رئيس مجلس الإدارة : د. خالد بن ثاني آل ثاني
رئيس التحرير: جابر سالم الحرمي
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
لاتزال الثورات الديمقراطية العربية في بداياتها، رغم سقوط عدد من الأنظمة الديكتاتورية العربية في كل من تونس، ومصر، وليبيا، وككل الثورات التي شهدها عالمنا المعاصر منذ القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، تعرف الثورات الديمقراطية العربية حالة من المد والجزر، وحتى من «الخيانة» لا سيما من جانب الدول الغربية التي تحدد مواقفها بدلالة مصالحها النفطية، وحسابات الربح والخسارة، وأمن إسرائيل، لا بدلالة القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان، وهي لا تكترث أبداً لتطلعات وطموحات الشعوب العربية في تحقيق حريتها وكرامتها الإنسانية.
ويتساءل المحللون الغربيون، هل ثمة تشابه بين ربيع الثورات العربية في سنة 2011، وربيع الثورات الأوروبية في عام 1848؟ هناك رأي يقول إن ثمة فرقاً بيّناً بين الثورات العربية، والثورات التي حصلت في أوروبا الشرقية عقب سقوط جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة في سنة 1989، حيث إن تلك الثورات التي أسقطت الأنظمة الشيوعية الشمولية وأفضت إلى طي الشيوعية، والانعتاق في خيار العولمة الليبرالية، ولدت من رحم حادثة سياسية واحدة هي سحب السوفيات دعمهم الديكتاتوريين المحليين. وعلى خلاف ثورات 1989 الأوروبية، وهذه تشابهت مساراتها ومطالبها، الثورات العربية هي من بنات عوامل متشعبة وكثيرة، منها الاقتصادي والتكنولوجي والسكاني. وخطت الثورة في كل من المناطق العربية مساراً خاصاً بها. وعليه، الثورات العربية هي أقرب إلى ثورات أوروبا في 1848 منها إلى ثورات 1989.
ففي ثورات أوروبا 1848، منيت معظمها بالإخفاق. فالمجريون طردوا النمسويين. ولكن هؤلاء سرعان ما عادوا أدراجهم. وأخفق الألمان في الاتحاد. وأنشأ الفرنسيون جمهورية انهارت بعد أعوام قليلة. وصيغت دساتير لم تنفذ، وأهملت، وبقيت في الأدراج. وأطيحت ممالك، ثم أرسيت من جديد. ويقول المؤرخ أ.ب.جي تايلور عن لحظة 1848 الأوروبية إن «التاريخ بلغ منعطفاً ولكنه لم ينعطف».ولكن الأفكار التي كانت متداولة في 1848 ترسخت في الثقافة والمجتمع، وبلغــت بـعض أهداف الثـــورات هذه لاحقاً. ففي نهاية القرن التاسع عشر، أفلح المـسـتـشار بيــسمارك في توحيد ألمـانيا. وأبـصرت الجمهورية الثالثة النور في فرنسا. واستقلت الأمم التي حكمتها إمبراطورية الهابسبورغ بعد الحرب العالمية الأولى. وفي 1849، بدا أن معظم ثورات العام السابق أخفق، وأنه انتهى إلى كارثة. ولكن تقويم الثورات هذه بعد نحو خمسة عقود في 1899 أو بعد الحرب العالمية الأولى في 1919 اختلف. وبدا يومها أن 1848 هي بداية مرحلة تغيير مثمرة. وفي العالم العربي اليوم، وفي مرآة 2012 قد يبدو أن بعض هذه الثورات العربية أخفق. فالأنظمة الديكتاتورية المطاحة قد تنبعث، وتكتب لها حياة جديدة. وقد تخفق الديمقراطية، وقد تنقلب النزاعات الإثنية حرباً اثنية. وعلى ما تظهر تجارب 1848، تغير الأنظمة السياسية هو سيرورة طويلة تحتاج إلى الوقت. وقد لا يكون التغيير وليد ثورة، بل ثمرة التفاوض والتنازل عن السلطة. وقد يلجأ بعض ديكتاتوريي المنطقة إلى هذا الحل.
