعلامي يلفت انتباههم ويُرسّخ في عقولهم ونفوسهم مفاهيم حضارية تتعلق بالرياضة كروح جماهيرية تدفع بهم إلى ملاعبنا. كلمة أخيرة: نطالب بمبادرة رياضية تعيد الجماهير للمدرجات، تشعل شغف المنافسة، وتحوّل كل مباراة إلى تجربة مليئة بالحماس والانتماء الحقيقي.
2187
| 30 أكتوبر 2025
