رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

د. ياسر محجوب الحسين

  [email protected]

مساحة إعلانية

مقالات

10307

د. ياسر محجوب الحسين

التربية الإعلامية.. وصل الجزر المعزولة

22 يناير 2022 , 01:44ص

حالة الجزر المعزولة تتمدد وتزيد عزلتها وحشة باستمرار، بينما التكنولوجيا المتوحشة تمُدّ لسانها كمنتصر غاصب وقد تجبّر وافترى. في بيوتنا وفي شوارعنا وفي كل أماكن ارتيادنا، بدا الناس جُزرا معزولة عن بعضها البعض، فكل منهم يمسك بتلابيبه وخناقه، جهاز صغير سُمي ذكيّا بيد أنه غاصب لفكرنا وانتباهنا، وقد ورطنا في عالم افتراضي يموج فضاؤه بصراعات الشركات وإعلاناتها، وبصدام الأيديولوجيات ودعاياتها السوداء، وفوق كل ذلك فضاءٌ تسرح وتمرح فيه شياطين الإنس مبشرة بكل ما هو هادم للقيم، تروّج بضاعة مزجاة قوامها الجنس والمخدرات.

وعوضا عن المدرسة والمسجد والأسرة، فقد أحكم الإعلام المتوحش سيطرته على المجتمع، محتكرا التسلية والتربية والتوجيه. بل غدا متلونا كالحرباء يظهر في كل يوم بوجه جديد، وفي كل حين بأسلوب مبتكر خبيث، وفي كل مرحلة بتقنية مدهشة، فغدت التربية تفقد بوسائلها المحدودة، وتطورها السلحفائي الحذر، سيطرتها على حدود مملكتها. وأصبح الإعلام يملك النصيب الأكبر في التنشئة الاجتماعية، والتأثير والتوجيه، وتربية الصغار بل والكبار كذلك.

وإن كان الكبار أقل تأثيرا، حتى لو بشكل نسبي، إلا أن صغارنا أكثر الضحايا تأثرا؛ فهم موجودون معنا بأجسامهم وغرباء عنا بأفكارهم المسيطر عليها بفعل تلك الأجهزة قاتلها الله. ففي عالم المعلومات المفتوح والحوائط الزجاجية الشفافة، لا الجهات الرسمية تستطيع التحكم بتدفق المنتج الإعلامي تجاه الأطفال واليافعين، ولا لأي أحد القدرة على توجيهه لا زماناً ولا مكاناً، ولا حتى كمّاً وكيفاً.

اليوم لا تستطيع الدول ولا أرباب الأسر أن يتخذوا قرارات بنزع تلك الأجهزة والتخلص منها؛ بيد أنه ومنذ سنوات قليلة ظهرت دعوات الخبراء بضرورة التعامل الإيجابي مع وسائل الإعلام التي لا فكاك منها. وبدأ الجدل ومازال على أشده، يدور حول ما اصطُلح على تسميته بـ»التربية الإعلامية» أو الدِراية بوَسائِل الاتصال. ويشمل ذلك الممارسات التي تسمح للأفراد بالوصول، والتقييم النقدي، لمحتوى وسائل الإعلام العابرة للمسافات والأزمان لا سيما وسائل التواصل الاجتماعي. تُعَرف الرابطة الوطنية الأمريكية للتربية الإعلامية، التربية الإعلامية بأنها سلسلةٌ من الكفاءات الإعلامية مع قدرةٍ على الوصول والتحليل والتقييم والتواصل ضمن مجموعةٍ متنوعة من الأشكال التي يمكن أن تكون رسائل مطبوعة أو غير مطبوعة. ويذهب البعض إلى أنَّ التربية الإعلامية تتيح للأفراد ليكونوا مفكرين ناقدين لمحتوى الرسائل الإعلامية. وتعرّف منظمة اليونسكو التربية الإعلامية والمعلوماتية بأنها: «الكفاءات الأساسية التي تتيح للمواطنين التعامل مع وسائل الإعلام على نحو فعّال، وتطوير الفكر النقدي ومهارات التعلّم مدى الحياة، في سبيل تنشئة اجتماعية تجعل منهم مواطنين فاعلين».