لكن بشهادة كبار المحللين العرب والغربيين، يشهد العالم العربي يقظة جديدة من الثورات الديمقراطية، تقودها حركات شبابية جامعية نزلت إلى شوارع العواصم والمدن الكبرى العربية، ووصلت إلى سنّ الوعي، وتستخدم أرقى ما توصلت إليه ثورة الإنترنت، وثقافة الفيسبوك من أجل توعية المواطنين العرب بقيم الحرية والكرامة، والمواطنة، والمشاركة السياسية والتعددية الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، لإحداث التغيير السياسي الذي طال انتظاره في معظم البلدان العربية.
وإذا كانت هذه الديناميكية الشبابية التي طرحت معركة «إسقاط النظام» باعتبارها المعركة الرمزيّة الأولى لإثبات القدرة والوعي أن كلّ شيء سيتغير في العالم العربي، وحققت نجاحات مهمة في ثلاث بلدان عربية هي تونس، ومصر، وليبيا، فإنها لا تزال تشق طريقها في ظل تضاريس وعرة في كل سوريا، وغيرها من البلدان العربية. وفي المنظور السوسيولوجي القيمي، تخوض الحركات الشبابية العربية إلى جانب مطالباتها السياسية التي ليست معركتها الوحيدة، ثورة أخرى لا تقل أهمية هي ثورة على القيم التقليدية الموروثة من الأب والعائلة والعشيرة والمدينة، تذكرنا بثورة الشباب (مايو 1968) التي هزت البلدان الأوروبية، وتصادمت في ذلك الوقت مع القيم البرجوازية التي كانت مسيطرة، في المجتمعات الغربية الرأسمالية، وهو ما أفسح في المجال لولادة تنظيمات اليسار الجديد لاحقاً.
إن أهم خاصية للثورات الديمقراطية العربية، أنها حطمت ما يسمى في علم الاجتماع الحديث بالسلم الاجتماعية، لأن الدول العربية التي يغلب عليها الطابع الريعي سواء النفطية أو غير النفطية مثل مصر، التي تعيش على السياحة، ومن تحويلات عائدات المهاجرين المصريين في الخارج، ومن عائدات قناة السويس، ومن المساعدات الأميركية، هذه الدول جميعها عجز ت عن إيجاد حلول واقعية للبطالة لا سيما بطالة الخريجين من الجامعات.
الثورة التونسية التي فجرت ما يسمى اليوم بـ «الربيع العربي»، ودشنت دورة جديدة في التاريخ السياسي العربي، كانت متناقضة كلياً مع أيديولوجية العنف وعقيدة التدمير التي تتبناها «القاعدة» وأخواتها من تنظيمات «أنصار الشريعة» المنتشرة في تونس وليبيا واليمن، والداعية إلى كراهية أمريكا وإلى العنف والتدمير كوسيلة للتغيير. وتبنت الثورة التونسية نظرية البناء عقيدة لا التدمير والعنف، واختارت القطع الثوري مع النظام القديم. الثورة قطيعة، وتجاوز ديالكتيكي للواقع القائم، وهي تطمح إلى تشييد، نظام جديد يقوم على المبادئ التي ترتكز عليها المجتمعات الديمقراطية المعاصرة والمتطورة.
هذه الثورة لم تكن موجهة ضد عدو خارجي، بل كانت موجهة ضد نظام الاستبداد الذي استقر لعقود من الزمن منذ رحيل الاستعمار عن البلدان العربي، نظام الاستبداد بشقيه المستنير والأبوي أو نظام الاستبداد الطاغي والنهاب. والرهام لم يعد مقتصرا على مفاوضات مع فاعلين خارجيين أصدقاء كانوا أو أعداء، وإنما على التطورات الداخلية بالأساس لهذه المجتمعات العربية التي أصبحت ضرورية، تحت ضغط القوى الاجتماعية نفسها.
لاشك أن الذي يحدد هذه التطورات في آن معاً، قوى القطيعة الثورية، وقوى الاستمرارية، وقوى التجديد. فلا يوجد نظام ثوري جاهز، فالمجتمع هو الذي يحدد وبشكل سيادي ما يجب أن يتحرر منه، ويتمسك به، وما يترتب عليه من بناء نظام ديمقراطي جديد يكون الجواب التاريخي لإدراكه الدخول فيما يسمى حضارة العصر والمجتمعات الديمقراطية. وإذا كانت هذه التطورات منوطة بالإرادة الشعبية، فإنها مع ذلك تصطدم بعدة عوائق كبيرة من أجل بناء نظام ديمقراطي جديد.
