رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
الاحتلال الصهيوني الحديث لفلسطين ليس الاحتلال الأول، بل إن فلسطين خضعت لاحتلال الفرنجة خلال الحروب الصليبية، حين سقطت بيت المقدس (493 هجري-1099ميلادي)، واستمر ذلك الاحتلال زهاء قرنين من الزمن. ولم يحرر فلسطين سوى المسلمين حين توافرت لديهم عوامل الإرادة والوحدة والقوة. وعندما تقدمت جحافل الدول الغربية الصناعية الحديثة، التي أنجزت ثورة ديمقراطية، وثورة صناعية عملاقة، استطاعت أن تتقدم باتجاه العالم العربي والإسلامي، لإعادة تقسيمه، واحتلاله بقوة العنف الكولونيالي، الذي كان ضرورياً وأساسياً لتحقيق أهدافه، والتي تمثلت فيما يلي:
1- إسقاط النظام السياسي الإسلامي وإنهاء دولة الخلافة، بوصفها الدولة الإسلامية المركزية، ورمز الوحدة الإسلامية لقرون عديدة.
2- تفتيت وتجزئة العالم العربي والإسلامي إلى دويلات عدة، من خلال تطبيق اتفاقيات سايكس بيكو، التي أصبحت الحدود الشرعية للتقسيم الكولونيالي الحديث.
3- إقامة دولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، التي تعتبر أهم وأخطر أشكال الاحتلال الحديث، لأنه استيطاني. وبقيامها واستمرار وجودها في قلب العالم العربي والإسلامي، تكون الهجمة الغربية الشاملة قد نفذت أهم وأخطر مهماتها.
إزاء هذه الغزوة الأوروبية والصهيونية الحديثة، التي استهدفت العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه، وفي القلب منه فلسطين، كانت الردود على هذه الغزوة متباينة ومتفاوتة. فالتيار الليبرالي العلماني العربي لم يضع القضية الفلسطينية في سلم أولوياته، بل انصرف عن قضية النهضة والتحرير إلى الانشغال بقضايا وهمية. أما التيار الاشتراكي بجميع تلاوينه، ولاسيَّما الذي كان خاضعا لمرجعية الاتحاد السوفيتي، فقد انتهج نهج التبعية لتلك المدرسة السوفيتية، وتبنى مقولاتها، حتى وإن تناقضت بالكامل مع قضية الشعب الفلسطيني، ومع مصالح الأمة العربية والإسلامية.
وحده المشروع القومي العربي بشقيه الناصري والبعثي وضع القضية الفلسطينية كقضية مركزية في نضال الأمة العربية، وقام بمحاولات جادة من أجل تحقيق النهضة الثانية، وتحرير الأرض السليبة- فلسطين – لكنه أخفق لأسباب سياسية وتاريخية ليس مجال بحثها الآن.
إذا كان التيار الليبرالي العلماني والتيار الاشتراكي هُزِمَا تاريخياً في العالم العربي منذ نكبة عام 1948، وهزيمة عام 1967، وكلاهما هزيمة لتيار التغريب في الفكر العربي المعاصر، فإن الحركة الجهادية الإسلامية المعاصرة تثمن دور المشروع القومي العربي النهضوي في وضع القضية الفلسطينية ضمن الإطار التاريخي الصحيح، كقضية مركزية للأمة.
إن الوجود الصهيوني في فلسطين قلب العالم العربي الذي هو قلب العالم الإسلامي ونواته المغناطيسية، هو وحده الذي يفسر لنا مركزية القضية الفلسطينية، بوصف هذا الوجود للكيان الصهيوني قاعدة إستراتيجية متقدمة تنفذ أهداف البرنامج الإمبريالي الغربي العام، وتنفذ في الوقت عينه أهداف الحركة الصهيونية العالمية الخاصة، يمثل أوج التحدي الغربي والسياسي والثقافي للعالمين العربي والإسلامي.
