رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مكتبتي مليئة بالكتب التي تتحدث عن الحركات الإسلامية، كتب أكاديمية غربية، بعضها انتهى وقتها، فللكتب حياة كحياة البشر، تعيش طفولتها وشبابها وشيخوختها ثم تموت، وبعضها تبقى لعمر أطول، وبعضها تعمر كما عمر نوح، تبقى بيننا بحيويتها وشبابها وكأنها شربت من نبع الحياة، فهي لا تشيخ ولا تموت، يقرأها جيل بعد جيل وكل جيل يرى فيها نفسه، فتعيش، هكذا قدر لها.
وأخرى تحكي تجارب شخصية كتبها معتقلون سابقون في سجون عبد الناصر، وأخرى تتحدث عن المرأة في الإسلام، وقفت أمام النقاب متسائلا مستفسرا ثم بحثت عنه في الكتب حتى خرجت بما أنا مقتنع به ولست أخاصم الآخرين عليه، وعن الحياة، كيف يجب أن تكون نظرتنا لها؟ وعن الموت وانتظاره، استهوتني كتب الرقائق، وجدت بها طمأنة لقلبي في مرحلة من حياتي، استغرقت في كتب الشيخ محمد أحمد الراشد التي وجدت فيها لغة لم أقرأها من قبل، لغته راقية، قوية، ثابتة، مقنعة، تقودك إلى حيث يريد مستسلما لها، فللغة الجميلة تأثير السحر، تسحرك، فتجد نفسك محترما دورها، بقلم ينحت الورق ليشكل منه تحفة فنية راقية قلما تجدها في أقلام الآخرين، وسحت مع الشيخ علي الطنطاوي في مذكراته وكتبه التي كتبها بروحه قبل قلمه، وقلبه قبل عقله، فكتاباه رجال من التاريخ وقصص من التاريخ مازالا في ذاكرتي، فقد حفرا مكانهما في عقلي وبقيا فيه، ومازلت أعتبر نفسي من تلاميذه، مع أنني لم أقابله في حياتي، بحثت عن كتبه في كل مكتبة دخلتها، مذكراته مليئة بالعبر والتجارب، هي حياة مروية بعقل واع، فقد أدمنت أسلوبه وعشقت قلمه.
كنت أستمع لبرنامج "قول على قول" في قناة البي بي سي حين كانت تهتم بالأدب والتاريخ وعندما كانت لغتها العربية رصينة قوية تفرض موسيقاها على أذن السامع، وكنت مدمنا على برنامج "من القائل" حتى حصلت على مجلداته بعد ذلك وقرأتها كلها، مستمتعا بها وكأني وقعت على كنز.
قرأت للشيخ الغزالي، فهو صاحب قلم مقاتل بعكس شخصيته الهادئة الوديعة، وقفت في شبابي أمام كتاباته متسائلا، مستفسرا، باحثا، ولكنه أقنعني، عندما تقرأ له من دون أحكام مسبقة تجد أنه يكتب بعقله، ويضع قدمه، حيث لم يتجرأ أحد على أن يسير، يكتب بأسلوب المحب الوجل، الذي تشعر بحبه لك يتقاطر بين السطور.
وقرأت لجدي، والد والدتي، الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، وعلي أن أعترف أنني لم اقرأ له إلا بعد وفاته، رحمه الله، فقد كان سلفي العقيدة، حر الرأي، لم يلزم نفسه برأي لم يلزمنا الشارع به، فالعادة عنده غير مقدسة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر، هكذا كنت أشعر به في صغري، يصدح مجلسه مساء بمن يقرأ له من كتب يحب أن يستمع إليها، وفي الأعياد والمناسبات كان مجلسه عامرا بشخصيات كنت أتأملها صغيرا، شخصيات تمثل الأديان المختلفة بلباسها الديني، كان يرحب بها ويتحدث معها باحترام، تعلمت في مجلسه أن كل الأديان يجب أن تحترم، فالناس أحرار بما يريدون أن يعتقدوه، لم يكن يسفه رأي احد، بل كانت حجته مكتوبة لمن أراد أن يرجع إليها، وبعد وفاته تصفحت كتبه وأعجبت بمواقفه التي دافع عنها بكل قوة في وجه من خالفوه، حاولت أن أكتب عنه ولكن قلمي لم يطاوعني حينها، فقد كنت أرى وجهه يطل علي في كل صفحة، وكان فقده حديثا حينذاك، فآثرت التوقف، فلمحبيه أقلام كثر قد يسعفوني بما لم أتمكن منه.
وفي واشنطن أهداني خالي كتاب العقد الفريد، فقرأته ثم حصلت على سلسلته بعد أن عدت إلى الدوحة، ولم أجد ما هو أجمل منه لزيادة الحصيلة اللغوية والمعرفية، فهو عقد بلآلئ متنوعة وكل لؤلؤة لها شكلها الخاص الفريد بها، ولم أكن أتوقع أنني سأتعرف على العقد في واشنطن العاصمة!!