فالتحول الديمقراطي يستهدف إجراء إصلاحات جذرية على جميع المستويات من أجل إرساء نظام ديمقراطي جديد، يتسم بالرسوخ، ويؤسس لدولة المؤسسات والقانون.
أولاً: ضرورة وجود الديمقراطية التعددية، التي تتطلب إنشاء أحزاب معارضة كعملية طبيعية لحرية الفرد في إبداء رأيه، وحرية انتقاد الحكومة، وحرية الشعب في إعادة إقامة حكومة يختارها عن طريق الاقتراع السري. فالتحول الديمقراطي، يقتضي التحرر كليا من نظام الحزب الواحد القابض على زمام السلطة، ووجود معارضة منظمة كخلف احتياطي محتمل وفي استطاعتها أن تحل محل الحكومة.
إن الديمقراطية التعددية هي التي تضمن المشاركة الشعبية الواسعة النطاق، ورضاء من جانب المحكومين، ونوع من الرقابة العامة على هؤلاء الذين يتولون السلطة. ولاشك أن الديمقراطية التعددية قد تتخذ أشكالاً وترتيبات سياسية متنوعة طبقاً للظروف والحلول التاريخية المرتبطة بكل بلد.
ثانياً: إن التحول الديمقراطي الحقيقي مرتبط بالتنمية الاقتصادية، وهو يقوم على دعامتين أساسيتين: الدعامة الأولى تتمثل في أن الديمقراطية تعني تنظيم الأفراد في جماعات تنافسية من خلال نظام تعددية حزبية بهدف السيطرة على سلطة الدولة. والدعامة الثانية، إن الديمقراطية شرط أساسي لبناء الدولة الوطنية التي تستطيع مقاومة الضغوط السلبية النابعة من النظام الدولي الجديد الذي تتحكم فيه القوى الدولية الغربية، والمؤسسات المالية المانحة، وكذلك ما يترتب عليها داخليا من آثار وعواقب.
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
مساحة إعلانية
المشهد الغريب.. مؤتمر بلا صوت! هل تخيّلتم مؤتمرًا صحفيًا لا وجود فيه للصحافة؟ منصة أنيقة، شعارات لامعة، كاميرات معلّقة على الحائط، لكن لا قلم يكتب، ولا ميكروفون يحمل شعار صحيفة، ولا حتى سؤال واحد يوقظ الوعي! تتحدث الجهة المنظمة، تصفق لنفسها، وتغادر القاعة وكأنها أقنعت العالم بينما لم يسمعها أحد أصلًا! لماذا إذن يُسمّى «مؤتمرًا صحفيًا»؟ هل لأنهم اعتادوا أن يضعوا الكلمة فقط في الدعوة دون أن يدركوا معناها؟ أم لأن المواجهة الحقيقية مع الصحفيين باتت تزعج من تعودوا على الكلام الآمن، والتصفيق المضمون؟ أين الصحافة من المشهد؟ الصحافة الحقيقية ليست ديكورًا خلف المنصّة. الصحافة سؤالٌ، وجرأة، وضمير يسائل، لا يصفّق. فحين تغيب الأسئلة، يغيب العقل الجمعي، ويغيب معها جوهر المؤتمر ذاته. ما معنى أن تُقصى الميكروفونات ويُستبدل الحوار ببيانٍ مكتوب؟ منذ متى تحوّل «المؤتمر الصحفي» إلى إعلان تجاري مغلّف بالكلمات؟ ومنذ متى أصبحت الصورة أهم من المضمون؟ الخوف من السؤال. أزمة ثقة أم غياب وعي؟ الخوف من السؤال هو أول مظاهر الضعف في أي مؤسسة. المسؤول الذي يتهرب من الإجابة يعلن – دون أن يدري – فقره في الفكرة، وضعفه في الإقناع. في السياسة والإعلام، الشفافية لا تُمنح، بل تُختبر أمام الميكروفون، لا خلف العدسة. لماذا نخشى الصحفي؟ هل لأننا لا نملك إجابة؟ أم لأننا نخشى أن يكتشف الناس غيابها؟ الحقيقة الغائبة خلف العدسة ما يجري اليوم من «مؤتمرات بلا صحافة» هو تشويه للمفهوم ذاته. فالمؤتمر الصحفي لم يُخلق لتلميع الصورة، بل لكشف الحقيقة. هو مساحة مواجهة بين الكلمة والمسؤول، بين الفعل والتبرير. حين تتحول المنصّة إلى monologue - حديث ذاتي- تفقد الرسالة معناها. فما قيمة خطاب بلا جمهور؟ وما معنى شفافية لا تُختبر؟ في الختام.. المؤتمر بلا صحفيين، كالوطن بلا مواطنين، والصوت بلا صدى. من أراد الظهور، فليجرب الوقوف أمام سؤال صادق. ومن أراد الاحترام فليتحدث أمام من يملك الجرأة على أن يسأله: لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟
6735
| 13 أكتوبر 2025
انتهت الحرب في غزة، أو هكذا ظنّوا. توقفت الطائرات عن التحليق، وصمت هدير المدافع، لكن المدينة لم تنم. فمن تحت الركام خرج الناس كأنهم يوقظون الحياة التي خُيّل إلى العالم أنها ماتت. عادوا أفراداً وجماعات، يحملون المكان في قلوبهم قبل أن يحملوا أمتعتهم. رأى العالم مشهدًا لم يتوقعه: رجال يكنسون الغبار عن العتبات، نساء يغسلن الحجارة بماء بحر غزة، وأطفال يركضون بين الخراب يبحثون عن كرة ضائعة أو بين الركام عن كتاب لم يحترق بعد. خلال ساعات معدودة، تحول الخراب إلى حركة، والموت إلى عمل، والدمار إلى إرادة. كان المشهد إعجازًا إنسانيًا بكل المقاييس، كأن غزة بأسرها خرجت من القبر وقالت: «ها أنا عدتُ إلى الحياة». تجاوز عدد الشهداء ستين ألفًا، والجراح تزيد على مائة وأربعين ألفًا، والبيوت المدمرة بالآلاف، لكن من نجا لم ينتظر المعونات، ولم ينتظر أعذار من خذلوه وتخاذلوا عنه، ولم يرفع راية الاستسلام. عاد الناس إلى بقايا منازلهم يرممونها بأيديهم العارية، وكأن الحجارة تُقبّل أيديهم وتقول: أنتم الحجارة بصمودكم لا أنا. عادوا يزرعون في قلب الخراب بذور الأمل والحياة. ذلك الزحف نحو النهوض أدهش العالم، كما أذهله من قبل صمودهم تحت دمار شارك فيه العالم كله ضدهم. ما رآه الآخرون “عودة”، رآه أهل غزة انتصارًا واسترجاعًا للحق السليب. في اللغة العربية، التي تُحسن التفريق بين المعاني، الفوز غير النصر. الفوز هو النجاة، أن تخرج من النار سليم الروح وإن احترق الجسد، أن تُنقذ كرامتك ولو فقدت بيتك. أما الانتصار فهو الغلبة، أن تتفوق على خصمك وتفرض عليه إرادتك. الفوز خلاص للنفس، والانتصار قهر للعدو. وغزة، بميزان اللغة والحق، (فازت لأنها نجت، وانتصرت لأنها ثبتت). لم تملك الطائرات ولا الدبابات، ولا الإمدادات ولا التحالفات، بل لم تملك شيئًا البتة سوى الإيمان بأن الأرض لا تموت ما دام فيها قلب ينبض. فمن ترابها خُلِقوا، وهم الأرض، وهم الركام، وهم الحطام، وها هم عادوا كأمواج تتلاطم يسابقون الزمن لغد أفضل. غزة لم ترفع سلاحًا أقوى من الصبر، ولا راية أعلى من الأمل. قال الله تعالى: “كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ”. فانتصارها كان بالله فقط، لا بعتاد البشر. لقد خسر العدو كثيرًا مما ظنّه نصرًا. خسر صورته أمام العالم، فصار علم فلسطين ودبكة غزة يلفّان