من هنا تنبع مركزية القضية الفلسطينية في النضال من أجل تحريرها، إذ إن مهمات الحركة الإسلامية المعاصرة حددتها تحولات تاريخ مواجهة العرب والمسلمين نتائج التحدي الحديث في التغريب والتجزئة وإقامة الكيان الصهيوني. ويقول مؤسس حركة الجهاد الإسلامي، الدكتور الشهيد فتحي الشقاقي، عن مركزية فلسطين في الصراع الدائر بين العالم العربي والإسلامي من جهة، وبين الغرب الاستعماري والحركة الصهيونية العالمية من جهة أخرى: إذا كان الكيان الصهيوني واستمراره قد أصبح يمثل مركز التحدي ومركز الهجمة الغربية وضمانة لاستمرار هيمنتها على واقع التقسيم والتبعية والتخلف، فإن على كل أجنحة الحركة الإسلامية وعلى ملايين جماهير الأمة في كل مكان أن تمد خطاً مستقيماً من قلب جبهتها المتقدمة في معركة النهضة وفي كل إقليم من أقاليم العالم الإسلامي، نحو المركز... نحو القدس... إن جماهير الأمة تحمل في داخلها وجعاً خاصاً من أجل فلسطين، وذلك لأن حسها التاريخي والعقائدي يخبرها بأن هناك... على ذلك الشريط الصغير من شرق المتوسط، تقع نقطة الصدام المركزية... وهناك ستحسم معركة تاريخنا المعاصرة... إن الوحدة بالنسبة لفلسطين هي وحدة الوعي بأن بقاء الكيان الصهيوني يعني إفشال كل مشاريع النهضة، ولهذا فإن الجدل حول مَن أَوَلاً: مواجهة التبعية والتغريب والتجزئة أو مواجهة الكيان الصهيوني هو جدل نظري تحكمه حسابات الربح والخسارة الآنية أكثر من السعي الجاد لبناء إستراتيجية متكاملة ومتماسكة لمشروع النهضة الإسلامية المعاصرة، إن الوحدة حول فلسطين هي وحدة التاريخ مع القرآن وهي إعادة الملايين المتقدمة نحو قدرها... هي مشروع النهضة كله. وفي القدس... جوهر ومركز الصراع الكوني اليوم تتحدد ملامح المعركة الفاصلة بين عباد الله حملة راية الوحي وقيم الوحدة من جهة، وحملة قيم فلسفة الصراع من الجهة الأخرى، بين المتطلعين إلى وجه الله... الساعين إليه، والمتمردين على الله الذين أقاموا في الأرض أبشع نموذج حضاري في تاريخ الإنسانية.
تأكيداً على وحدة المصير بين العالمين العربي والإسلامي، حيث تفرض مركزية القضية الفلسطينية وحدة المصير بين المشروع القومي العربي النهضوي والمشروع الجهادي الإسلامي، إذ إن وحدة المصير هذه تقتضي وحدة الأهداف ووحدة البرنامج ووحدة العمل. يقول المفكر الإسلامي توفيق الطيب في كتابه " الحل الإسلامي ما بعد النكبتين": كما كشفت النكبة الأولى للعرب جميعا عن "المضمون العربي" و"الأبعاد العربية" لقضيتنا فلسطين وأبطلت أسطورة الكيانات القائمة على فكرة "الوطنية المحلية" أو "الإقليمية" التي تكرس واقع التجزئة. كذلك فقد كشفت هذه النكبة الثانية للمسلمين جميعاً عن "المضمون الإسلامي" و"الأبعاد الإسلامية" لقضيتنا فلسطين، فأبطلت بذلك أسطورة "الانغلاق القومي" و"العلمانية" معاً وأثبتت بما لا يقبل الشك أن مصير المسلمين السياسي – مصير العالم الإسلامي – مرتبط بمصير العرب السياسي- مصير العالم العربي- وأن مصيرهم الثقافي مرتبط بمصير الثقافة الإسلامية وأن مستقبلهم جميعا كأمة ذات رسالة وكثافة ذات أصالة مرتبط بمستقبل الإسلام.