أتساءل أحيانا، إن اقتحم مكتبتي ثلة من عناصر المخابرات فبماذا سيخرجون؟ وكيف سيكتبون تقريرهم؟ ففيها كل الكتب التي ذكرت سابقا، وفيها كتب للروائيين الروس مثل ليوتولستوي وغيره، فهل أنا من معارضي الثورة البلشفية؟ وفيها كتب عن أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي وغيره، فأنا معجب بهم، نعم بالحمقى والمغفلين، فهم يضيفون طعما إلى حياتنا، وما يقومون به يضحكنا ويسلينا ويخرجنا من تلك السياسة الغامضة الجامدة إلى سياستهم المضحكة المبكية التي نعيشها هذه الأيام.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
7920
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6969
| 14 أكتوبر 2025
المعرفة التي لا تدعم بالتدريب العملي تصبح عرجاء. فالتعليم يمنح الإطار، بينما التدريب يملأ هذا الإطار بالحياة والفاعلية. في الجامعات تحديدًا، ما زال كثير من الطلاب يتخرجون وهم يحملون شهادات مليئة بالمعرفة النظرية، لكنهم يفتقدون إلى الأدوات التي تمكنهم من دخول سوق العمل بثقة. هنا تكمن الفجوة بين التعليم والتدريب. فبدلاً من أن يُترك الخريج يبحث عن برامج تدريبية بعد التخرج، من الأجدى أن يُغذّى التعليم الجامعي بجرعات تدريبية ممنهجة، وأن يُطرح مسار فرعي بعنوان «إعداد المدرب» ليخرّج طلابًا قادرين على التعلم وتدريب الآخرين معًا. تجارب ناجحة: - ألمانيا: اعتمدت نظام التعليم المزدوج، حيث يقضي الطالب جزءًا من وقته في الجامعة وجزءًا آخر في بيئة العمل والنتيجة سوق عمل كفؤ، ونسب بطالة في أدنى مستوياتها. - كوريا الجنوبية: فرضت التدريب الإلزامي المرتبط بالصناعة، فصار الخريج ملمًا بالنظرية والتطبيق معًا، وكانت النتيجة نهضة صناعية وتقنية عالمية. -كندا: طورت نموذج التعليم التعاوني (Co-op) الذي يدمج الطالب في بيئة العمل خلال سنوات دراسته. هذا أسهم في تخريج طلاب أصحاب خبرة عملية، ووفّر على الدولة تكاليف إعادة التأهيل بعد التخرج. انعكاسات التعليم بلا تدريب: 1. اقتصاديًا: غياب التدريب يزيد الإنفاق الحكومي على إعادة التأهيل. أما إدماج التدريب، فيسرّع اندماج الخريج في السوق ويضاعف الإنتاجية. 2. مهنيًا: الطالب المتدرب يتخرج بخبرة عملية وشبكة علاقات مهنية، ما يمنحه ثقة أكبر وفرصًا أوسع. 3. اجتماعيًا: حين يتقن الشباب المهارات العملية، تقل مستويات الإحباط، ويتحولون من باحثين عن وظيفة إلى صانعين للفرص. حلول عملية مقترحة لقطر: 1. دمج التدريب ضمن المناهج الجامعية: أن تُخصص كل جامعة قطرية 30% من الساعات الدراسية لتطبيقات عملية ميدانية بالتعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص واعتماد التدريب كمتطلب تخرج إلزامي لا يقل عن 200 ساعة. 2. إنشاء مجلس وطني للتكامل بين التعليم والتدريب: يضم وزارتي التعليم والعمل وممثلي الجامعات والقطاع الخاص، ليضع سياسات تربط بين الاحتياج الفعلي في السوق ومخرجات التعليم. 3. تفعيل مراكز تدريب جامعية داخلية: تُدار بالشراكة مع مراكز تدريب وطنية، لتوفير بيئات تدريبية تحاكي الواقع العملي. 4. تحفيز القطاع الخاص على التدريب الميداني. منح حوافز ضريبية أو أولوية في المناقصات للشركات التي توفر فرص تدريب جامعي مستدامة. الخلاصة التعليم بلا تدريب يظل معرفة ناقصة، عاجزة عن حمل الأجيال نحو المستقبل. إنّ إدماج التدريب في التعليم الجامعي، وإيجاد تخصصات فرعية في إعداد المدربين، سيضاعف قيمة التعليم ويحوّله إلى أداة لإطلاق الطاقات لا لتخزين المعلومات. فحين يتحول كل متعلم إلى مُمارس، وكل خريج إلى مدرب، سنشهد تحولًا حقيقيًا في جودة رأس المال البشري في قطر، بما يواكب رؤيتها الوطنية ويقودها نحو تنمية مستدامة.
2853
| 16 أكتوبر 2025