الأرض شرقًا وغربًا. صار كلُّ حر في العالم غزاويًّا؛ مهما اختلف لونه ودينه ومذهبه أو لغته. وصار لغزة جوازُ سفرٍ لا تصدره حكومة ولا سلطة، اسمه الانتصار. يحمله كل حر وشريف لايلزم حمله إذنٌ رسمي ولا طلبٌ دبلوماسي. أصبحت غزة موجودة تنبض في شوارع أشهر المدن، وفي أكبر الملاعب والمحافل، وفي اشهر المنصات الإعلامية تأثيرًا. خسر العدو قدرته على تبرير المشهد، وذهل من تبدل الأدوار وانقلاب الموازين التي خسرها عليها عقوداً من السردية وامولاً لا حد لها ؛ فالدفة لم تعد بيده، والسفينة يقودها أحرار العالم. وذلك نصر الله، حين يشاء أن ينصر، فلله جنود السماوات والأرض. أما غزة، ففازت لأنها عادت، والعود ذاته فوز. فازت لأن الصمود فيها أرغم السياسة، ولأن الناس فيها اختاروا البناء على البكاء، والعمل على العويل، والأمل على اليأس. والله إنه لمشهدُ نصر وفتح مبين. من فاز؟ ومن انتصر؟ والله إنهم فازوا حين لم يستسلموا، وانتصروا حين لم يخضعوا رغم خذلان العالم لهم، حُرموا حتى من الماء، فلم يهاجروا، أُريد تهجيرهم، فلم يغادروا، أُحرقت بيوتهم، فلم ينكسروا، حوصرت مقاومتهم، فلم يتراجعوا، أرادوا إسكاتهم، فلم يصمتوا. لم… ولم… ولم… إلى ما لا نهاية من الثبات والعزيمة. فهل ما زلت تسأل من فاز ومن انتصر؟
6291
| 14 أكتوبر 2025
منذ صدور قانون التقاعد الجديد لسنة 2023، استبشر الموظفون والمتقاعدون في قطر بمرحلة جديدة من العدالة الاجتماعية والتقدير العملي لعطاءاتهم الطويلة. فقد نصت المادة (31) من القانون على أن الموظف الذي أكمل أكثر من ثلاثين سنة في الخدمة يستحق مكافأة عن السنوات الزائدة، وهو ما اعتُبر نقلة نوعية في التشريعات، ورسالة وفاء وعرفان من الدولة لأبنائها الذين أفنوا أعمارهم في خدمة مؤسساتها. غير أن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، إذ جاءت اللائحة التنفيذية لتضع قيداً لم يرد في النص الأصلي، حيث حصرت استحقاق مكافأة السنوات الزائدة فيمن تجاوزت خدمته الثلاثين سنة ابتداءً من عام 2023 فقط، متجاهلة بذلك آلاف المتقاعدين الذين أنهوا خدماتهم الطويلة قبل هذا التاريخ. هذا التفسير الضيّق أثار جدلاً واسعاً بين القانونيين والمتقاعدين، لأنه خالف صراحة روح المادة (31) وأفرغها من مضمونها العادل. النص التشريعي والغاية المقصودة: لا جدال في أن المشرّع حين أقر المادة (31) كان يبتغي تحقيق مبدأ المساواة والعدل بين كل من خدم الوطن أكثر من ثلاثين عاماً، دون التفريق بين من انتهت خدمته قبل أو بعد 2023. فالقانون قاعدة عامة مجردة، ومقاصده تتجاوز اللحظة الزمنية لتغطي جميع الحالات المماثلة. فإذا جاء النص واضحاً في تقرير الاستحقاق، فإن أي تفسير لاحق يجب أن يكون شارحاً ومكملاً، لا مقيّداً أو مفرغاً من المضمون. إن حصر المكافأة بفئة زمنية محددة يتنافى مع المبادئ العامة للتشريع، ويجعل القانون غير منصف في تطبيقه. فالذين تقاعدوا قبل 2023 قدّموا جهدهم وعرقهم طوال عقود، ومن غير المنطقي أن يُحرموا من حق أثبته