رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

Al-sharq

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

الشرق

مساحة إعلانية

مساحة إعلانية

الشيخ د. سعود بن ناصر آل ثاني

مساحة إعلانية

مقالات

162

الشيخ د. سعود بن ناصر آل ثاني

الظروف الطوارئ 

21 ديسمبر 2025 , 04:00ص

عاصرتُ في حياتي تحولات كبرى وأزمات عصفت بدول ومجتمعات، أجدني اليوم مدفوعاً لكتابة هذا المقال ليس من باب الرصد الإخباري، بل من باب التشريح القيمي لما نسميه "الظروف الطارئة". إنها تلك اللحظات التي يسقط فيها القناع عن الوجه الحقيقي للبشر والنظم على حد سواء. حين تتحول أخلاقيات المأزق والأزمات إلى سلاح للإذلال والتمكين.

في قاموس الحياة، يُعرف "الظرف الطارئ" بأنه ما يخرج عن إرادة الإنسان وقدرته على التوقع، وهو في جوهره "قدر الله" الذي نؤمن به. لكن المشكلة لا تكمن في القدر، بل في "التعذر بالقدر". هنا يبرز الفيصل الأخلاقي بين الصدق والكذب؛ فبينما يواجه النبلاء طوارئ الحياة بشجاعة الاعتذار الصادق والبحث عن الحلول، يتخذها البعض "شماعة" للتنصل من الالتزامات، محولين الأقدار إلى وسيلة للمراوغة والخداع.

هناك قاعدة فقهية وحقوقية أستعملها دائماً، والتي تقول: "الطارئ يعامل معاملة الطارئ" هي نبراس للشفافية في موضوعناً فعلاً، تهدف لرفع الحرج عن الناس. لكننا نرى اليوم تشوهاً في تطبيقها؛ حيث يتم "تأبيد" الحالة الطارئة لذريعة التجاوزات. وهنا نستحضر مفهوم "ابن السبيل" بمفهومه المعاصر؛ فهو ليس فقط المنقطع في سفره، بل هو كل من وجد نفسه في مهب ريح طارئة (اقتصادية أو سياسية) جردته من حمايته. التعامل مع هؤلاء هو الاختبار الحقيقي لمروءة المجتمعات.

أما الوجه الأكثر قتامة في مشهد الطوارئ، فهو الاستغلال. إن استغلال الظروف الطارئة للضغط على أصحابها مادياً ونفسياً هو "خيانة إنسانية" مكتملة الأركان. عندما يتحول اضطرار الإنسان إلى فرصة للمساومة، أو وسيلة للانتقام والإذلال، فنحن أمام "براغماتية متوحشة" لا تعرف ديناً ولا قانوناً. إن محاولة كسر إرادة الشخص وهو في حالة ضعف طارئة هي أدنى مراتب الخصومة.

ولا يتوقف هذا السلوك عند حدود الأفراد؛ بل يمتد ليتجاوز الحدود الجغرافية والدولية. لقد شهدنا كيف تُوظف الأزمات "العابرة للحدود" كأدوات للسيطرة والتمكين. تُفرض الإملاءات السياسية تحت غطاء المساعدات الإنسانية، وتُخترق سيادة الدول بحجة إدارة "الطارئ". إنها محاولة لتحويل الأزمة من عائق مؤقت إلى وسيلة دائمة للهيمنة، حيث تُبنى إمبراطوريات "التمكين" على أنقاض احتياجات الآخرين المنكوبين.

إن الظروف الطارئة، مهما بلغت قسوتها، هي حالة استثنائية يجب أن تنتهي بالعودة إلى الأصل الثقافي للأمة. وإن المراهنة على كسر كرامة الإنسان أو سيادة الأوطان وقت الشدة هي مراهنة خاسرة تاريخياً. فالطارئ يزول، والضيق يتسع، لكن الوجع الذي تتركه محاولات الإذلال والانتقام يبقى وشماً في ذاكرة الشعوب، لا تمحوه السنين.

في الختام، نخلص إلى أن الظروف الطارئة - بكل تعقيداتها ومآسيها - ليست إلا محطات اختبار كبرى للضمير الإنساني والعدالة. فمن اتخذ من أقدار الله مطية للتنصل من واجباته، أو جعل من حاجة الناس وسيلة للإذلال والتمكين والسيطرة، فقد خسر رهانه الأخلاقي أمام التاريخ وأمام خالقه.

إن الأزمات، مهما طال أمدها، تظل حالات استثنائية ستنجلي يوماً ما، ولن يبقى منها سوى سجل المواقف؛ فإما سجلٌ من النبل والتكاتف، أو سجلٌ من الانتهازية والجور. لذا، يجب أن تظل كرامة الإنسان أسمى من أي ظرف، وسيادة الأوطان أرفع من أي استغلال، مستلهمين الصبر واليقين من قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} سورة البقرة ١٥٥.

مساحة إعلانية