رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني

رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي

مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
بعد سنوات، أعتقد أن المؤرخين سيطلقون على المرحلة التي نشهدها اليوم اسم "سنوات الاكتئاب"، ولا أعتقد أن أحدًا يمتلك معلومات دقيقة حيال المدى الذي من الممكن أن يمتد إليه جنون هذه المرحلة، أو موعد انتهائه. لكننا جميعًا نعلم أن المسلمين هم من يعانون من هذا الجنون وتبعاته.
إن العالم الإسلامي يعاني من حالة اكتئاب عارمة بفعل الأزمة الكبيرة التي يشهدها، والتي ألقت بظلالها القاتمة حتى على تركيا التي تعتبر من أكثر الدول الإسلامية استقرارًا في المنطقة، ما يعكس في الحقيقة حجم الأزمة وأبعادها. في الواقع، إن العالم الإسلامي يعيش في هذه المرحلة حروبًا طائفية كتلك التي جرت في أوروبا خلال العصور الوسطى، وأزماتٍ اقتصادية وانهيار اجتماعيّ كالذي شهدته الولايات المتحدة الأميركية عام 1930، وحروبا داخلية وحالة فوضى عارمة مماثلة لما شهده المعسكر الشرقي بعد انفراط عقد الاتحاد السوفيتي نهاية عام 1991.
تعيش جميع دول العالم الإسلامي باستثناء ماليزيا وإندونيسيا أزمات ومشاكل وحالات عدم استقرار، ولا نمتلك حتى الآن على الأقل إحصائيات دقيقة توضح لنا حجم التكلفة الاقتصادية التي تسببت بها تلك الأزمات متعددة الأبعاد، لكن مما لا شك فيه أن تلك الأزمات تركت تأثيرات عميقة على مختلف مجالات الحياة، حيث أن تلك التأثيرات شملت الاقتصاد والتركيبة السكانية للمنطقة والبنى التحتية والحضرية والحالة النفسية للسكان ومعتقداتهم وغيرها من الجوانب الحيوية. لقد شهدت هذه السنوات تغيراتٍ مهمة جدًا أثرت علينا جميعًا، لكننا لا نستطيع في هذه الآونة إدراكها بكل أبعادها.
انعكاس الجنون، مشاكل حادة
عندما يتعرض جسدنا لخدش أو نزيف أو كسر يسارع الجسم كله لإيجاد الحلول وإزالة المشكلة، وفي حالة وجود أزمة حادّة تهدد بقاء الجسد، نجد أن الدماغ لا يكترث بحل مشاكل فرعية كآلام الظهر أو الرأس وغيرها، بل يكثف جهوده وقدراته على معالجة المشاكل الحيوية.
إن العالم الإسلامي يعاني في الوقت الراهن من مشاكل حادة مثل الاقتتال والصراعات والنفي والتعذيب الجماعي والإرهاب والهجرة والانهيار الاقتصادي ... لذا فإننا لا نجد متسعًا من الوقت في ظل هذه الظروف للتحدث عن انعكاسات تلك الأحداث على عقيدتنا وحياتنا الفكرية والنفسية والاجتماعية، وإذا لم نمعن النظر في تبعات تلك الأحداث ولم نتحدث عن انعكاساتها فإن تجربتنا المريرة معها ستستمر لفترة أطول.
في الواقع، إن العالم الإسلامي شهد مرات عديدة عبر التاريخ حروبًا أهلية، لكني لا أعرف إن كان قد شهد حروبًا وحالة من الجنون كتلك التي نشهدها الآن، اليوم هنالك 7 دول تعاني من حرب فعلية، وأكثر من 10 دول تعاني من مشاكل الإرهاب والفوضى، فيما تهيمن حالة عدم الاستقرار والاضطراب على بقية الدول. لذا فإن حالة خيبة الأمل والحالة النفسية السيئة التي تهيمن على الشعوب المسلمة بسبب حالة الاقتتال وإفرازاته، هي التي ستدفع المؤرخين لاحقًا لتسمية هذا المرحلة بـ "سنوات الكتئاب". خاصة وأن المسلمين باتوا يقتلون بعضهم بعضًا بشكل وحشي بل وبمتعة وبتفاخر في ظل حرب عبثيّة لن تبقِي ولن تذر.