النص لمجرد أن توقيت تقاعدهم سبق صدور القانون الجديد. أثر التمييز الزمني على المتقاعدين: إن استبعاد فئة كبيرة من المتقاعدين من حق المكافأة يخلق شعوراً بالغبن واللامساواة، ويؤدي إلى اهتزاز الثقة في العدالة التشريعية. هؤلاء المتقاعدون خدموا في الوزارات والهيئات والمؤسسات العامة، وأسهموا في بناء نهضة الدولة منذ بداياتها، وتحملوا ظروف العمل في فترات صعبة لم تكن فيها الامتيازات والرواتب كما هي اليوم. إن تجاهل هذه الفئة يرسل رسالة سلبية مفادها أن جهد العقود الطويلة يمكن أن يُطوى بجرة قلم، وأن التقدير مرهون بتاريخ تقاعد لا بعطاء حقيقي. وهذا يتناقض مع قيم الوفاء والعرفان التي اعتادت الدولة على إظهارها لأبنائها. الحديث عن مكافأة السنوات الزائدة ليس مجرد نقاش مالي أو قانوني، بل هو في جوهره قضية عدالة اجتماعية وكرامة إنسانية. فالمكافأة تمثل تقديراً رمزياً لمشوار طويل من الخدمة، وتساهم في تحسين أوضاع المتقاعدين الذين يواجهون أعباء الحياة المتزايدة بعد انتهاء عملهم. ومن هنا فإن إعادة النظر في تفسير المادة (31) ليس مجرد إجراء قانوني، بل هو استجابة طبيعية لقيم العدالة التي تميز نظامنا القانوني والإداري. الحق لا يسقط بالتقادم: ومن المهم التأكيد على أن الحق لا يسقط بالتقادم، خاصة إذا كان مرتبطاً بسنوات خدمة طويلة بذل فيها المواطن جهده وطاقته في سبيل وطنه. إن مكافأة السنوات الزائدة تظل حقاً أصيلاً لصاحبها، يحق له المطالبة به ولو بعد حين، ما دام القانون قد أقرّه صراحة في نصوصه. إن محاولة إسقاط هذا الحق بمرور الزمن أو تقييده بتاريخ صدور اللائحة التنفيذية أمر يتعارض مع المبادئ القانونية الراسخة ومع قواعد العدالة والإنصاف. المقارنة بتجارب خليجية سابقة: من المفيد أن نشير إلى أن دولاً خليجية أخرى اعتمدت أنظمة تقاعدية أكثر مرونة في هذا الجانب، حيث شملت مكافآت أو بدلات السنوات الزائدة جميع المتقاعدين دون تمييز زمني، إيماناً منها بأن العطاء لا يُقاس بتاريخ انتهاء الخدمة بل بعدد السنوات التي قضاها الموظف في خدمة وطنه. هذا يعكس أن المبدأ ليس غريباً أو صعب التطبيق، بل هو إجراء ممكن وواقعي أثبت نجاحه في بيئات مشابهة. المطلوب هو أن تشمل مكافأة السنوات الزائدة جميع من تجاوز ثلاثين عاماً خدمة، سواء تقاعد قبل 2023 أو بعده. فذلك هو التطبيق الأمثل لروح القانون، والتجسيد الحقيقي للعدل، والضمانة لردّ الاعتبار لمن حُرموا من حقهم رغم استحقاقهم. إن مكافأة السنوات الزائدة ليست ترفاً ولا منحة عابرة، بل هي استحقاق مشروع وواجب وطني في حق كل من خدم الدولة أكثر من ثلاثة عقود. تجاهل هذا الاستحقاق يفتح باب التمييز ويضعف الثقة في التشريع، بينما إنصاف المتقاعدين يرسخ مبادئ العدالة ويؤكد أن الدولة لا تنسى أبناءها الذين حملوا على عاتقهم مسؤولية البناء والتطوير. وليطمئن كل متقاعد أن عطاءه محفوظ في سجل الوفاء الوطني، وأن سنوات الخدمة الزائدة لن تضيع هدراً، بل ستُكافأ بالعدل والإنصاف.
3396
| 12 أكتوبر 2025