ليس من شك أن النكبتين اللتين حصلتا في المنطقة: نكبة 1948، ونكبة 1967، قد أكدتا أن الكيان الصهيوني القائم على اغتصاب أرض فلسطين والتوسع في احتلال الأراضي العربية، بات يجسد صورة التحدي الإمبريالي الغربي بشقيه الأوروبي والأمريكي للعالم العربي والإسلامي، وزاد من قوة الكيان الصهيوني وتمدده تنامي العلاقات العضوية بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية، التي باتت تمده بكل مقومات القوة والتفوق العسكري والتكنولوجي، وزاد من قوة التغلغل والسيطرة الأمريكية في المنطقة العربية، إضافة إلى التوسع الصهيوني، الإخفاقات العربية المتلاحقة منذ عصر النهضة العربية الأولى، وحتى عصر النهضة الثانية بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
هذه التحولات التاريخية التي عجلت بها حركة الأحداث في العالم العربي، وطبيعة التحدي الغربي والصهيوني وعنفه وشدته، كانتَا في أساس طرح الحركة الإسلامية الجهادية أن فلسطين ليست مجرد قضية إسلامية فقط، بل هي قضية كل المسلمين والإسلام في العصر الحديث.
ولما كان مشروع الحركة الإسلامية الجهادية في فلسطين يرتكز إلى اعتبار القضية الفلسطينية قضية مركزية للأمة العربية والإسلامية، فإن مشروع تحرير فلسطين هو تتويج لمشروع حضاري كبير لا مجرد بندقية تطلق النار أو عبوة تتفجر، لكن الكفاح المسلح يجب أن يستمر ليؤكد عصيان صاحب الحق على الدفن حيّاً، وليمنع إغلاق باب الصراع كما يراد له في مشروع السلام الصهيوني الراهن.
ويقول أمين عام حركة الجهاد الإسلامي الدكتور رمضان عبد الله في هذا الصدد: «فالأمة دوماً وكما حال الأمم الحرة واجهت الغازي الأجنبي بأعز وأقدس ما تملك، بأرواحها ومقدسها الديني. هذا المقدس الديني اسمه عقيدة الأمة وشرعها "الجهاد". وهو في الدين الإسلامي الركن السادس من أركان الإسلام. وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه ذروة سنام هذا الدين". إذن الجهاد في الإسلام (الكفاح المسلح في أدبيات الثورة الفلسطينية) هو مقدس ديني كما هي الصلاة مقدس ديني وكما هو الصيام مقدس ديني. فعندما يقول القرآن: "كتب عليكم الصيام"، نراه يستخدم نفس الصيغة في الجهاد، فيقول: "كتب عليكم القتال". والقتال هو الجهاد.
في غزة، ليس ثمة خيارات متاحة بالمعنى المألوف للكلمة، ولا مسارات آمنة يمكن أن يسلكها المرء ليتفادى كلفة... اقرأ المزيد
210
| 06 أكتوبر 2025
يأتي الاحتفال بانتصارات حرب أكتوبر 1973 والعالم العربي يعيش حالة من الإحباطات منذ طوفان الأقصى في السابع من... اقرأ المزيد
192
| 06 أكتوبر 2025
لم تعد ثورة البيانات الضخمة Big Data مجرد انعكاس للتحول الرقمي الذي شهده العالم في العقود الأخيرة، بل... اقرأ المزيد
114
| 06 أكتوبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