ويتفق الخبراء على أن التربية الإعلامية توفر العلاج الناجع لمعالجة المشکلات النفسية والثقافية والاجتماعية التي يعاني منها النشء والطلاب اليافعين مثل مشاکل الأمية الثقافية، والأمية الفكرية والسطحية السياسية، فضلا عن انعدام الثقة بالنفس جراء التواصل مع الآخر وعدم الألفة، والتحيزية والاستغراق في (الأنا). إن التربية الإعلامية باختصار تُعنى بمهارة التعامل مع وسائل الإعلام واتقاء شرورها المتناسلة بكثافة. ولهذا نجد أن مقرارت مؤتمرات منظمة اليونسكو وهي أكثر المنظمات عناية بالتربية الإعلامية، تؤكد على وجوب إعداد النشء للعيش في عالم سلطة الصورة والصوت والكلمة.

وباختصار تكمن أهمية التربية الإعلامية في أنها تتيح للأفراد اكتساب المهارات والخبرات التي تمكنهم من فهم الكيفية التي يشكل بها غول الإعلام إدراكهم، بل أكثر من ذلك، وهو إرفادهم بكل ما يعينهم على المشاركة في صناعة المحتوى الإعلامي وتعديل إعوجاجه ليتماشى مع أخلاقيات المجتمع وقيمه وقوانينه. وحتى لا تقف تلك الغاية النبيلة في حدود الأمنيات العزيزة المنال؛ فلابد من أن يتخطى النقاش حول فعالية وأهمية التربية الإعلامية عتبة الترف النخبوي والأكاديمي إلى التفكير الجاد لأن تكون التربية الإعلامية منهجا دراسيا في مراحل التعليم ما قبل الجامعي، حيث الكتلة الأهم من المجتمع والأكثر تأثرا بل تشكل غالب ضحايا الفضاء الإعلامي الملوث. وربما تمكنت بعض الدول والمجتمعات من السير في هذا الطريق الذي نتمنى ألا يكون طويلا ومليئا بعقبات الروتين والبروقراطية الـمُقعِدة.

في عهود سابقة وما قبل الهجمة التكنولوجية، كانت التربية الإعلامية متمثلةً فيما عُرف بالصحافة المدرسية مثل فرض الكفاية يقوم به البعض ويسقط عن البعض. وكانت مهمة الصحافة المدرسية والحائطية، التعرف على مواهب الطلاب وتنميتها وتحويل خيالهم الخصب إلى إنتاج صحفي مفيد وربما إذاعي خلّاق من خلال الإذاعة المدرسية. وكان الطلاب المشاركون في نشاط الصحافة المدرسية يدركون الالتزام بشرف الكلمة المكتوبة. كما كانت الصحافة المدرسية تهتم بغرس القيم التربوية النبيلة بأسلوب غير مباشر، حيث تبنى الأخلاق الفاضلة من خلال تنمية ودعم السلوك الطيب داخل وخارج المدرسة، فينعكس كل ذلك على شخصية الطالب. وكانت كذلك تعمل على تنمية الاعتماد على النفس والثقة بالنفس.

الخلاصة.. إن الإنسان ما لم يكن واعيـاً إعلاميـاً فإن التيـار الجارف سيكتسح كـل شخص معصـوب العينين. والتربية الإعلامية من خلال اليونسكو تعد جزءاً من الحقوق الأساسية للمواطنين، في كل دولة من الدول. وتوصي اليونسكو بضرورة إدخال التربية الإعلامية ضمن المناهج التربوية الوطنية، وكذلك إدخالها ضمن أنظمة التعليم غير الرسمية، والتعلم مدى الحياة. وفي ظل تعقيدات وتدخلات الإعلام في بناء وجهات النظر المختلفة عند العامة، فإن التربية الإعلامية تأتي لتكون جزءًا من الثقافة اليومية للفرد وتمكينه ليكون ناقدًا يتحكم بتفسير ما يشاهده أو يسمعه، وليكون نموذجاً ناجحاً للمتلقي النشط. فالمدخل الحديث للتربية الإعلامية هو أن التناول الناقد للمادة الإعلامية يؤدي الى إنتاج مواطن ناقد، وأن تعليم المتلقي التقنيات التي يستخدمها الإعلام لتوصيل رسالته يعني وعي المتلقي بهذه الوسائل وتشكيل المهارة الناقدة تجاه الرسائل التي يتم طرحها في الفضاء الإسفيري.

 [email protected]

 yasir_mahgoub@

مساحة إعلانية