أكبر الأضرار التي تم توجيهها للإسلام
انظروا إلى عشرات الآلاف من المسلمين الذين قضوا تحت سياط التعذيب والجوع في السجون السورية، إن الوحشية التي قتل بها أولئك البشر تظهر حالة الجنون التي تعيشها منطقتنا. إضافة إلى ذلك، ألا تعتقدون أن قيامنا بتسجيل أسماء أولئك الضحايا وتناولهم من قبلنا على أنهم زمرة من المعطيات الإحصائية ثم أرشفة صورهم وأشرطة الفيديو المتعلقة بهم يعبر عن مضمونٍ ووضعٍ غير طبيعي؟ إني أجزم بالقول إن الشخص الذي عدّ ضحايا التعذيب وكتب على أجسادها الأرقام لا يمتلك شخصية سليمة من الناحية النفسية والعقلية.
كما أعتقد أن ما يفعله تنظيم داعش، يعتبر مثالاً لسنوات الجنون التي نشهدها، إن الفظائع التي ارتكبت على يد تنظيم داعش سببت أضرارًا للمسلمين لم يستطع أعداؤهم أن يتسببوا بها حتى في أعتى المعارك، إن هذه العقلية التي تقطع الرؤوس أمام عدسات آلات التصوير، وتتعمد إحراق الناس وتصويرهم وهم يحترقون، سببت دمارًا لصورة الإسلام السمحة التي تحض على التسامح والسلام.
حالة الجنون تضرب الجماعات في تركيا
أعتقد أننا نشهد في تركيا أحداثًا لم يسبق لنا أن شهدناها في هذا البلد. حيث أن الأفعال التي تقوم بها جماعة فتح الله غولن، جعلت الكثيرين يشعرون بالصدمة والحزن، وبالرغم من أن تلك الأحداث لم تفرز تأثيرات حادّة ضمن المجتمع، إلا أنها اعتبرت سابقة تتسم بالغرابة، سيما بعد أن رأينا وشهدنا قيام أفراد هذه الجماعة التي تأسست على يد أشخاصٍ متدينين، بالتنصت سرًا علينا، وانتهاك حرمة حياتنا الخاصة وتسجيلها، فضلًا عن عمليات التجسس والسرقة والتهديد والابتزاز، مما لا شك فيه أن ما يجري لا يمكن تصنيفه على أنه أحداث طبيعية.
بالإضافة إلى ذلك، فإني لا أعتقد أن الأشخاص الذين استخدموا العنف والإرهاب في أحداث "غزي بارك" و"كوباني" في تركيا، يمتلكون شخصيات مستقرة على الصعيد النفسي. ولا أستطيع القول إن مناصري منظمة "بي كا كا" الإرهابية الذين قتلوا المواطن التركي "ياسين بورو" (17 عامًا)، بوحشيّة لم يستطع حتى تنظيم داعش الوصول إليها، وإن الأشخاص الذين أحرقوا سيارات التبرع بالدم وسيارات الإسعاف والمستشفيات وسط العاصمة التركية أنقرة، يمتلكون بنية سيكولوجية سليمة ومتّزنة.
نحن بحاجة لفريق ولفعل شيء ما
إن ما نشهده في الوقت الراهن ليس أحداثًا طبيعية. لقد قمنا بفترات مختلفة بذمّ وإقصاء بعضنا بعضًا، وتراشقنا اتهامات الخيانة، وحولنا بعض الأصدقاء لأعداء حقيقيين. ليس طبيعيًا أبدًا ما اقترفناه من أفعال جعلتنا أقطابًا ومعسكرات متباعدة إلى أقصى حد، نستقوي من خلالها على بعضنا بعضًا، وليس طبيعيًا أبدًا أن نقوم بتدمير مبادئنا وقيمنا التي كرّسنا حياتنا من أجل إحيائها وديمومة بقائها. أعتقد أننا عندما ننظر إلى السنوات الراهنة برزانة ورباطة جأشٍ في المستقبل، سنرى بشكل أفضل وسنفهم الأسباب التي جعلتنا على هذا النحو.
لكن، على أحد ما في هذه المرحلة الخطيرة، أن يدعو إلى التفكير بحسّ سليم وإلى التروي والهدوء والسكينة والصبر وتمالك النفس عند الغضب. نحن في العالم الإسلامي بحاجة لفكرة ولحركة تطوعيّة تتسم بالحكمة، تدفع عنّا الجنون الذي يخيم على منطقتنا، وتحتضننا جميعًا وتهدئ من روعنا وتعيد تأهيلنا، لكي نتمكن من العودة إلى ركب الحضارة الذي فاتنا وابتعد كثيرًا عنّا.