كثير من المراكز التدريبية اليوم وجدت سلعة سهلة الترويج، برنامج إعداد المدربين، يطرحونه كأنه عصا سحرية، يَعِدون المشترك بأنه بعد خمسة أيام أو أسبوع من «الدروس» سيخرج مدربًا متمكنًا، يقف على المنصة، ويُدير القاعة، ويعالج كل التحديات، كأن التدريب مجرد شهادة تُعلق على الجدار، أو بطاقة مرور سريعة إلى عالم لم يعرفه الطالب بعد. المشكلة ليست في البرنامج بحد ذاته، بل في الوهم المعبأ معه. يتم تسويقه للمشتركين على أنه بوابة النجومية في التدريب، بينما في الواقع هو مجرد خطوة أولى في طريق طويل. ليس أكثر من مدخل نظري يضع أساسيات عامة: كيف تُصمم عرضًا؟ كيف ترتب محتوى؟ كيف تُعرّف التدريب؟. لكنه لا يمنح المتدرب أدوات مواجهة التحديات المعقدة في القاعة، ولا يصنع له كاريزما، ولا يضع بين يديه لغة جسد قوية، ولا يمنحه مهارة السيطرة على المواقف. ومع ذلك، يتم بيعه تحت ستار «إعداد المدربين» وكأن من أنهى البرنامج صار فجأة خبيرًا يقود الحشود. تجارب دولية متعمقة في دول نجحت في بناء مدربين حقيقيين، نرى الصورة مختلفة تمامًا: • بريطانيا: لدى «معهد التعلم والأداء» (CIPD) برامج طويلة المدى، لا تُمنح فيها شهادة «مدرب محترف» إلا بعد إنجاز مشاريع تدريبية عملية وتقييم صارم من لجنة مختصة. • الولايات المتحدة: تقدم «جمعية تطوير المواهب – ATD» مسارات متعددة، تبدأ بالمعارف، ثم ورش تطبيقية، تليها اختبارات عملية، ولا يُعتمد المدرب إلا بعد أن يُثبت قدرته في جلسات تدريب واقعية. • فنلندا: يمر المدرب ببرنامج يمتد لأشهر، يتضمن محاكاة واقعية، مراقبة في الصفوف، ثم تقييما شاملا لمهارات العرض، إدارة النقاش، والقدرة على حل المشكلات. هذه التجارب تثبت أن إعداد المدرب يتم عبر برامج متعمقة، اجتيازات، وتدرّج عملي. المجتمع يجب أن يعي الحقيقة: الحقيقة التي يجب أن يعرفها الجميع أن TOT ليس نقطة الانطلاق، بل الخطوة المعرفية الأولى فقط. المدرب الحقيقي لا يُصنع في أسبوع، بل يُبنى عبر برامج تخصصية أعمق مثل «اختصاصي تدريب»، التي تغوص في تفاصيل لغة الجسد، السيطرة على الحضور، مواجهة المواقف الحرجة، وبناء الكاريزما. هذه هي المراحل التي تُشكل شخصية المدرب، لا مجرد ورقة مكتوب عليها «مدرب معتمد». لكي نحمي المجتمع من أوهام «الشهادات الورقية»، يجب أن يُعتمد مبدأ الاختبار قبل الدخول، بحيث لا يُقبل أي شخص في برنامج إعداد مدربين إلا بعد اجتياز اختبار قبلي يقيس مهاراته الأساسية في التواصل والعرض. ثم، بعد انتهاء البرنامج، يجب أن يخضع المتدرب لاختبار عملي أمام لجنة تقييم مستقلة، ليُثبت أنه قادر على التدريب لا على الحفظ. الشهادة يجب أن تكون شهادة اجتياز، لا مجرد «شهادة حضور». هل يُعقل أن يتحول من حضر خمسة أيام إلى «قائد قاعة»؟ هل يكفي أن تحفظ شرائح عرض لتصير مدربًا؟ أين الارتباك والتجربة والخطأ؟ أين الكاريزما التي تُبنى عبر سنوات؟ أم أن المسألة مجرد صور على إنستغرام تُوهم الناس بأنهم أصبحوا «مدربين عالميين» في أسبوع؟ TOT مجرد مدخل بسيط للتدريب، فالتدريب مهنة جادة وليس عرضا استهلاكيا. المطلوب وعي مجتمعي ورقابة مؤسسية وآليات صارمة للاجتياز، فمن دون ذلك سيبقى سوق التدريب ساحة لبيع الوهم تحت عناوين براقة.
5154
| 06 أكتوبر 2025
في ظهوره الأخير على منصة الأمم المتحدة، ملامحه، حركاته، وحتى ضحكاته المقتضبة لم تكن مجرد تفاصيل عابرة؛ بل كانت رسائل غير منطوقة تكشف عن قلق داخلي وتناقض صارخ بين ما يقوله وما يحاول إخفاءه. نظراته: قبل أن يبدأ حديثه، كانت عيونه تتجه نحو السلم، وكأنها تبحث عن شيء غير موجود. في لغة الجسد، النظرات المتكررة إلى الأرض أو الممرات تعكس قلقًا داخليًا وشعورًا بعدم الأمان. بدا وكأنه يراقب طريق الخروج أكثر مما يراقب الحضور، وكأن المنصة بالنسبة له فخّ، والسلم هو طوق النجاة. يداه: حين وقف أمام المنصة، شدّ يديه الاثنتين على جانبي البوديوم بشكل لافت إشارة إلى أن المتحدث يحتاج إلى شيء ملموس يستند إليه ليتجنب الارتباك، فالرجل الذي يقدّم نفسه دائمًا بصورة القوي الصلب، بدا كمن يتمسك بحاجز خشبي ليمنع ارتعاشة داخلية من الانكشاف. ضحكاته: استهل خطابه بإشارات إلى أحداث جانبية وبمحاولة لإضحاك الجمهور حيث بدا مفتعلًا ومشحونًا بالتوتر. كان الضحك أقرب إلى قناع يوضع على وجه مرتبك، قناع يحاول إخفاء ما لا يريد أن يظهر: الخوف من فقدان السيطرة، وربما الخوف من الأسئلة التي تطارده خارج القاعة أكثر مما يواجهه داخلها. عيناه ورأسه: خلال أجزاء من خطابه، حاول أن يُغلق عينيه لثوانٍ بينما يتحدث، ويميل رأسه قليلاً إلى الجانب ويعكس ذلك رغبة لا واعية في إبعاد ما يراه أو ما يقوله، وكأن المتحدث يحاول أن يتجنب مواجهة الحقيقة. أما مَيل الرأس، فكان إشارة إلى محاولة الاحتماء، أو البحث عن زاوية أكثر راحة نفسيًا وسط ارتباك داخلي. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر مما يخاطب العالم. مفرداته: استدعاؤه أمجاد الماضي، وتحدثه عن إخماد الحروب أعطى انطباعًا بأنه لا يتقن سوى لغة الحروب، سواء في إشعالها أو في إخمادها. رجل يحاول أن يتزين بإنجازات الحرب، في زمن يبحث فيه العالم عن من يصنع السلم. قناعه: لم يكن يتحدث بلسانه فقط؛ بل بجسده أيضًا حيث بدا وكأنه محاولة لإعادة ارتداء قناع «الرجل الواثق» لكن لغة جسده فضحته، كلها بدت وكأنها تقول: «الوضع ليس تحت السيطرة». القناع هنا لم يخفِ الحقيقة بل كشف هشاشته أكثر. مخاوفه: لعلها المخاوف من فقدان تأثيره الدولي، أو من محاكم الداخل التي تطارده، أو حتى من نظرات الحلفاء الذين اعتادوا سماع خطاباته النارية لكنهم اليوم يرون أمامهم رجلاً متردداً. لم نره أجبن من هذا الموقف، إذ بدا أنه في مواجهة نفسه أكثر من مواجهة الآخرين. في النهاية، ما قدّمه لم يكن خطابًا سياسيًا بقدر ما كان درسًا في لغة الجسد. الكلمات قد تخدع، لكن الجسد يفضح.
5085
| 29 سبتمبر 2025
هناك لحظات تفاجئ المرء في منتصف الطريق، لحظات لا تحتمل التأجيل ولا المجاملة، لحظات تبدو كأنها قادمة من عمق الذاكرة لتذكره بأن الحياة، مهما تزينت بضحكاتها، تحمل في جيبها دائمًا بذرة الفقد. كنتُ أظن أني تعلّمت لغة الغياب بما يكفي، وأنني امتلكت مناعة ما أمام رحيل الأصدقاء، لكن موتًا آخر جاء هذه المرة أكثر اقترابًا، أكثر إيغالًا في هشاشتي، حتى شعرتُ أن المرآة التي أطل منها على وجهي اليوم ليست إلا ظلًّا لامرأة كانت بالأمس بجانبي. قبل أيام قليلة رحلت صديقتي النبيلة لطيفة الثويني، بعد صراع طويل مع المرض، صراع لم يكن سوى امتحان صعب لجسدها الواهن وإرادتها الصلبة. كانت تقاتل الألم بابتسامة، كأنها تقول لنا جميعًا: لا تسمحوا للوجع أن يسرقكم من أنفسكم. لكن ماذا نفعل حين ينسحب أحدهم فجأة من حياتنا تاركًا وراءه فراغًا يشبه هوة بلا قاع؟ كيف يتهيأ القلب لاستيعاب فكرة أن الصوت الذي كان يجيب مكالماتنا لم يعد موجودًا؟ وأن الضحكة التي كانت تفكّك تعقيدات أيامنا قد صمتت إلى الأبد؟ الموت ليس حدثًا يُحكى، بل تجربة تنغرس في الروح مثل سكين بطيئة، تجبرنا على إعادة النظر في أبسط تفاصيل حياتنا. مع كل رحيل، يتقلص مدى الأمان من حولنا. نشعر أن الموت، ذلك الكائن المتربّص، لم يعد بعيدًا في تخوم الزمن، بل صار يتجوّل بالقرب منا، يختبر خطواتنا، ويتحرّى أعمارنا التي تتقارب مع أعمار الراحلين. وحين يكون الراحل صديقًا يشبهنا في العمر، ويشاركنا تفاصيل جيل واحد، تصبح المسافة بيننا وبين الفناء أقصر وأكثر قسوة. لم يعد الموت حكاية كبار السن، ولا خبرًا يخص آخرين، بل صار جارًا يتلصص علينا من نافذة الجسد والذاكرة. صديقتي الراحلة كانت تمتلك تلك القدرة النادرة على أن تراك من الداخل، وأن تمنحك شعورًا بأنك مفهوم بلا حاجة لتبرير أو تفسير. لهذا بدا غيابها ثقيلاً، ليس لأنها تركت مقعدًا فارغًا وحسب، بل لأنها حملت معها تلك المساحة الآمنة التي يصعب أن تجد بديلًا لها. أفكر الآن في كل ما تركته خلفها من أسئلة. لماذا نُفاجأ بالموت كل مرة وكأنها الأولى؟ أليس من المفترض أن نكون قد اعتدنا حضوره؟ ومع ذلك يظل الموت غريبًا في كل مرة، جديدًا في صدمته، جارحًا في اختباره، وكأنه يفتح جرحًا لم يلتئم أبدًا. هل نحن من نرفض التصالح معه، أم أنه هو الذي يتقن فنّ المداهمة حتى لو كان متوقعًا؟ ما يوجعني أكثر أن رحيلها كان درسًا لا يمكن تجاهله: أن العمر ليس سوى اتفاق مؤقت بين المرء وجسده، وأن الألفة مع الحياة قد تنكسر في لحظة. كل ابتسامة جمعتها بنا، وكل كلمة قالتها في محاولة لتهوين وجعها، تتحول الآن إلى شاهد على شجاعة نادرة. رحيلها يفضح ضعفنا أمام المرض، لكنه في الوقت ذاته يكشف جمال قدرتها على الصمود حتى اللحظة الأخيرة. إنها واحدة من تلك الأرواح التي تترك أثرًا أبعد من وجودها الجسدي. صارت بعد موتها أكثر حضورًا مما كانت عليه في حياتها. حضور من نوع مختلف، يحاورنا في صمت، ويذكّرنا بأن المحبة الحقيقية لا تموت، بل تعيد ترتيب نفسها في قلوبنا. وربما لهذا نشعر أن الغياب ليس غيابًا كاملًا، بل انتقالًا إلى شكل آخر من الوجود، وجود نراه في الذكريات، في نبرة الصوت التي لا تغيب، في اللمسة التي لا تزال عالقة في الذاكرة. أكتب عن لطيفة رحمها الله اليوم ليس لأحكي حكاية موتها، بل لأواجه موتي القادم. كلما فقدت صديقًا أدركت أن حياتي ليست طويلة كما كنت أتوهم، وأنني أسير في الطريق ذاته، بخطوات متفاوتة، لكن النهاية تظل مشتركة. وما بين بداية ونهاية، ليس أمامي إلا أن أعيش بشجاعة، أن أتمسك بالبوح كما كانت تفعل، وأن أبتسم رغم الألم كما كانت تبتسم. نعم.. الحياة ليست سوى فرصة قصيرة لتبادل المحبة، وأن أجمل ما يبقى بعدنا ليس عدد سنواتنا، بل نوع الأثر الذي نتركه في أرواح من أحببنا. هكذا فقط يمكن أن يتحول الموت من وحشة جارحة إلى معنى يفتح فينا شرفة أمل، حتى ونحن نغالب الفقد الثقيل. مثواك الجنة يا صديقتي.
4617
| 29 سبتمبر 2025