التمويل الحلال الآمن لبناء الثروة
في عالمٍ تتسارع فيه الأرقام وتتناثر فيه الفرص كشراراتٍ في ليلٍ طويل، يقف رائد الأعمال أمام أول سؤال... اقرأ المزيد
270
| 14 ديسمبر 2025
اليوم الوطني.. تجديد الولاء وتعزيز الهوية الوطنية
يحل اليوم الوطني لدولة قطر في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، بوصفه مناسبة تتجاوز حدود الاحتفال... اقرأ المزيد
96
| 14 ديسمبر 2025
التوازن السكاني.. ودوره في ارتفاع نسبة المواطنة
لم نضع أقدامنا في أي موقع خدماتي أو في المجمعات التجارية أو الأماكن السياحية الا ونجد أفواجًا بشرية... اقرأ المزيد
195
| 14 ديسمبر 2025
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية




مساحة إعلانية
لم يكن خروج العنابي من بطولة كأس العرب مجرد خيبة رياضية عابرة، بل كانت صدمة حقيقية لجماهير كانت تنتظر ظهوراً مشرفاً يليق ببطل آسيا وبمنتخب يلعب على أرضه وبين جماهيره. ولكن ما حدث في دور المجموعات كان مؤشراً واضحاً على أزمة فنية حقيقية، أزمة بدأت مع اختيارات المدرب لوبيتيغي قبل أن تبدأ البطولة أصلاً، وتفاقمت مع كل دقيقة لعبها المنتخب بلا هوية وبلا روح وبلا حلول! من غير المفهوم إطلاقاً كيف يتجاهل مدرب العنابي أسماء خبرة صنعت حضور المنتخب في أكبر المناسبات! أين خوخي بوعلام و بيدرو؟ أين كريم بوضياف وحسن الهيدوس؟ أين بسام الراوي وأحمد سهيل؟ كيف يمكن الاستغناء عن أكثر اللاعبين قدرة على ضبط إيقاع الفريق وقراءة المباريات؟ هل يعقل أن تُستبعد هذه الركائز دفعة واحدة دون أي تفسير منطقي؟! الأغرب أن المنتخب لعب البطولة وكأنه فريق يُجرَّب لأول مرة، لا يعرف كيف يبني الهجمة، ولا يعرف كيف يدافع، ولا يعرف كيف يخرج بالكرة من مناطقه. ثلاث مباريات فقط كانت كفيلة بكشف حجم الفوضى: خمسة أهداف استقبلتها الشباك مقابل هدف يتيم سجله العنابي! هل هذا أداء منتخب يلعب على أرضه في بطولة يُفترض أن تكون مناسبة لتعزيز الثقة وإعادة بناء الهيبة؟! المؤلم أن المشكلة لم تكن في اللاعبين الشباب أنفسهم، بل في كيفية إدارتهم داخل الملعب. لوبيتيغي ظهر وكأنه غير قادر على استثمار طاقات عناصره، ولا يعرف متى يغيّر، وكيف يقرأ المباراة، ومتى يضغط، ومتى يدافع. أين أفكاره؟ أين أسلوبه؟ أين بصمته التي قيل إنها ستقود المنتخب إلى مرحلة جديدة؟! لم نرَ سوى ارتباك مستمر، وخيارات غريبة، وتبديلات بلا معنى، وخطوط مفككة لا يجمعها أي رابط فني. المنتخب بدا بلا تنظيم دفاعي على الإطلاق. تمريرات سهلة تخترق العمق، وأطراف تُترك بلا رقابة، وتمركز غائب عند كل هجمة. أما الهجوم، فقد كان حاضراً بالاسم فقط؛ لا حلول، لا جرأة، لا انتقال سريع، ولا لاعب قادر على صناعة الفارق. كيف يمكن لفريق بهذا الأداء أن ينافس؟ وكيف يمكن لجماهيره أن تثق بأنه يسير في الطريق الصحيح؟! الخروج من دور المجموعات ليس مجرد نتيجة سيئة، بل مؤشر مخيف! فهل يدرك الجهاز الفني حجم ما حدث؟ هل يستوعب لوبيتيغي أنه أضاع هوية منتخب بطل آسيا؟ وهل يتعلم من أخطاء اختياراته وإدارته؟ أم أننا سننتظر صدمة جديدة في استحقاقات أكبر؟! كلمة أخيرة: الأسئلة كثيرة، والإجابات حتى الآن غائبة، لكن من المؤكّد أن العنابي بحاجة إلى مراجعة عاجلة وحقيقية قبل أن تتكرر الخيبة مرة أخرى.
2292
| 10 ديسمبر 2025
عندما يصل شاب إلى منصب قيادي مبكرًا، فهذا لا يعني بالضرورة أنه الأفضل والأذكى والأكثر كفاءة، بل قد تكون الظروف والفرص قد أسهمت في وصوله. وهذه ليست انتقاصًا منه، بل فرصة يجب أن تُستثمر بحكمة. ومن الطبيعي أن يواجه القائد الشاب تحفظات أو مقاومة ضمنية من أصحاب الخبرة والكفاءات. وهنا يظهر أول اختبار له: هل يستفيد من هذه الخبرات أم يتجاهلها ؟ وكلما استطاع القائد الشاب احتواء الخبرات والاستفادة منها، ازداد نضجه القيادي، وتراجع أثر الفجوة العمرية، وتحوّل الفريق إلى قوة مشتركة بدل أن يكون ساحة تنافس خفي. ومن الضروري أن يدرك القائد الشاب أن أي مؤسسة يتسلّمها تمتلك تاريخًا مؤسسيًا وإرثًا طويلًا، وأن ما هو قائم اليوم هو حصيلة جهود وسياسات وقرارات صاغتها أجيال متعاقبة عملت تحت ظروف وتحديات قد لا يدرك تفاصيلها. لذلك، لا ينبغي أن يبدأ بهدم ما مضى أو السعي لإلغائه؛ فالتطوير والبناء على ما تحقق سابقًا هو النهج الأكثر نضجًا واستقرارًا وأقل كلفة. وهو وحده ما يضمن استمرارية العمل ويُجنّب المؤسسة خسائر الهدم وإعادة البناء. وإذا أراد القائد الشاب أن يرد الجميل لمن منحه الثقة، فعليه أن يعي أن خبرته العملية لا يمكن أن تضاهي خبرات من سبقه، وهذا ليس نقصًا بل فرصة للتعلّم وتجنّب الوقوع في وهم الغرور أو الاكتفاء بالذات. ومن هنا تأتي أهمية إحاطة نفسه بدائرة من أصحاب الخبرة والكفاءة والمشورة الصادقة، والابتعاد عن المتسلقين والمجاملين. فهؤلاء الخبراء هم البوصلة التي تمنعه من اتخاذ قرارات متسرّعة قد تكلّف المؤسسة الكثير، وهم في الوقت ذاته إحدى ركائز نجاحه الحقيقي ونضجه القيادي. وأي خطأ إداري ناتج عن حماس أو عناد قد يربك المسار الاستراتيجي للمؤسسة. لذلك، ينبغي أن يوازن بين الحماس ورشادة القرار، وأن يتجنب الارتجال والتسرع. ومن واجبات القائد اختيار فريقه من أصحاب الكفاءة (Competency) والخبرة (Experience)، فنجاحه لا يتحقق دون فريق قوي ومتجانس من حوله. أما الاجتماعات والسفرات، فالأصل أن تُعقَد معظم الاجتماعات داخل المؤسسة (On-Site Meetings) ليبقى القائد قريبًا من فريقه وواقع عمله. كما يجب الحدّ من رحلات العمل (Business Travel) إلا للضرورة؛ لأن التواجد المستمر يعزّز الانضباط، ويمنح القائد فهمًا أعمق للتحديات اليومية، ويُشعر الفريق بأن قائده معهم وليس منعزلًا عن بيئة عملهم. ويمكن للقائد الشاب قياس نجاحه من خلال مؤشرات أداء (KPIs) أهمها هل بدأت الكفاءات تفكر في المغادرة؟ هل ارتفع معدل دوران الموظفين (Turnover Rate)؟ تُمثل خسارة الكفاءات أخطر تهديد لاستمرارية المؤسسة، فهي أشد وطأة من خسارة المناقصات أو المشاريع أو أي فرصة تجارية عابرة. وكتطبيق عملي لتعزيز التناغم ونقل المعرفة بين الأجيال، يُعدّ تشكيل لجنة استشارية مشتركة بين أصحاب الخبرة الراسخة والقيادات الصاعدة آلية ذات جدوى مضاعفة. فإلى جانب ضمانها اتخاذ قرارات متوازنة ومدروسة ومنع الاندفاع أو التفرد بالرأي، فإن وجود هذه اللجنة يُغني المؤسسة عن اللجوء المتكرر للاستشارات العالمية المكلفة في كثير من الخطط والأهداف التي يمكن بلورتها داخليًا بفضل الخبرات المتراكمة. وفي النهاية، تبقى القيادة الشابة مسؤولية قبل أن تكون امتيازًا، واختبارًا قبل أن تكون لقبًا. فالنجاح لا يأتي لأن الظروف منحت القائد منصبًا مبكرًا، بل لأنه عرف كيف يحوّل تلك الظروف والفرص إلى قيمة مضافة، وكيف يبني على خبرات من سبقه، ويستثمر طاقات من حوله.
1200
| 09 ديسمبر 2025
في عالمٍ يزداد انقسامًا، وفي إقليم عربي مثقل بالتحزّبات والصراعات والاصطفافات، اختارت قطر أن تقدّم درسًا غير معلن للعالم: أن الرياضة يمكن أن تكون مرآة السياسة حين تكون السياسة نظيفة، عادلة، ومحلّ قبول الجميع واحترام عند الجميع. نجاح قطر في استضافة كأس العرب لم يكن مجرد تنظيم لبطولة رياضية، بل كان حدثًا فلسفيًا عميقًا، ونقلاً حياً ومباشراً عن واقعنا الراهن، وإعلانًا جديدًا عن شكلٍ مختلف من القوة. قوة لا تفرض نفسها بالصوت العالي، ولا تتفاخر بالانحياز، ولا تقتات على تفتيت الشعوب، بل على القبول وقبول الأطراف كلها بكل تناقضاتها، هكذا تكون عندما تصبح مساحة آمنة، وسطٌ حضاري، لا يميل، لا يخاصم، ولا يساوم على الحق. لطالما وُصفت الدوحة بأنها (وسيط سياسي ناجح ) بينما الحقيقة أكبر من ذلك بكثير. الوسيط يمكن أن يُستَخدم، يُستدعى، أو يُستغنى عنه. أما المركز فيصنع الثقل، ويعيد التوازن، ويصبح مرجعًا لا يمكن تجاوزه. ما فعلته قطر في كأس العرب كان إثباتاً لهذه الحقيقة: أن الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة حضاريًا، تستطيع أن تجمع حولها من لا يجتمع. ولم يكن ذلك بسبب المال، ولا بسبب البنية التحتية الضخمة، بل بسبب رأس مال سياسي أخلاقي حضاري راكمته قطر عبر سنوات، رأس مال نادر في منطقتنا. لأن البطولة لم تكن مجرد ملاعب، فالملاعب يمكن لأي دولة أن تبنيها. فالروح التي ظهرت في كأس العرب روح الضيافة، الوحدة، الحياد، والانتماء لكل القضايا العادلة هي ما لا يمكن فعله وتقليده. قطر لم تنحز يومًا ضد شعب. لم تتخلّ عن قضية عادلة خوفًا أو طمعًا. لم تسمح للإعلام أو السياسة بأن يُقسّما ضميرها، لم تتورّط في الظلم لتكسب قوة، ولم تسكت عن الظلم لتكسب رضا أحد. لذلك حين قالت للعرب: حيهم إلى كأس العرب، جاؤوا لأنهم يأمنون، لأنهم يثقون، لأنهم يعلمون أن قطر لا تحمل أجندة خفية ضد أحد. في المدرجات، اختلطت اللهجات كما لم تختلط من قبل، بلا حدود عسكرية وبلا قيود أمنية، أصبح الشقيق مع الشقيق لأننا في الأصل والحقيقة أشقاء فرقتنا خيوط العنكبوت المرسومة بيننا، في الشوارع شعر العربي بأنه في بلده، فلا يخاف من رفع علم ولا راية أو شعار. نجحت قطر مرة أخرى ولكن ليس كوسيط سياسي، نجحت بأنها أعادت تعريف معنى «العروبة» و»الروح المشتركة» بطريقة لم تستطع أي دولة أخرى فعلها. لقد أثبتت أن الحياد العادل قوة. وأن القبول العام سياسة. وأن الاحترام المتبادل أكبر من أي خطاب صاخب. الرسالة كانت واضحة: الدول لا تُقاس بمساحتها، بل بقدرتها على جمع المختلفين. أن النفوذ الحقيقي لا يُشترى، بل يُبنى على ثقة الشعوب. أن الانحياز للحق لا يخلق أعداء، بل يصنع احترامًا. قطر لم تنظّم بطولة فقط، قطر قدّمت للعالم نموذج دولة تستطيع أن تكون جسرًا لا خندقًا، ومساحة لقاء لا ساحة صراع، وصوتًا جامعًا لا صوتًا تابعًا.
786
| 10 ديسمبر 2025